الشارع هو الملهم والواقع أقوى من كل الأفلام
وسط اندلاع ثورة 25 يناير، وحتى قبل التثبت من نجاحها، تنافس عدد من السينمائيين ومن الإعلاميين فى الحديث عن تنبؤهم بالثورة، وكان أعلاهم صوتا المخرج خالد يوسف، واعتبر أن هى فوضى”، فيلمه مع يوسف شاهين، أحد أدوات التحريض على الثورة. وعلى استحياء انضم آخرون، لهذه الادعاءات.
لماذا أعتبرها إدعاءات؟ أتذكر أن المخرج صلاح أبوسيف كان أستاذا لنا فى معهد السينما،وكان فى محاضرته يتحدث عن أفلامه، وكيف أنه ذكر شعارات ثورة يوليو قبل أن تعلنها الثورة، وكان سيد سعيد – وأتشرف بأنه كان زميل الدفعة التى تخرجت منها عام 1975 – يقاطعه ليقول إن هذه الشعارات كانت موجودة فى الشارع السياسى وكانت مطروحة فى المجتمع، وإن لا أحد يمكنه الادعاء بأنه أول من أطلقها أو أول من نادى بها. وبعد مرور ما يقرب من 40 عاما مازال الكثيرون لا يضعون الأمر فى مكانه الحقيقى، فالأفلام تعكس ما يموج فى المجتمع، وكثير من أفكارها تستمد من صفحات الصحف، وغالبيتها يعتمد على صفحات الحوادث الجنائية التى تحظى بنسبة قراءة عالية جدا، بحيث يمكننا القول إن الشارع هو الملهم لأفكار السينمائيين ومؤلفا فطريا لموضوعات أفلامهم.
والكثير من القصص الطريفة، أوالسخيفة، الكوميدية أوالمأساوية مستمدة من الشعب، يعيد الفنانون فقط إنتاجها على نحو يتطابق أحيانا مع الواقع فينتج عنه فيلم واقعى يعبر عما اعتاد الناس عليه، أو يتخذ منحى من كوميديا الهزل فيبالغ فى حشد المواقف والنكات اللفظية فتكون الإعادة محملة بتدخلات تشبه ما يخرج من جعبة أحد الحشاشين وقد أطلقت أدخنة المخدر أقصى روح فكهة لديه.
الاستناد للواقع أمر مرفوض من بعض الفنانين، وقد يعتبرونه سبة لا تليق بهم، ومنهم داوود عبد السيد الذى لا يسعده أن يقال عن أفلامه إنها واقعية حتى لو كانت جديدة. بينما يصر المؤلف هانى فوزى على واقعية أفلامه، ويرفض حتى اعتبار أن التكثيف السينمائى قد أحدث قدرا من المبالغة بها. فحين كان فيلمه مع أسامةفوزى “بحب السيما” يتعرض للهجوم بدعوى” لايعقل أن يحدث هذا فى الكنيسة..” كان أسامة يرد بأنه يحدثبل ويحدث ما هو أشد منه، مقاطعا لى وكنت أدير ندوة لفيلمه وحاولت الدفاع بتبرير أن للفن مبالغاته وأنه ليس بالضرورة مطابقا للواقع. وسواء كنا نتحدث عن إعادة إنتاج للواقع بنوع من التحفظ، أو بالإسراف فى المبالغة فإن الحقيقة تبقى ثابتة، أن العمل الفنى يستمد عناصره من البيئة التى يعبر عنها الفنان، عن مكان وزمن محددين.
وسط أحداث الثورة خرج المصريون على اختلاف مشاربهم للتعبير عما يجيش فى صدورهم، لم تكن الهتافات تخرج من الناشطين السياسيين، بل كان مبدعوها من البسطاء، نساء ورجال لديهم موهبة فطرية فى اختيار شعارات موزونة تحمل لحنا يعجب جماهير غفيرة فتقرر ترديده حتى قبل أن ينتهى قائله من وضعه، وجرت اسكتشات وكأنها أداء على مسرح شوارع مفتوح أظهر قدرا من المواهب، وقدرا آخر من السخف، كان بعضها يعيد مشهدا رآه فى فضائية ما، مثل مشهد رفع الحذاء على صورة الطاغية، وكالفن الهابط أيضا كنت أنفر منه كصورة فجة ليس بها إبداع متفرد. ومثلما كان الشارع ومن فيه ملهما للفنانين، فقد ألهم الشارع السياسى وجعله يشعر بأهمية تجميع قواه ليكون قادرا على تحقيق طموحات هذا الشعب.
حينما قدمت كاملة أبو ذكرى فيلمها واحد صفر” مع الكاتبة مريم نعوم،كانتا تعبران عما كان يجيش فى الشارع من طاقة موجهة لكرة القدم، كانتا تعبران عن رغبة سياسيةفي أن يتحول علم مصر من مباريات كرة قدم لكي يصبح راية نصر على الاستبداد. وفى الميدان الليلة التى سبقت التنحى كانت مريم نعوم مع ريم ماجد مع تامر محسن مع أسامة العبد مع نوارة مراد مع أحمد خالد مع نادين شمس وكثيرين من السينمائيين يهتفون بإحساس أن التغيير الذى حلموا به ودعوا إليه فى أفلامهم على وشك التحقق. لم أسمع واحدة منهن ولا واحدا منهم، يتحدثون عن أفلامهم التى تنبأت بالثورة. بل مازلت أجدهم مشاركين الحوار المجتمعى الدائر لقيام نظام مدنى جديد فى البلاد يمكنهم من تقديم أفلام محترمة تعبر عن نضال هذا الشعب وحلمه بالحرية.
وبعد الثورة كان دائما هناك السؤال: هل كنت بالميدان؟ والبعض يزايد على الآخرين، كنت موجودا من اللحظة الأولى، بل أنا مع كفاية منذ 2005 نهتف فى طلعت حرب: يسقط يسقط حسنى مبارك، وأنت أين كنت!
معارك المثقفين والصفوة انتقلت أيضا للشارع، ففى عيد العمال جاء شباب يحاولون التغطية على منصة تهتف باسم العمال، نحن شباب 25، ثورتنا ثورة شعبية، لا حزبية ولا فئوية” تساءلت من علمهم هذه اللفظ، هل يستمعون كثيرا لبيانات رئاسة الوزراء. هم أيضا من الشعب ولن أخرجه من الملهمين، بل هو ملهم لنا لنستطيع خلق شخصية شعبية تشعر بأنها منبوذة ولا أحد يطلب منها المشاركة.
قبل التنحى بعدة أيام، اقترب منى صحفى شاب وقال لى السينمائيون يطلقون نكتة، الثورة نجحت، مروان حامد فى الميدان. اطلقت النكتة ورددها الجميع. الآن مروان حامد مشارك فى فيلم ” 18 يوما” الذى سيعرض بمهرجان كان السينمائى الدولى القادم. لست مع الرافضين وأعتبر إن القول بأن هذا الفيلم يمثل مصر، أو هؤلاء يمثلون الفنانين المصريين به مبالغة، هم يمثلون جانبا من المصريين، ويمثلون جانبا من الفنانين، يعيدون إنتاج ما يحدث فى الشارع دون أن تكون لهم مواقف نضالية ثابتة، يعيدون مقولة سمعتها من محمد ملص ووصفت بها يسرى نصر الله فى عرض كبير له ولأعماله فى مطبوعة النقاد عالم السينما” تقول ” السينما هى الوطن” لمثل هؤلاء السينما وما يقدمونه بها، هو وطنهم الأول ومصر البيئة التى يعبرون بمفرداتها عنها من خلال وطنهم هذا.