السينما المصرية وأغوار النفس البشرية: قراءة فلسفية لفيلم “سر طاقية الإخفاء”

تدور أحداث فيلم “سر طاقية الاخفاء” اخراج نيازي مصطفى (1959) حول الشيخ قمر الدين (محمد عبد القدوس) الذي يعمل عطارًا وقرأ كثيرًا في كتب السحر القديمة والمخطوطات وكتب الكيمياء وأقام معملًا في منزله لتحويل التراب إلى ذهب ما أثار استياء زوجته وابنه الصغير فصيح (أحمد فرحات)، واستطاع العطار استقطاب ابنه الأكبر عصفور (عبد المنعم إبراهيم) للعمل معه بمعمله في محاولة لإسعاد البشرية، بعد أن تمّ طرده من عمله في مهنة الصحافة.

المحطّة الأولى للفيلم تتجلّى من خلال تنمّر أمين بائع الذهب (توفيق الدقن) على عصفور واستغلال طيبته وإذلاله أمام أهل الحي الشعبي حيث يقيمون؛ كون الأخير مرتبطًا عاطفيًّا بآمال (زهرة العلا) زميلته في الصحافة وابنة خالة أمين.

 تتوالى أحداث الفيلم لتُسافر آمال في مُهمّة صحفيّة إلى لبنان تتعرّض خلالها الطائرة لعاصفة ولم تصل خلال موعدها لينتشر خبر موت آمال ما أدى بعصفور إلى الرغبة في الانتحار، وخلال مُحاولاته البائسة يعبث أخاه الأصغر فصيح بمحتويات المعمل ما أدّى لحدوث عدة انفجارات مُتتالية نتج عنها خروج عفريت احترق نتيجة حالة إغماء أصابت فصيح من هول الموقف وتحوّل إلى رماد يُخفي أيّ شيء يُلامسه، ويكتشف عصفور سرّ الطاقية بعد أن أفسدت الانفجارات المُتتالية مُحاولة انتحاره.

   هنا، يضعنا صُنّاع الفيلم أمام السؤال الخطير: هل امتلاك الإنسان الضعيف المُسالم لقوة خارقة (مثل طاقية الإخفاء) ستحوّله لوحش خارق يسرق وينهب ويقتل، أم أنّه سيستخدمها لإحقاق الحقّ وإنصاف المظلومين؟

 لم يُخيّب عصفور أملنا، فقد تمكّن من مُقابلة مستر نوجات (جورج بورانيدس) ملك الشكولاتة وأجرى معه سبقًا صحفيًّا رفع من قُدرة الجريدة التي كان يعمل بها، كما أرشد الشرطة عن عصابة لتزييف النقود، وفضح خطط زعماء السوق السوداء، وأرشد عن سارقي آثار منطقة تلّ العمارنة، ليتمّ تعينه كرئيس لتحرير الجريدة وتتبدّل حياته وينتشي المجد بعد خطبته آمال.

أمّا أمين فقد تمكّن بعد غيظ شديد ـ بسبب المكانة التي وصلها عصفور وخطبته لآمال ـ من معرفة سرّ تلك النجاحات، ليُقرّر مع عشيقته لولا الراقصة (برلنتي عبد الحميد) سرقة الطاقية، والفتنة بين عصفور وآمال لإفشال الخطبة بعد تصويره عاريًا في أحضان لولا الراقصة لتبدأ بذلك المحطّة الثانية للفيلم والمرتبطة بالسؤال السابق.

يزداد تنمّر أمين على أهل منطقته بعد استحواذه على الطاقية، ويبدأ في تحقيق أحلامه غير الأخلاقية المنشودة، كسرقة محال المجوهرات لترتفع بذلك أسهم أمين لدى آمال التي وافقت على خطبتها منه بعد انفصالها عن عصفور، ولدى عشيقته لولا الراقصة وشريكته في مسعاه الجديد.

 وفي المُقابل تنحدر إسهامات عصفور الصحفية ويتراخى عن عمله بعد فقدان الطاقية ويتمّ رفده من عمله ليُخبره بعدها فصيح بتفاصيل واقعة السرقة ويذهب عصفور للراقصة لاسترداد حقّه المسروق بعد أن هدّدت أمين بفضح السّر إن لم يتزوّجها ليدخل أمين ويسمع حوارهما فيعتمر الطاقية ويقتل لولا ويُتّهم عصفور بالجريمة الذي ذكر للشرطة قصّة الطاقية فأودعوه مشفى الأمراض العقليّة.

هنا يضعنا صُنّاع الفيلم أمام سؤال آخر: مَن تُساند: الحبيب السابق والمُتّهم بالقتل وهو بريء، أم الخطيب الثريّ ابن الخالة القاتل اللص؟ لتأتي آمال بما تحمله من طيبة ووداعة وتُنصفنا من خلال مُساندتها لعصفور بعدما علمت بجرائم أمين، ويستطيع فصيح صُنع طاقية أخرى تمكّن بواسطتها عصفور الهرب من المشفى وإجبار أمين على الاعتراف بكافة جرائمه أمام الشرطة، ليقوم الضابط بعدها بإحراق الطاقية.

   تعود آمال وعصفور وفصيح إلى الحي وينتهي الفيلم بدخول أم عصفور معمل زوجها في محاولةٍ منها لتحضير بورنيطة (طاقية) الإخفاء ليؤكد لنا بذلك صُنّاع الفيلم استمرار الحلم.

لقد تألّمنا لآلام عصفور وانتشينا بنجاحاته وأفراحه، وعشنا معه لذّة الاختفاء عن الأنظار والانتقال من حالة الوجود إلى اللاوجود وتعلّمنا منه درسًا أخلاقيًّا، وقد أجابنا عصفور في نهاية الفيلم عن سؤال فلسفي هام: هل خلاص الفرد رهن بقيام ضرب من الرفاهية المادية وإن جاءت بطريقة لا أخلاقية؟ ليبقى سؤالنا: لماذا نستدعي الفيلم الآن؟

حديثًا ذهب مانوفيتش إلى أنّ الأفلام أدوات تخدم هدفين هما: الكذب، والتمثيل. وبتقديمها بهذا الشكل، تتوافق السينما على نحوٍ مثاليّ مع التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ، بينما نعتقد أنّ السينما ليست فقط وسيطًا يتعلّق بالمُؤثِّرات الخاصة في المقام الأول، كما أنّ الأفلام التي يهتمّ بها بعضنا أكبر اهتمام، ويعتبرونها محوريّة لمشروع السينما كلّه، لها مَهمّة أخرى مُختلفة تمامًا عن الكذب أو الإثارة؛ تهدف للاكتشاف والالتقاء والمُواجهة والإفشاء.. وعليه، فلا ينبغي أن يكون هدفها النهائي هو أن تعني بقدر ما تكشف.

تمّ طرح السؤال التالي على موقع (فيس بوك)؛ لاستطلاع الرأي: ما الذي ستفعله لو أصبحت غير مرئيّ لمدة أربع وعشرين ساعة؟

جاءت إجمالي التعليقات (53) تعليقًا، منها (3) تعليقات تهدف المُتابعة فقط، ما يعني أنّ التعليقات التي يُمكن تحليلها هي (50) تعليقًا فقط، وذلك بواقع (33) تعليقًا للذكور، بما نسبته 66%، و (17) تعليقًا للإناث، بما نسبته 34%، ويُمكن عرض النتائج كما يلي.

– أغلب التعليقات تصبّ في اتجاه الأفعال غير الأخلاقية بما نسبته 74% (26% تحفّظ، و 18% سرقة المصارف، ومحلات الذهب، وسرقة المحلات العامة، و 12% قتل رؤساء وملوك عرب، ورؤساء غربيين، والمجرمين الفاسدين’، و 6% تمنّي، و 12% سفر، أو استخراج جواز سفر أوروبيّ).

– بعض التعليقات تُعبّر عن الحيرة والتأرجح بين الأخلاقية بما نسبته 12% من المجموع الكلّي (6% لن يفعلوا شيئًا، و 4% الخلود إلى النوم، و 2% عن حيرتهم إذا تحقّق الأمر فعلًا).

– حضور الجانب العاطفي لدي المُتفاعلين خاصةً الإناث (4% الانتقام من الرجال الخونة، و 2% التشهير بالآخرين مِمَّن يستحقُّون ذلك، و 2% مُراقبة الآخرين وحديثهم عنهنّ، و 4% زيارة أحبّتهم السابقين).

لقد ذهب دادلي أندرو (ما هي السينما! من منظور أندريه بازان، ت/ زياد إبراهيم، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2017) إلى أنّ السينما الحقيقية مهما يكن مظهرها أو زمنها، لها علاقة بما هو حقيقي، ومن قبله أكّد أندريه بازان على أنّ الفيلم يضعنا في تواصل مع الواقع من خلال ما تراه أعيننا مُركّزًا على الشاشة، ولكن أيُّ واقع هذا في فيلم سرّ طاقية الإخفاء ـ والذي تمّ تصنيفه بضرب من الخيال الكوميدي؟!

إن الطاقية موجودة في زمننا بوفرة: كم من شخص اعتمرها فأفرغ خزانة المؤسسة التي تحت يديه وتوارى خارج الوطن، وموظفون اعتمروها فكفتهم عناء العمل فلُقِّبُوا بالأشباح، وآخرون وضعوها على رؤوس أموالهم فتوارت عن الضرائب.

وها هو العالم الافتراضي: الدخول بأسماءٍ مُستعارة وإطلاق العنان للنفس بالشتائم وتصيّد الإناث والولوج للمواقع الإباحية.. إثارة الفتن وترويج الشائعات والأكاذيب والخرفات.. الهاكر (الحسابات والبيانات والصور الشخصية) وما نجم عنه من أضرار.

وها هو العلم المُعاصر يطلُّ علينا بعدّة محاولات لإخفاء الأجسام، من أبرزها السيطرة على أشعة الضوء واستخدامهالتغيير مظاهر الأجسام لتصبح غير مرئية عن طريق تشتت أشعة الضوء الساقط على الجسم.وتعتمد تلك الخدعة على التلاعب في سرعة الضوء، وبالتالي تغيير معامل انكسار للجسم وللضوء الذي يمرّ من خلاله. وعن طريق تلك التقنية، يمكن للص اقتحام أي مكان، حتى لو كان مُزوّدًا بكاميرات فيديو لتأمينه، ما يضعنا أمام تحدِّيات أخلاقية حقيقية.


* باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر

Visited 89 times, 1 visit(s) today