السينما المستقلة في مصر: نهاية المصطلح وبداية التيار

خالد أبو النجا خالد أبو النجا

“الفيلم المستقل هو فيلم طازج منخفض التكاليف له أسلوبه الفني الخاص وموضوعاته التي لا تهتم بالنجاح الجماهيري بقدر ما تهتم بالتعبير عن الرؤية الخاصة بصانع الفيلم”

ايمانويل ليفي- “سينما المهمشين : صعود الفيلم الامريكي المستقل”

 “السينما المستقلة سينما ينتجها الأفراد على حسابهم الخاص او عبر بعض المؤسسات المعنية وهي سينما مصورة بكاميرات الديجيتال ودون هدف الربح للتعبير برؤية شخصية أو رأي خاص عبر تجربة ابداعية حرة تماما ومستقلة لا ينال من حريتها او استقلالها اي عامل خارج التجربةالأبداعية ذاتها…ويكون المخرج الذي يصنع أفلاما مستقلة مسيطرا تقريبا على كافة عناصر عمله الفني كالسيناريو والتصوير و المونتاج فيما يقترب من مفهوم سينما المؤلف…أنها سينما تتعارض في أغلب افلامها مع تقاليد العملية السينمائية السائدة سواء عبر الأفكار المهيمنة او طريقة تقديم هذه الأفكار من خلال الخيارات الجمالية الخاصة او مدة عرض الفيلم وطرق العرض بما يهدم سواء على مستوى الوعي او الاوعي الكثير من ثوابت السينما السائدة”

محمد ممدوح- “ديموقراطية الوسيط”

الاقتباسان السابقان ليسا فقط محاولة لتعريف مصطلح “السينما المستقلة”، صحيح ان كلاهما ينتمي لمرجعين هامين الاول هو  ادق كتاب عن نشأة المصطلح في امريكا من واقع خروجه عن نمط الإنتاج السائد الذي تتحكم فيه الاستديوهات الكبيرة، والثاني اهم دراسة انجزت عن المصطلح في مصر خلال العشر سنوات الأخيرة لناقد ومخرج شاب اخلص في محاولة فتح الباب أمام تأصيل المصطلح وتحليله.

لم يكن “ديموقراطية الوسيط” مجرد بحث قيم اصدرته شركة سمات- احد العلامات الاولى على طريق التيار المستقل خلال العقد الأخير- عام 2007 ولكننا يمكن اعتباره خطا فاصلا بين مرحلتين من مراحل التعامل مع المصطلح وما يمثله لأنه باختصار حاول ان يضع حدا موضعيا للجدل الدائر حول المعنى المباشر للسينما المستقلة– انذاك- واستخلاص كل العناصر الأيجابية من التجارب التي ادعت او انتمت او شكلت ملامح ظهور المصطلح في مصر خلال الخمس عشرة سنة الماضية تقريبا، اي أنه حاول أن يتجاوز شكل المصطلح إلى مضمونه الشامل.

وفي حقيقة الأمر فأن اغلب التيارات السينمائية الجادة التي شكلت مراحل تطور او نمو او احدثت تغييرات جذرية في الفكر والأسلوب والصيغ السينمائية المختلفة في العالم هي التي تجاوزت الجدل حول الشكل إلى المضمون والهدف من ورائه.

ولكن على ضوء الخطوات الواسعة والحركة الانتاجية المتسارعة منذ عام 2009 والتي افرزت العديد من التجارب “المستقلة” التي سريعا ما انضمت تحت مظلة المصطلح وبدأت في تكوين تراكم فيلمي بشكل متلاحق يمكن أن نعيد النظر في عدد من السياقات التي ظن المهتمون على تحليل الظاهرة وتوصيف المصطلح أنها حاسمة او نهائية.

فعلي سبيل المثال نجد أنه حتى تاريخ صدور الكتاب 2007 كانت التجارب التي يطلق عليها مستقلة تنحصر في قوائم من الأفلام الروائية القصيرة وعدد اكبر من الأفلام الوثائقية باستثناء افلام”حبة سكر” لحاتم فريد 1998-16 مم وهو الذي يشار له بأنه اول فيلم روائي مستقل- بالمفهوم الزمني الحديث-يعرض في دار عرض تجارية”رنيسانس”، وفيلم “ايثاكي”اول افلام ابراهيم البطوط 2006 – ديجيتال- والذي اعتبر ارهاصته الأولى التي شكلت بعد ذلك ملامح مشروعه المستقل الذي انطلق بشكل اكثر وضوحا ونضجا وأكتمالا مع فيلم”عين شمس”2008.

ولكن التراكم الفيلمي والمعرفي خلال السنوات الأخيرة جعلنا نعيد النظر في تلك الاستنتاجات على اساس من الانفتاح الوجداني والذهني على التجارب التي خلقت من هذا المصطلح تيارا سينمائيا حقيقيا وليس مجرد ظاهرة سارع البعض بدراستها او نقدها على اعتبار انها إلى زوال.

ملامح

محمد خان

ما بين عام 2001 و2004 اقدم المخرج محمد خان أحد رواد جيل الواقعية الجديدة في السينما المصرية على خوض تجربة “مستقلة”تماما على مستوى الشكل والمضمون مستغلا الخيارات المتاحة عبر مغامرة انتاجية بدت مغايرة وشيقة وجريئة في ذلك الوقت.

لازلنا نذكره في حفل تخرج طلاب دفعة 2001 من معهد السينما-بالمسرح الصغير بالأوبرا- والتي ضمت اسماء كثيرة سوف تغرق بعد سنوات قليلة من هذا التاريخ كل رؤوس مواهبها في مستنقع السينما التجارية مشاركة في دفق الماء فوق مزيد من التراب كي يتكاثف الوحل.

يومها قدم خان تصريحا بدا غريبا وجريئا لكنه بعد اعوام قليلة صار مفهوما وواضحا حين قال )أحب افكر ولادنا المخرجين الجداد أن فيه حاجه اسمها الديجيتال) بالمناسبة كانت الدفعة تضم نادين أبنة خان أحد ابرز وجوه التيار المستقل حاليا بتجربتها المتوهجة “هرج ومرج”.

عكست هذه الجملة حجم التطور الروحي والفكري الذي ظل خصبا في دماء هذا الجيل متمثلا في خان، والذي لم يكتف بأطلاق شعار او يفتح صدره لمزايدات نظرية بل قدم بعدها بسنوات قليلة فيلمه “كليفتي”الذي يمكن اعتباره بحق ومع كامل احترامنا لتجارب من سبقوه-من جيل الشباب- أول فيلم مستقل ناضج شكلا ومضمونا.

ولكن ماذا يعني فيلم مستقل في هذا التوقيت تحديدا؟

يعني أن تكون السينما السائدة منذ عام 1997 مع انطلاق موجة افلام الكوميديا بداية من “اسماعيلية رايح جاي”، ثم”صعيدي في الجامعة الأمريكية” 1998، ثم “الناظر” 2000، وصولا إلى مرحلة “اللمبي”2001  التي شكلت ذروة جديدة من ذرى السائد الذي ينحدر بشدة وبلا عقل سعيا وراء سطوة الأيرادات والاجور الفلكية ان تكون هذه السينما هي السينما التي تنتج أو يتم توزيعها من قبل شركات الأنتاج والتوزيع الكبرى التي استطاعت أن تستغل قانون الأستثمار رقم 8 لسنة 97- بمنح اعفاءات ضريبية للشركات التي يتجاوز رأس مالها 10 مليون جنية- لصالح أن تفرض احتكار واضح لطبيعية الأنتاج السينمائي ماديا وفنيا سعيا وراء مصالح تجارية بحتة بغض النظر عن المستوى الفني أو اي أهداف ثقافية خائبة من وجهة نظرهم كالأرتقاء بذائقة الجمهور او المساهمة في الوعي الوجداني أو تقديم تجارب تضع السينما المصرية على قائمة المهرجانات الكبرى استمرار لتاريخها الطويل كأحد اقدم الصناعات السينمائية في العالم.

ان تصنع فيلما مستقلا في ذلك الوقت يعني أن تتخلى تماما عن فكرة وجود نجم بالمفهوم التجاري يمكن أن يستقطب شرائح الجمهور التي اصبحت تذهب إلى السينما فقط كي تشاهده مستغلا ذلك في التهام الجزء الاكبر من ميزانية الفيلم ومن خلال اطار درامي يطلق عليه “فيلم من الجلدة للجلدة” اي بطولته المطلقة تقلا يعني أن تقدم على مغامرة أنتاجية بالتكاليف المتاحة عبر الأنتاج الخاص أو الدفعات المؤجلة أو انتظار البيع للمحطات الفضائية وذلك من خلال الأستغناء عن اكثر العناصر المكلفة في العملية الانتاجية بداية من الخام السينمائي بلوازمه من كاميرات وطاقم تصوير ضخم وتحميض وطبع وخلافه وتلجأ إلى وسيط اقل كلفة وأكثر اتساقا مع حميمية التجربة على مستواها الدرامي والبصري وبذلك تكون قد تجنبت أثنبن من اكثر عناصر السينما التجارية تهديدا للأبداع (النجم والخام).

أن تصنع فيلما مستقلا يعني أن تتخلص من سيطرة المنتج والموزع الذي يريد ان يتدخل في كل تفصيلة تخص المقامات الوجدانية للعملية السينمائية سواء على مستوى الكتابة أو المونتاج أو الأخراج او التصوير، أن تكون التجربة في النهاية اشبه بما كتبه يوما روبير بريسون “أن تجعل الكاميرا ترى الفيلم كما تراه أنت في عقلك”.

أن تصنع فيلما مستقلا يعني أن تراهن على شرائح من الجمهور لديها ذائقة مختلفة ترفض السائد وتقاطع ثقافة القطيع فيما يخص المشاهدة، على أمل أن تتسع تلك الشرائح بالتدريج كلما شعرت أن هناك ما تمتلئ به على المستوى الفكري والنفسي كلما ظهرت تجربة مستقلة جديدة على الطريق.

قد تبدو تلك الأجابات شكلانية على مستوى ما لكنها في حقيقة الأمر مصدر مهم من مصادر اتساق الشكل المستقل مع المضمون، ولننظر إلى التجارب التي انجزت خلال العشر سنوات الماضية كي ندرك مغزى هذه الملامح.

اولا: الممثل

في تجارب “كليفتي” لمحمد خان و”عين شمس” للبطوط وهي من وائل التجارب المستقلة يغيب تماما مفهوم البطل النجم سواء على مستوى الشكل أو الدراما، في فيلم خان البطل هنا (لا بطل) درامي – قدمه باسم سمرة ضمن اوائل افلامه – يحاول أن يجتاز ازمات اجتماعية ونفسية طاحنة بحكم الوضع السياسي والانساني للمجتمع، وفي عين شمس البطل هو السرطان الذي يدب في الكيان المادي والنفسي للواقع متخذا من جسد الطفلة الصغيرة شمس التي تنظر من خلال زجاج السيارة المسرطن إلى وسط البلد دلالة شعرية وسياسية تكثف هموم المصريين مع واقعهم الملوث على كل المستويات.

فيما بعد وخلال تجارب”بصرة” لاحمد رشوان وبطولة باسم سمرة ايضا و”ميكروفون” لأحمد عبد الله من بطولة خالد ابو النجا سوف يصبح تجنب نجوم الصف الاول بالمفهوم التجاري هو أحد ملامح التيار المستقل بل أن تجربة أبو النجا تحديدا كأحد نجوم الصف الثاني فيما يخص تصنيف الأيرادات والأجور تعتبر أحد ملامح هذا التيار على مستوى انغماسه أنتاجيا في سياق التجربة المستقلة متخلصا من فكرة الأملاء والتدخل وفرض سطوته كصاحب قاعدة جماهيرية على السياق العام للفيلم والقبول ببطولة جماعية وخطوط درامية متفرعة لا تتمحور حول شخصيته في الفيلم دائما.

وسوف تشجع هذه التجارب على خوض مخرجين أمثال هالة لطفى في تجربة “الخروج للنهار” ونادين خان في”هرج ومرج” على الأستعانة بوجوه غير معروفة ولا نقل جديدة مثل دينا ماهر وسلمى النجار ومحمد فراج واسامة أبو العطا ليصبح الرهان على اكتمال التجربة ونضجها نابع من كون الممثل يتم اختياره لمطابقة الشخصية وليست الشخصية هي التي يتم تحديدها بناء على ملامح الممثل شكلا أو مضمونا.

يقول بريسون في فقه اختيار الممثل المناسب للدور أن الامر أشبه بأن تبحث عن موديل واقعي لشخصيتك الدرامية وكأنك تقول لممثليك/ موديلاتك: انني اخترعكم كما انتم، وهو بالطبع ما يعتبر منتهى الأستقلالية في انتقاء الممثلين بعيدا عن معايير السوق وآلياته وفظاظته في الاختيار.

وربما يمكن لتجربة “عشم” للمخرجة ماجي مرجان أن تشكل احد ملامح الاستقلال في اختيار الموديلات/ الممثلين كما عرفهم بريسون من خلال دراما بانورامية تتقاطع شخوصها التي يأتي معظم ممثلي ادوارهم ليسوا فقط غير معروفين بل وبلا خبرة تمثيلية سابقة وذلك بمجرد شعور المخرجة أنهم يطابقون الشخصيات التي رسمتها على الورق قبل التصوير.

ثانيا: الوسيط

هو أحد اهم العناصر التي شكلت التحول من مرحلة المصطلح إلى مرحلة التيار فيما يخص التجارب المستقلة، كانت البداية مع فيلم “المدينة” ليسرى نصر الله عام 99 حيث قام بتصوير الفيلم عبر وسيط الديجيتال بعد أن خاض تجربة وثائقية قبلها بسنوات في نوع اقرب للدكيو دراماوهي”صبيان وبنات”95 من خلال نفس الوسيط.

من فيلم “كليفتي”

مثلت تجربة يسري في اعتمادها على الديجيتال كوسيط بصري ارهاصة مبكرة بالتيار المستقل رغم قدومها انتاجيا من شركة افلام مصر العالمية ليوسف شاهين وبداية للتخلي عن نجوم المرحلة والأعتماد على وجوه جديدة في السياق الزمني(باسم سمرة وبسمة وأحمد عزمي ومحمد نجاتي) وبالتالي تخفيض الميزانية من ناحية والتعرف على البدائل البصرية التي يوفرها الوسيط وكيفية توظيفها خلال السياق الدرامي والحالة اللونية والنفسية للفيلم بأكمله.

 فيما بعد سوف يقدم محمد خان على استخدام نفس الوسيط في فيلمه “كليفتي” مجربا امكانيات الكاميرا وقتها فيما يخص حرية الحركة والتصوير في الأضاءة الطبيعية واتخاذ زوايا مبتكرة من الصعب تنفيذها بكاميرا السينما إلا مع وجود تجهيزات كاملة للديكور والأضاءة بالأضافة إلى سهولة الحركة التي ساعدت على بث روح من عدم الأستقرار النفسي والأنساني الذي عكس ازمة بطل الفيلم، اي تجاوز الوسيط مع خان تحديدا ومن بعده مع البطوط في “عين شمس” مجرد كونه وسيلة لتخفيف الأحمال الأنتاجية إلى سياق شكلي وبصري هام لديه وظائف درامية وسينمائية أكثر مما يتصور صناع الأفلام أنفسهم.

ومع التطور التقني الذي شهده الوسيط خلال سنوات العقد الأول من الألفية ظهرت على ساحة التصوير كاميرا “الريد” والتي سريعا ما استطاعت أن تمنح لصناع الأفلام المستقلة امكانيات جمالية براقة على كل مستويات الصورة بداية من النصاعة اللونية ومدى الأستجابة لتوظيف النور والظل  في التصوير الخارجي والزاويا الضيقة والتصور الحركي العام للكادر وذلك من خلال تكاليف يمكن السيطرة عليها عبر ميزانية الفيلم بالأَضافة إلى سهولة النقل والطبع والتحويل إلى وسائل العرض الحديثة مثل الدي سي بي”DCP” الديجتال سينما باكيدج او حتى ال35 مم.

وسوف يشكل الوسيط مرحلة أخرى هامة من مراحل تكوين التيار ففي خلال السنوات الأربع الأخيرة قدمت كل انتاجات السينما المستقلة من خلاله بل وصلت التجارب إلى أن اصبح من الصعب تصور الفيلم دون التقنية لأنها صارت جزء من خشونة الصورة الدرامية وطبيعة الحالة الوجدانية المقدمة مثلما طالعتنا تجارب”فرش وغطا” لأحمد عبد الله و”الخروج للنهار”لهالة لطفي فتعامل الوسيط مع الضوء وامكانيات الكاميرا في الولوج إلى اضيق الأزقة والحجرات والأماكن المظلمة والمظللة والتصوير الليلي خاصة في المشاهد الخارجية اصبحت تطبيقا للقاعدة التي تقول أن شكل الفيلم بصريا هو مضمونه الفكري والبصري وليست القصة أو الأحداث والتفاصيل.

ثالثا: البناء الدرامي

 السينما عمل فردي تتخلله ومضان جماعية وصناعة الأفلام من منطلق كون السينما مؤسسة تقدم خدمات ثقافية هي حاصل ضرب الفن في التجارة، ولكن السوق لا يعترف بتلك المعادلة، والسائد والمحتكر يريد تركيبة مضمونة تظل تدر عليه الربح حتى تفنى فيبحث عن تركيبة جديدة ويظل يعتصرها حتى أخر جنية ، فعندما استهلكت تركيبة الصعيدي ظهرت شخصية اللمبي وحين اصبحت مسخا منعدم الطرافة جاء اتش دبور في حين ظل نموذج فيلم مافيا سائدا لسنوات قبل أن يحل محله افلام مغامرات البلطجية وسكان العشوائيات عقب ثورة يناير.

“الجمهور ضعيف أفرض عليه أنت ارادتك وشهواتك الفنية” هذه أحد الملاحظات الاهم لروبير بريسون فيما يخص مقاومة التيارات السائدة والسير عكس القطيع الذي يمضي للهاوية.

ولنتصور حال السينما المصرية خلال السنوات العشر الاخيرة لو أن كل انتاجاتها انحصرت في الأفلام الكوميدية التافهة ذات البطل الواحد اوالأكشن المقلد أوالميلودرما الجنسية وتركيبة البلطجي والراقصة وأغاني المهرجانات، لقد تجاوز مفهوم الأستقلال السينمائي على مستوى التيار الذي تشكل في السنوات الأخيرة فكرة الميزانية المنخفضة أو الحصول على دعم مالي من الدولة أو المؤسسات الثقافية الغربية والمهرجانات العربية بالأضافة إلى التخلص من عنصر النجم، تجاوز التيار كل هذه الشكليات التي بلورته واتخذ بعدا أعمق يتمثل في طبيعة الموضوعات وأساليب السرد والهموم الدرامية والقضايا المطروحة والأشكاليات الوجدانية.

وعلى سبيل المثال فأن فيلم من نوعية “الألماني” تأليف وإخراج علاء الشريف الذي قُدم من خلال ميزانية منخفضة واعتمادا على ممثل شاب لم يكن قد وصل بعدها لمصاف نجوم الأيرادات وهو محمد رمضان أو أفلام مثل بوسي كات لنفس المخرج أو البار لمازن الجبلي أو متعب وشادية لأحمد شاهين أو البرنسيسة لوائل عبد القادر يمكن اعتبارها أفلام مستقلة لأنها قدمت بميزانيات منخفضة وبعضها مصور عبر وسيط الديجيتال لأنها ببساطة لم تستقل فكريا ولا وجدانيا عن السياق السائد بل هي مجرد محاولات ربحية بحتة كل الغرض منها تحقيق بعض المكاسب المادية او تسجيل أعمال في قائمة السيرة الذاتية لممثليها المغمورين الذي يحاول أغلبهم دخول الوسط الفيلمي عبر تقليد نموذج البطل الشعبي المغوار الذي يقفز ويضرب ويطلق الرصاص أو الراقصة العاهرة المثيرة في اغلب الأدوار النسائية.

ان الأستقلال لم يتحقق فقط بالشكل الأنتاجي وإلا اصبحت أفلام المقاولات في ثمانينيات القرن الماضي هي الارهاصات الاولى للتيار المستقل، وإنما هو استقلال فكري واسلوبي قبل أن يكون استقلال مادي.

يتحرر السينمائي المستقل من كل اشكال السرد إلا الشكل الذي يناسب فيلمه كما في “عين شمس” و”عشم” و”هرج ومرج” و”ميكروفون” فتارة تبدو الأحداث بعيدا عن فكرة الحبكة التقليدية ذات البداية والوسط والنهاية، أي بلا حبكة، وتارة يصبح الفيلم عبارة عن مجموعة من القصص التي لا تلتقي شخصياتها رغم أنها تعيش في مدينة واحدة دلالة على الفردية والعزلة وتباين النفسيات ولكن يجمعها فكرة معنوية كالعشم، وتارة يتحول البطل إلى نموذج تعبيري يجسد افكار الأغاني التي تأتي من الموسيقى البديلة وفرق الأندر جروند والتي تقابل التيار السينمائي المستقل ولكن في مجال الغناء والموسيقى.

وفي خارج التيار المستقل من كان سيتقبل أن تقدم مخرجة كنادين خان فيلما كهرج ومرج يدور داخل واقع مواز للواقع الحياتي بكل تجلياته وتفاصيله دون أن تزعن إلى تركيبة أفلام العشوائيات والبلطجية والعلاقات المحرمة.

ثمة ايضا حضور قوي لعنصر الأرتجال القائم على دراسة التفاصيل والشخصية ثم التعايش معها والتحدث بلسانها دون أن يكون هناك حوارمنصوص عليه كما في تجارب ميكروفون لأحمد عبد الله وحاوي لأبراهيم البطوط وعشم لماجي مرجان وسواء كان الأرتجال ميزة سردية وتشخيصية أم مجرد حلية شكلانية فأنه يظل أحد ابرز عناصر الاسلوب في العديد من التجارب المستقلة والتي تمنح نفسها بنفسها حرية التجريب والتعدد في الأساليب.

من فيلم “عين شمس” لابراهيم البطوط

وفي مقابل اللغة السوقية والأعتماد على الألفاظ ذات المعنيين والايحاءات الجنسية في سينما التركيبة استطاعت التجارب المستقلة أن تحقق النظرية التي تقول “ان الفيلم هو بناء علاقة بالنظرات” فالحوار في التجارب المستقلة يستقى تفاصيله من محاولة ابراز مدى طبيعية الشخصيات وواقعيتها، الكثير منه مرتجل والأخر يحاكي دون أن يبتذل نفسه أو يتحول إلى سلة مهملات تحوي اكلاشيهيات لغوية وافيهات تافهة ورديئة، اغلب التجارب المستقلة تعتبر الحوار عنصر مكمل وليس اساسي ومن هنا يسهل ارتجاله لأنه ليس عضوي في بناء الدراما والسرد، يعتمد صناع الأفلام المستقلة على أن يحتوي شكل الفيلم على مضامينه وتتحول فكرته الأساسية إلى بناء متكامل مثل”الخروج للنهار” فالمشاهد الطويلة والجمل المتبورة ونظرات العيون واللقطات الثابتة هي التي تعكس حالة الجمود والرتابة والثقل والصمت في انتظار الموت الذي تعاني منه تلك الأسرة الصغيرة لأن وفاة الأب المقعد بمرض عضال يعني خروج الام والابنة إلى النهار المعنوي.

كذلك فإن اغلب التجارب المستقلة التي تشكل حاليا ملامح التيار الوليد تتعامل بحرية مطلقة مع الزمن كوسيلة سرد وايقاع وبناء بيئي واجتماعي وسياسي لمضمون العمل، فعلى سبيل المثال قدم أحمد عبد الله في ميكروفون تنويعة على عنصر تفتيت الزمن من خلال خطين زمنين اساسيين احدهم يسير بشكل معكوس ومكثف وهو الخط الخاص بلقاء خالد ومنة والأخر يسير إلى الأمام بشكل طبيعي تتوالى فيه الأيام وتتراكم التفاصيل، في مقابل تجربة اليوم الواحد لدى هالة لطفي في الخروج للنهار والتي تمثل جزء من تيمة الفيلم حول انتظار الموت للخروج إلى الحياة.

وفي فيلمها هرج ومرج تقدم نادين خان زمنا دائريا كجزء من البناء الدرامي للفيلم الذي تقع احداثه داخل مجتمع مغلق كدائرة بلا زاوية واحدة تحدد ملامحها حيث يختلط الموت والحياة وكما يبدأ الأسبوع الذي تدور فيه الاحداث بجنازة ينتهي بجنازة وكأنه يمر إلى الخلف وليس إلى لأمام.

وفي”عشم” تحافظ ماجي مرجان على سياق زمني منفصل لكل قصة من القصص الست وكأن كل شخصية تدور في فلك زمنها الخاص فبعض الأحداث داخل القصص يستغرق أكثر من اسبوع بينما في قصص اخرى يبدو الزمن أقل واكثر كثافة مثل الأيام التي قضاها الزوج في انتظار نتيجة التحاليل متعشما في الله والحياة أن يبقى وسط اسرته الصغيرة، بينما يبدو الزمن الخاص بشخصية عشم نفسها التي تنتقل من مهنة لمهنة اطول بكثير من تلك الأيام القليلة التي عاشها الزوج.

خلال السنوات الأربعة الأخيرة استطاع تيار السينما المستقلة أن

يحتل المكانة الابرز على مستوى التمثيل الدولي للسينما المصرية في اغلب المهرجانات الأوربية والعربية على حد سواء واصبحت اغلب الجوائز التي تحصل عليها السينما المصرية هي جوائز تمنح للتجارب المستقلة بناء على مستواها الفني وتفاصيلها الوجدانية وحساسيتها السينمائية المتوهجة، بل تعتبر أغلب التجارب المستقلة التي انجزت في سنوات ما بعد الثورة اكثر تعبيرا عن المجتمع المصري قبل وبعد الثورة من كل التجارب التي تعاملت مع الحدث بشكل مباشر وأدعت أنها تحلله وتقيمه بينما هي فقط تريد ركوب الموجة بتركيبة جديدة تضمن اقبال الشرائح التي تعاني من الأمية السينمائية.

إن خروج التجارب المستقلة من دائرة المصطلح الضيق الذي ينحصر في التجارب القصيرة  والتسجيلية إلى الأفق الرحب للحالة الروائية الطويلة هو-على حد تعبيير الشاعر اللبناني عباس بيضون- اشبه بعملية نقل دم “لمريض هو الأمل”.

Visited 72 times, 1 visit(s) today