السرد الدائري والسرد المزدوج و”النظر في الاتجاهين”

من فيلم "أنظر في الاتجاهين" من فيلم "أنظر في الاتجاهين"

د. ماهر عبد المحسن

تعجبني الأفلام التي تعتمد في تقديم قصتها على طرق مبتكرة في السرد، خلافا للسرد التقليدي الذي يمضي في اتجاه واحد، ويأخذ شكل البداية والوسط والنهاية.

وقد عرفت السينما، عبر تاريخها، محاولات عديدة للخروج من هذا الحيز الضيق لسرد الأحداث، لعل أبرزها وأقدمها، هو أسلوب “الفلاش باك” الذي يبدأ فيه السرد من النهاية، أو من الوسط ثم يعود إلى البداية، وأحيانا تمضي الأحداث بين الماضي والحاضر، جيئة وذهابا، بحيث يلقي الماضي أضواء كاشفة على أحداث الحاضر، ويُستخدم هذا الأسلوب غالبا في الأفلام البوليسية والنفسية التي تتسم بالغموض والإثارة وتحتاج أحداثها إلى تفسير.

من فيلم ملاكي اسكندرية

 وأذكر في هذا السياق فيلم “ملاكي إسكندرية” لسندرا نشأت عام ٢٠٠٥ التي مارست فيه لعبة إخراجية ذكية قامت على تخدير المتفرج طوال العمل ثم إيقاظ وعيه فجأة في الدقائق الأخيرة ليكتشف عن طريق الفلاش باك أنه، مع بطل الفيلم (أحمد عز)، كان ضحية خدعة كبيرة تسبب اكتشافها في تغيير نهاية الفيلم.  

كما يعتبر فيلم “خيانة مشروعة” الذي أخرجه خالد يوسف عام ٢٠٠٦ من أكثر الأفلام التي استفاد مخرجها من هذه التقنية بشكل جيد بحيث نجح في تحقيق درجة عالية من التشويق عن طريق هدم القناعات التي كان يبنيها المتفرج وفق الأحداث الحاضرة بالرجوع إلي تفاصيل ماضية يعيد من خلالها بناء المشاهد إلى أن ينتهي الأمر إلى نتائج مغايرة تماما عما استقر في وعي المتفرج.

ومن طرق السرد غير التقليدية، السرد الدائري المستمد من أسطورة سيزيف، فليس هناك بداية ونهاية محددين، وإنما أحداث متكررة، ربما تشعر المتفرج بالدوار، لكنها لا تأتي مجانية، لأنها في كل مرة تضيف إلى الأحداث من التفاصيل ما يسهم في تحقيق كشف جديد، ما من شأنه أن يدفع بدوره الأحداث في مسارات جديدة، وهكذا.

وأمثلة هذا النمط من السرد كثيرة، منها فيلم “ألف مبروك” الذي أخرجه أحمد نادر جلال عام ٢٠٠٩، وفيلم “مثلث” traingle الذي أخرجه وكتب له القصة كريستوفر سميث عام 2009.

ويرتبط السرد الدائري بالأفكار الفلسفية بنحو أكثر، لأنه خلافا لأسلوب الفلاش باك، لا يقتصر على تقديم معلومات جديدة للمتفرج تضاف إلى قناعاته الحاضرة، وإنما يطرح تساؤلات فلسفية من خلال مواقف غير تقليدية تتعلق بموقف الإنسان من العالم وترتيب الأحداث في الزمان.

وعلى نفس النهج يأتي السرد المزدوج أو المتوازي، الذي يُعنى بقضية الجبر والاختيار، ويحاول أن يقدم الإجابة عن التساؤل القديم، الجديد في الآن نفسه، وهو: إلى أي مدى يمكن أن يتحكم الإنسان بمصيره؟ وإلى أي مدي يمكن للقدر أن يحرف المسار بحيث تمضي الحياة على غير ما يرغب أو يريد الإنسان؟

من فيلم “الفرح”

يعتمد السرد في هذه الحالة على طرح الاحتمالين في وقت واحد، بحيث تمضي الأحداث في خطين متوازيين، لا يفضل أحدهما الآخر، فقط يعكس لنا السرد تفاصيل الحياة والمصير الذي ينتظر الشخصيات في نهاية كل طريق. وقد شاهدنا هذا اللون من السرد في نهاية فيلم “الفرح” لسامح عبد العزيز عام ٢٠٠٩ بحيث صار للفيلم نهايتان، واحدة تراجيدية مأساوية والأخرى تصالحية، مرضية لجميع الشخصيات، غير أن الفكرة تبدت بوضوح أكثر في فيلم ” الأبواب المنزلقة” Sliding Doors الذي أخرجه وكتب له القصة بيتر هويت عام ١٩٩٨م، والفيلم يحكي بالتناوب قصتين تمضيان في مسارين مختلفين، وتتوقفان على واقعة ركوب الشخصية المحورية للقطار من عدمه، ففي إحدى الحالات لا تستطيع البطلة اللحاق بالقطار، وفي الأخرى تنجح في اللحاق به.

والتيمة نفسها يمكن أن نعثر عليها في فيلم “طريق باتجاهين” Look Both Ways، الذي أخرجه وانوري كاهيو، وكتب له القصة أبريل بروسر، وعُرض على منصة نتفليكس في ١٧ أغسطس الماضي. تدور القصة حول نتالي بينيت (ليلي لينهارت) التي تجري اختبارا للحمل عشية تخرجها من جامعة تكساس، وتنقسم حياتها إلى واقعين متوازيين وفقا لنتيجة اختبار الحمل.

من فيلم الأبواب المنزلقة

في الحالة الأولى يكون الاختبار إيجابيا، فتقرر العودة للعيش مع والديها لتربية مولودتها المنتظرة، متخلية عن طموحها المهني في مجال الرسوم المتحركة، وفي الحالة الأخرى تسافر مع صديقتها كارا (عائشة دي) إلى لوس أنجلوس للعمل في شركة للرسوم المتحركة لتحقيق طموحها.

 لا يمكننا اعتبار قضية نتالي تخصها وحدها بل تخص كل إنسان يقع في مفترق طريق، كما لا يمكننا أن نعتبر الفيلم مجرد دعوة لمناهضة عمليات الإجهاض في المجتمع الأمريكي كما ذهب بعض النقاد الغربيين، ولكنه على العكس فيلم عن المستقبل والحياة عموما، والبعد الفلسفي واضح جدا في الفكرة وفي الحبكة المغلفة بروح المرح والرومانسية. فالفيلم يقدم رسالته بنعومة بحيث لا يشعر المشاهد بخشونة العقدة أو بمأساوية المواقف المبطنة بالتراجيديا، نلحظ ذلك في أكثر من مشهد، عندما رفضت مديرة الشركة لوسي جلواي (نيا لونج) رسوم نتالي لأنها، من وجهة نظرها، مجرد صدى لأعمال أخرى مشهورة وأنها بذلك تفتقد إلى اللمسة الخاصة بها، وعندما اكتشفت أن حياتها بعد الولادة سوف تنحصر في مشروع الأمومة، والشيء نفسه تحقق على المستوى العاطفي في كلا العالمين المتوازيين عندما تخلى عنها صديقها جيك (ديفيد كورينسويت) في العالم المهني وسافر لتحقيق طموحه الشخصي كمخرج للأفلام، وعندما تخلى عنها جابي(داني راميريز)، والد الطفلة، في عالم الأمومة وارتبط بفتاة أخرى.

ساعد على تحقيق الجو العام المبهج للفيلم أداء الممثلين الذي جاء بسيطا وسلسا خاصة لدى ليلي لينهارت ذات الوجه الضاحك المعبر، وغلبة الحيوية وروح المرح على معظم الشخصيات خاصة لدى الصديقة والوالدين والطفلة الوليدة في مراحل نشأتها الأولى.

من فيلم طريق باتجاهين

أهم ما يميز الفيلم أنه لا ينتصر لطريقة حياة دون أخرى، فكلا الطريقين يؤديان إلى النتيجة نفسها حيث تنجح نتالي في تحقيق طموحها المهني في الرسوم المتحركة في كلا العالمين بالرغم من اختلاف المقدمات، غير أن المسألة الجديرة بالتأمل أنها حققت حلمها في أحد العالمين عن طريق المثابرة والتعلم حتي نجحت في الوصول إلى بصمتها الخاصة ومن ثم ترشيحها للمشاركة في أحد المهرجانات الفنية المهمة، وحققت الحلم نفسه، بعرض أول فيلم قصير لها، في العالم الآخر مستلهمة رسوماتها من تجربتها الخاصة كأم، حيث بنت تصميمها على شخصية طفلتها الصغيرة، ذلك الكائن الليلي الذي أطلقت عليه اسم “البومة الليلية” وكانت مثارا للإعجاب من قبل الجميع.

إن الفيلم بهذا المعنى، لا يكون مناهضا لعمليات إجهاض الأجنة فحسب، لكن إجهاض الحياة برمتها عندما يقف ضد إجهاض الاحلام والطموحات. فالدرس العميق الذي يقدمه الفيلم أن ليس للنجاح طريق واحد، وإنما طريقان على الأقل، أحدهما نرسمه في مخيلتنا بأنفسنا والآخر ترسمه الاقدار، وما علينا إلا أن نمتلك القدرة على الرؤية المزدوجة بحيث نستطيع أن نعدل من نموذج اختيارنا إذا عاندته الأقدار ووجدنا أنفسنا واقعين في شرك نموذج آخر لم نسع إلى الدخول فيه.

وهنا يحق لنا أن نقول إن الترجمة الأنسب لاسم الفيلم هى “النظر في الاتجاهين” وليس “طريق باتجاهين” كما جاء على منصة نتفليكس.

Visited 25 times, 1 visit(s) today