السينما كنهج لدراسة الفلسفة

من فيلم "فارس الكؤوس" لتيرنس ماليك من فيلم "فارس الكؤوس" لتيرنس ماليك

هذه هي الحلقة الرابعة والأخيرة من دراسة قيس الزبيدي حول “الفلسفة والسينما”…

يُعرّف دولوز الصورة الذهنية، بأنها صورة تتخذ لها موضوعات فكرية، أي موضوعات لها وجود خاص خارج الفكر، صورة يتشكل موضوعها من اضافات، من أعمال رمزية ومن أحاسيس عقلية ويمكنها – لكن ليس بالضرورة – ان تقيم فكريا علاقة جديدة مباشرة مغايرة كليا مع الصور الأخرى. ويعتقد جازما بأن هيتشكوك أضافها في أفلامه وجعل من هذه الإضافة موضوعا لصورة، تتطلب طبيعتها علاقات خاصة، لا تختلط مع علاقات صور الحركة والزمن، لكنها تحول هذه الصور وتخترقها. 

في أفلام هيتشكوك ثمة فعل ما ان يجري تقديمه في الحاضر أو في المستقبل أو في الماضي، حتى يكون مرتبطاً كليا بمجموع من الإضافات، التي تغير موضوعه وطبيعته وغايته ويحصل إن ما يكتسب أهميته هنا ليس فاعل الفعل أي من فعل ذلك؟ وليسأل فشل الأساسي مجموع الإضافات التي يقع الفعل وفاعله بقبضتها. من هنا يأتي المعنى الخاص جدا للكادر ” الإطار”، فالتصميمات المسبقة لضبط الإطار وتحديد حدوده الدقيقة وحذف ما هو ظاهر خارجه. تجعل منه الدعامة التي تحمل سلسلة الإضافات بينما يشكل الفعل فقط الحبكة المتحركة، التي تمر من فوق ومن تحت وهو ما يدفع هيتشكوك على أن يعمل عادة من خلال لقطات قصيرة، ليكون مقدار اللقطات بمقدار ما يوجد من الكوادر وكل لقطة تكشف إضافة أو تبدلاً في الإضافة: المجرم الحقيقي يقوم بجريمته نيابة عن البريء، الذي شاء أم أبى، لم يعد بريئا، فالعلاقة أو الإضافة لا تكتفي بالإحاطة بالفعل، بل تخترقه مقدما ومن كل جهة وتحوله إلى عمل رمزي بالضرورة.

في تاريخ السينما لم يعد هيتشكوك كمؤلف يتصور انجاز فيلمه وفقا لحدين اثنين: المخرج والفيلم المراد تأليفه، إنما وفقا لحدود ثلاثة: المخرج والفيلم والجمهور، الذي يدخل إلى داخل الفيلم، ليكون أول من يتعرف على الإضافات.

من فيلم “دوار” لهيتشكوك

يجد دولوز أن هذا التحول مفاهيمي، يشكل أزمة في المستوى الأول لمفهوم صورة الفعل أي في تحول صورة / الحركة إلى – صورة / الزمن، وهو أمر نابع من السينما نفسها، أي ان هناك تحول من (صورة الفعل) إلى (صورة الحدث) . ويكون هذا التحوّل نابع من جماليات السينما ذاتها. وتحدّدت الأزمة في مستوى الصورة وتحديدا في مستوى الأنماط الجمالية الكلاسيكية للسينما، أي التحول من “الصورة / الفعل” إلى “الصورة الحدث”. وهو أمر، أفضى إلى تغيّر مفهوم الصورة ذاته في الإبداع السينمائي. ويعود إلى بدايات السينما وإلى المدارس المختلفة ويستشهد بأفلام لكبار المخرجين، ويؤكّد على التحوّلات التي شهدتها التقنية السينمائية من خلال أمثلة دقيقة وشواهد من تاريخ السينما.

ان نظام السينما مهما ثقلت عليه وطأة الكوابح والتحكم، هو الذي يجعل المؤلف يتصرف في وقت ما ويقترف ما لا يمكن الرجوع عنه، لإن ليس أمامه سوى فرصة لتخليص الصورة من كافة الأكليشيهات وللصمود في وجهها، شريط ان يتم ذلك من خلال خطة جمالية وتأليفية، يكون بمقدورها ان تشكل مشروعا إيجابيا

أسئلة عديدة يطرحها دولوز في خاتمة كتابه صورة – الحركة! لكن إذا ما أصبحت الصور أكليشيهات، فكيف نستخلص من كلها صورة صحيحة، صورة ذهنية مستقلة. وكيف ينبغي إخراج هذه الصورة، وبأي تعبير وبأي نتائج.

ماذا تعني صورة ليست أكليشيهية؟ وأين تنتهي وأين تبدأ الصورة الذهنية؟

وكما يبدو فإن الأفلام التي تقترب من موضوعات فلسفية تعطي الأولوية للكلام على حساب الصورة والسبب يعود إلى طبيعة الفيلم: كـ “صور متحركة ”  لا تتوافق مع اللغة الطبيعية،  باعتبارها “كلمات مجردة”.

من أين يأتي هذا ألـــ “لا توافق “؟

لنحاول أن نقارن بين الكلمة والصورة المتحركة، بالرجوع إلى كريستيان ميتز، الذي يجد أهم الفروقات بين الصورة ” اللقطة” وبين “الكلمة” كالتالي:

  • عدد الكلمات محدود في اللغة، بينما عدد اللقطات- الصور الممكنة لا نهائي.
  • يتم استعمل الكلمات من المعجم، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن المعاني في اللغة يتم ابتكارها من قبل المتكلم. بينما يتم ابتكار الصور من قبل من يتصورها.
  • أن المعلومات التي يستقبلها المتلقي من الصورة كبيرة بشكل غير محدد، بعكس المعلومات التي يسمعها أو يقرأها المتلقي من الكلمة.
  • الكلمة التي هي وحدة معنى معجمية، بينما اللقطة هي مقطع تعبير، لان فن السينما هو فن الحاضر، فالصورة “المتحركة ” هي حاضرة أمامنا، فصورة بيت لا تعني “بيت ” إنما يوجد “هنا بيت ” وذلك من واقعة راهنة، لأن البيت الذي نراه يكون بمثابة علامة – قرينة تشير إلى بيت مرئي، معالمه محسوسة وواضحة للعيان.

وبناء على ذلك لا يبقى أمام الوسيط السينمائي، إلا أن يعمل وفقا لقواعد أخرى غير لغوية. وهي المشكلة التي سبق لبازوليني أن عبر عنها في لقاء خاص: ان السينما لا تصلح لعرض فلسفي لان صورها واقعية حسية، بعكس ما يحتاج الموضوع الفلسفي إلى اللغة الطبيعية المجردة. على هذا يتم الاعتراض على كون الأفلام الروائية أن تتسم بالبحث فلسفيا عن الحقائق العامة مثل العدل والأخلاق والحقيقة وأن طبيعة السرد الفيلمي لا يمكن ان يجسد حقائق فلسفية عامة؟

من فيلم “الطيور” لهيتشكوك

لكن دولوز يرى إذا لم يكن للسؤال جواب مباشر، فذلك عائد بالتحديد إلى أن خصائص الصورة الحالية لا تشكل الصورة الذهنية المطلوبة، مع ان هذه الخصائص، تجعلها ممكنة. ومن هنا بالتحديد يمكن ان نقيم التشابه والاختلاف مع هيتشكوك، الذي أراد الجميع التوصل مثله إلى الصورة الذهنية، لكنه رأى في هذه الصورة نوعا من تتمة (إضافة) ينبغي لها ان تمتد وتكمل المنظومة التقليدية (إحساس / فعل إدراك)، بينما عبر رواد الموجة الجديدة في مثل هذه الصورة، عن حاجة تكفي لكسر المنظومة بأكملها ولقطع الإحساس عن امتداده الحركي وقطع الفعل عن الخيط، الذي يوحده مع الوضع وقطع العاطفة عن الالتحام أو عن الانتماء إلى الشخصيات: وهو أمر كان هيتشكوك يرفضه باستمرار.

يعرف تاريخ السينما أفلاما عديدة اقتربت من موضوعات/ مسائل فلسفية: لنأخذ إيزنشتين، الذي لم يكن تحت تصرفه لغة التعبير الطبيعية فلجأ في فترة الفيلم الصامت إلى اللغة اليابانية، بصورة خاصة، لشبه كتابتها بالرسوم الهيروغليفية وانصرفت جهوده في فيلم “اكتوبر”، إلى اكتشاف الكيفية التي يتمكن بها المونتاج من تحويل صور المواضيع الحسية إلى لغة المفاهيم المجردة. ونتيجة لذلك يرى ميتري أن محاولة ايزنشتين في صنع فيلم عن “رأس المال”، وهي محاولة لم تر النور، لو تحققت، لكان مصيرها الفشل.

مثال آخر هو فيلم إنغمار بيرغمان “الختم السابع” الذي تسنى لمخرجه أن يجد حلوله البصرية، لموضوعات فلسفية مثل الموت والشك والإيمان، وكان سعيداً بنجاح الفيلم لأنه أكثر أفلامه شعبية، كما انه حظي بإعجاب النقاد الذين وجدوه يعبر عن سينما فلسفية، غير أن بيرغمان عدّه فيلماً فاشلاً فنياً!

سبب الفشل الأساسي إن صح ألتعبير يعود إلى  سيناريو أدبي، لم يراع في بنيته الفيلمية،  لا كشف الدوافع الدرامية في صياغة عقدة الموت عند بطله، التي تظهر جاهزة، ولا نجح في إيجاد شكل مناسب لحكايته الدينية. فلا فكرة الموت الفلسفية ولا فكرة ربطها بحكاية دينية، استطاعت حلول تطورهما السردي أسلوبياً، أن تتجانس مع مشاهد الفيلم في تكوينات بصرية مُـعبرة، لأنها استندت على أداء حواري مسرحي طويل، يتعارض مع التعبير البصري عن مشاهد الفيلم الخيالية الحلميه .

من فيلم “فارس الكؤوس” لتيرنس مالك- 2015

هناك أيضا محاولة حديثة للمخرج تيرنس مالك الذي انهي دراسة الفلسفة في جامعة هارفارد وحاول أن يحصل على الدكتوراه حول الفيلسوف الألماني هايدغر وعمل في تدريس الفلسفة وفيلمه “فارس الكؤوس” يعتبره بعض النقاد فيلما فلسفيا. فهل الفيلم حقا هو فيلم فلسفي؟  لهذا يستند مارك في التعبير عن أفكاره الفلسفية باللغة –مونولوغ داخلي- وليس بالصور! وهذا ما دفعه بالاستعانة بصوت حواري مصدره البطل يرافق كمونولوغ داخلي- صوراً لا نهائية من بداية الفيلم إلى نهايته.

لكن منحى دولوز هو الوصول إلى صورة جديدة صورة – حدث بوسعها كالكلمة أن تفكر، وهو أمر – يجده- يخضع لشرطين:

  • أن نفترض أن الصورة ستكون مطالبة بتجاوز تأزيم الأنواع الثلاثة من صور- الحركة: صور الإدراك وصور الفعل وصور الإحساس: مع احتمال الكشف عن كليشيهات قي كل مكان 
  • ان ينم يتجاوز أزمة صورة – فعل لا قيمة لها وليس لها ان توجد على أي نحو توجد فيه، وهو ما يشكل الشرط السلبي لنشوء صورة جديدة مُفَكًرة، حتى وان تأتى على المر ان يبحث عنها فيما وراء الحركة..

ومع أن محاكمة مفاهيم تبدو من الأصعب أنْ تحاكم بمفاهيم فلسفية إلا إن دولوز ينتقل من الصورة إلى المفهوم ومن المفهوم إلى الصورة، لتركيب وحدة بينهما. ذلك إنه يجد المفهوم في ذاته داخل الصورة، والصورة ذاتها داخل المفهوم.

إن دراسة دولوز – كما يرى برونو الكالا – ليست مجرد دراسة عظيمة عن السينما فهي لا تمنحنا فقط مستوى جديدا للتفكير بل إنها فكر جمالي بالدرجة الأولى وسياسي وأخلاقي أيضا في سبيله إلى التحقق بمعنى أن تحقق الفلسفة هذه المرّة ولادة جديدة لها ضمن “الصورة-الحركة” بكل تحوّلاتها وأكثر من ذلك ستصبح السينما قرارا فلسفيا أصيلا، حيث أنّ مفاهيمه متأصّلة ضمن التفكير الفلسفي. (…) إنّ الحضور المكثّف للصورة في الواقع المعاصر أدّى إلى تحوّل هامّ في بنية الخطاب الفلسفي، حيث أنّ التفكير مطالب بأن ينتقل إلى الإنشغال بالمجالات الحيويّة التي تهمّ مجال الإبداع، وإنّ التفكير في الصورة الجمالية التي تنتجها الآلة السينمائية يمثّل اليوم مبحثا أساسيا في الفلسفة باعتبار أنّ الفيلسوف لا ينفكّ دوما يسعى إلى البحث في كل ما يحدث.

تؤدّي هذه الإعتبارات إلى تغيير معنى الحقيقة، بل وانهياره وإنزياحه إلى مجال الفن وسعي الفيلسوف الدؤوب للتفكير في واقعه وسعيه أيضا إلى تجديد خطابه من خلال إنفتاحه على مجالات أخرى حيويّة، كلّ ذلك دفع هذا البحث لمعاينة العلاقة بين الفيلسوف والسينما وما آلت إليه في تاريخ الفلسفة، أي كيفيّة تشخيص الفلسفة اليوم لولادة وتشكّل ضرب جديد من العلاقة – حسب د. سمير الزغبي- بين الفيلسوف والسينما.

المصادر

1. جيل دولوز. الصورة – الحركة. فلسفة الصورة. ترجمة:  حسن عودة . الفن السابع (17) المؤسسة العامة للسينما دمشق 1997

2.    جيل دولوز. الصورة- الزمن

Suhrkamp taschenbuch. Wissenschaft  Frankfort am  Main1997

3.    جيل دولوز سياسات الرغبة تحرير د. أحمد عبد الحليم عطية الفكر المعاصر. دار الفارابي بيروت 2011 أنظر:

•      جيل دولوز وفلسفة السينما الزمن والفكر برونو الكالا – ترجمة كاميليا صبحي

•      دولوز والسينما أو الفيلسوف وظله سمير الزغبي

4.    بدر الدين مصطفى أحمد. الفلسفة والسينما: تحليل نقدي لبعض المقاربات الفلسفية للسينما. نزوي. العدد السابع والستون 24/08/2011       

5.    محمد نور الدين أفاية: “السينما باعتبارها عقلانية. فلسفيًا”، تبيُن. دورية محكمة تعنى بالدراسات الفكرية والثقافية.  العدد الخامس. تموز/ يوليو2013

د. سمير الزغبي. لحظة البدء: تفكير الفلسفة في السينما الحوار المتمدن-العدد: 4663 –  15/12/ 2014

7.    أ.د. بدر الدين مصطفى أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة . هل يمكن تأسيس نقد فلسفي للأفلام؟ مجلة فكر الثقافية نشر بتاريخ: 11.05. 2017

8.    دليل روتيلدج للسينما والفلسفة. تحرير: بيزلي ليفينجستون وكارل بلاتينيا ترجمة وتقديم أحمد يوسف

•      توماس إي وارتنينبيرج . السينما باعتبارها فلسفة

•      رونالد بوج. جيل دولوز

9.    موقع جمعية الأوان: من أجل ثقافة علمانية عقلانية. عبد العزيز بومسهولي.  الفلسفة والسينما والعوالم الممكنة.  مداخلة في مؤتمر عيد الفلاسفة الذي نظمته جمعية أصدقاء الفلسفة بفاس، يومي 4-5 ماي 2018 بفاس.

10.  Lexikon Der Filmbegriffe. Prof. Dr. Hans Jürgen Wulff. Herausgeber, wissenschaftliche Leitung

11.  Annette Kuhn and Guy Wesrwell . Dictionary of Film Studies. Oxford University press  2012

12.  James Monako . Film Verstehen. Rowohlt Taschenbuch Verlag GmbH Hamburg 2013 

Visited 7 times, 1 visit(s) today