السفير: مهرجان الأفلام الممنوعة لا علاقة له بالسينما وحرية التعبير!
تحت عنوان “أيها السياسيون والإعلاميون ارفعوا أيديكم عن السينما” كتب الناقد السينمائي نديم جرجورة في صحيفة “السفير” اللبنانية ينتقد بشدة مهرجانا أقيم مؤخرا في بيروت باسم “مهرجان الأفلام الممنوعة” يصفه بأنه أقيم لأغراض لا علاقة لها بالسينما وحرية القول والتعبير.
هنا نص المقال المهم الذي يسلط الأضواء على ظاهرة تتكرر في العالم العربي:
شيء أسوأ من الرقابة الأمنية على المصنّفات الفنية، سوى سلوك عاملين في المجالين الثقافي والفني، ممن يدافعون عن الحريات والديموقراطية في مناسبات عابرة، بادّعاء ملحوظ. لا شيء أسوأ من الصمت على أفعال الرقابة الأمنية، المحصّنة بقانون قديم وبمصالح سياسية وطائفية/ دينية واجتماعية، إلاّ الصمت على أفعال مدّعي ثقافة وفنون، ومدّعي نضال من أجل حرية القول والتعبير، وهو نضال مفرَّغ من أي حيوية فاعلة في المجتمع، لأنه آنيّ، ينبثق فجأة في المشهد العام، لمواكبة حدث راهن مرتبط بهذهالحرية. هكذا يُمكن التعليق على الحركة الإعلامية والاستعراض العشوائي اللذين أنتجهما “مهرجان الأفلام الممنوعة”، المُقام في إحدى صالات المجمّع السينمائي اللبناني “أبراج” في فرن الشبّاك، بين الثاني والعشرين والسادس والعشرين من حزيران الجاري: استغلال (مرفوض) للنتاج السينمائي، بصرف النظر عن القيمة الفنية الإبداعية والسويتين الجمالية والدرامية لهذا النتاج، من أجل تظاهرة مفضوحة أُريد منها دفاعاًعن حريات عامّة، فإذا بهذا الدفاع يبدو منقوصاً ومرتجلاً ومتصنّعاً. استعراض إعلاميمسطّح للقول إن المُستعرِض مدافع دائم عن الحريات تلك، وهذا كلّه عن طريق الفن السابع، بل عن طريق أفلام اختارت مواضيع حسّاسة ومهمّة وعميقة في قلب التاريخ والتطوّرات الاجتماعية والإنسانية والفكرية، لكن غالبيتها (الأفلام) ظلّت خارج الإبداع.
ضرب عشوائي
أميل إلى القول إن مهرجان الأفلام الممنوعة نُظّم لأغراض لا علاقة لها بالسينما وحرية القول والتعبير. بل أكاد أقول إنه نُظِّم لضربهاتين السينما وحرية القول والتعبير، عن طريق إثارة جهاز رقابة أمنية لم تتغيّرقواعد عمله مع تبدّل الغطاء السياسي الحاكم. هنا، تبرز مفارقة مثيرة للضحك: سياسيون وإعلاميون ومثقفون منتمون إلى ما لا يزال يُسمَّى “قوى الرابع عشر من آذارانتبهوا الآن إلى التضييق هذا على حرية القول والتعبير، فاغتنموا فرصة منع فيلميناثنين من أصل خمسة أفلام مختارة لعرضها في المهرجان المذكور، لشنّ حملة سياسية فاقعة بسطحيتها وسذاجتها ضد حكومة اللون الواحد، التي أنشأها الرئيس نجيب ميقاتي. تُرى، ما الذي كان يُمكن أن يحدث، لو أُعيدت تسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة هذه، ومُنعت الأفلام من العرض في مهرجان يُفترض به أن يكون ثقافياً؟ هل كان سينعم لبنان بمزيد من الحريات في ظلّ حكومة حريرية جديدة؟ هل كان الإبداع، أصلاً، محمّياً ومحصّناً من أفعال الرقابة الأمنية، في زمن سلطة هذه القوى؟ هل نسي المعنيون بالعملين الثقافي والفني فداحة تشكيل لجنة رقابية موازية لـ”جهاز الرقابة” التابع لـ”المديرية العامّة للأمن العام”، الذي تحقّق بأمر من الرئيس السابق للحكومة اللبنانية، بعيداً عن وزارة الثقافة؟ المقصد من هذا كلّه واضح تماماً: يجب على السياسيين وأتباعهم الإعلاميين والمثقفين رفع أيديهم عن الثقافة والفن، وعن الإبداع عامّة. يجب عليهم عدم استغلال الإبداعين الثقافي والفني في معاركهم السياسية الساذجة. يجب عليهم عدم الاستمرار في ادّعاء التزامهم الباهت قضايا الفكر والحريات العامّة، لأنهم مفضوحون جداً أمام اللبنانيين المنفضّين عن قبائلهم الضيّقة وصراعاتها المسطّحة.
في السياسة أيضاً: بدا الأمر مثيراً للدهشة. أكاد أقول للضحك المرير. سياسيون أصدروا بيانات إدانة ضد منع الفيلمين الوثائقيين “الأيام الخضراء” للإيرانية هانا مخملباف و”شو صار” للّبناني ديغول عيد (بل ضد منع الفيلم الأول تحديداً). أولاً، المنع الرقابيّ الأمني طال الفيلم الأول، بينما القضاء (قاضي الأمور المستعجلة) أوقف عرض الفيلم الثاني (يطمح ناشطون حقيقيون من أجل الحريات لتضمين قانون جديد وعصريّ للرقابة مادة تتيح اللجوء إلى القضاء لحسم المسائل، بدلاً من إبقاء الفنون والنتاج الثقافي في أيدي أمنيين، يُنفّذون المصالح السياسية والطائفية). وهؤلاء منتمون إلى “قوى الرابع عشر من آذار”، التي لم تعرف الثقافة والفنون، في زمن حكمها، حرية حقيقية وفعّالة للقول والتعبير. والفيلمان هذان “مناهضان “لـ”المعسكر اللبناني الآخر”، إذا صحّ التعبير: فالفيلم الإيراني التقط نبض الشارع الإيراني، إثر النهضة الشعبية الإيرانية ضد نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، التي ثبّتت محمود أحمدي نجّاد في منصبه رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية لدورة ثانية في العام 2009. والفيلم اللبناني استعاد حقبة دموية وبغيضة من حقبات الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال سيرة عائلة المخرج التي قُتلت غالبية أبنائها على أيدي عناصر تابعة لميليشيا “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، كما جاء في الفيلم.
ملاحظات
إذاً، بالنسبة إلى سياسيي “قوى الرابع عشر من آذار”، هذه فرصة جيّدة للانقضاض على حكومة اللون الواحد، التي افتتحت عهدها بالوقوع في فخّ هذه القوى، من خلال “إجازتها” منع الفيلم الإيراني، الذي لم يُمنع سابقاً، بل تعرّض لتمنّي جهاز الرقابة الأمنية (زمن حكومة سعد الحريري) بتأجيل عرضه. ومن خلال قرار قضائي منع الفيلم اللبناني، الذي تُطارده قرارات المنعالرقابي منذ زمن سلطة الحريري الابن وفريقه السياسي، بإضافة قرار قضائي هذه المرّة(أجازت اللجنة الرقابية الحريرية يومها عرض الفيلم المذكور في أطر ثقافية وفنية ضيّقة. وهذا قد يكون أسوأ من المنع الرقابي الأمني). لهذا كلّه، يجب على السياسيين وأتباعهم الإعلاميين والمثقفين رفع أيديهم عن السينما، وعن الفنون والنتاجات الثقافية. يجب عليهم عدم التدخّل بأمور يُساهمون، بتجاهلهم الدائم شؤونها وشجونها وحاجاتها، في تدميرها. يجب عليهم ألاّ يجعلوها “كبش فداء” في معارك ضيّقة خاصّة بهم. إذا أرادوا، صدقاً، حريات عامّة حقيقية، فعليهم السعي إلى إقرار قوانين عصرية، تُحرِّر النصّ الثقافي من هيمنتهم وسطوة طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم السياسية.
ملاحظة أخيرة في الإطار هذا: إذا أراد سياسي ما أن يُطلق تصريحاً أو يُصدر بياناً، فليتفضّل بتضمينهما معلومات صحيحة. ذلك أن الرئيس فؤاد السنيورة أخطأ، في بيان صادر عن مكتبه بخصوص المسألة هذه، عندما ذكر أن “الأيام الخضراء “مُنع من العرض في “أيام بيروت السينمائية”. رجاءً، تأكّدوا من المعلومة قبل نشرها.
غيرأن السياسيين هؤلاء ليسوا الوحيدين في قلب المعركة، المفرَّغة من أي ركائز ثابتة وواضحة. هناك ما هو أسوأ: في الحلقة التلفزيونية الخاصّة ببرنامج “سيرة وانفتح”، الذي يُقدِّمه زافين قيومجيان على شاشة المحطّة اللبنانية “المستقبل”، مورست رقابة من نوع آخر بحقّ الفيلم اللبناني الممنوع “شو صار”. في تلك الحلقة المرتجلة مساء الاثنين الفائت، استضاف قيومجيان كوليت نوفل، مديرة مهرجان بيروت الدولي للسينما ومنظِّمة مهرجان الأفلام الممنوعة، والزميل بيار أبي صعب. لن أحلِّل مضمون الحلقة. لن أدخل في تفاصيل ما قيل، شكلاً ومضموناً. لكن، أن يبثّ البرنامج مقاطع من”شو صار” لا علاقة لها إطلاقاً بالمضمون الحقيقي والفعلي والمثير للجدل والمنع، فهذا أمر معيبٌ للغاية. أن يتغاضى البرنامج عن أجزاء أساسية سبّبت منعاً رقابياً أمنياً أولاً، وقراراً قضائياً ثانياً (يُمكن عرض مقتطفات أكثر ارتباطاً بالحكاية الأصلية للفيلم، من دون الإساءة إلى أحد)، فهذا يعني أموراً عدّة، قد تتلاقى معاً، أو قد يكون أحدها سبباً للوقوع في هذا الفخّ الفاضح: جهل معدّي الحلقة بالفيلم ومضمونه. عدم مشاهدتهم إياه. ارتجال متسرّع لحلقة منقوصة. ادّعاء إعلاميّ بمناهضة الرقابة والممنوعات. تبرير إعلامي لتيار سياسي ساهم في تفعيل الرقابات المتفرّقة في أمور شتّى، وفي مراحل زمنية مختلفة. ادّعاء ديموقراطية مزيّفة، باستضافة زميل منتم إلى الفريق الخصم لإضفاء شرعية ما على انفتاح المحطة وتيارها السياسي.
هذه ملاحظات عامّة حول حدث أثار جدلاً بعيداً عن السينما. أثار مزيداً من التعرية الفاضحة لسياسيين وإعلاميين ومثقفين.