“الحُرَّاس الخالدون”.. مُستنقع أفكار

"الحراس الخالدون" وهل هم خالدون؟ "الحراس الخالدون" وهل هم خالدون؟

يتساءل البعض عن كيف يحمل الفيلم السينمائيّ الأفكار إلى عقول مُشاهديه في حالة الأفلام الجادة وذات الدراميَّة العالية لا يستوجب هذا السؤال جُهدًا في الإجابة عنه أو إعطاء أمثلة. لكنَّ الأمر يحتاج لتوضيح وضرب أمثلة في الأفلام كُلَّما بدا ظاهرُها أنَّها سطحيَّة تجاريَّة وحسب، بل بعيدة كلَّ البُعد عن الجدّ وإدراك الأهداف. إنَّ سوء هذه الأفلام أنَّنا نظنّ أنَّها لا تحمل لنا شيئًا فنشاهدها بتقبُّل لكنَّها في حقيقة الأمر تحمل الكثير ممَّا تسرِّبه لنا شيئًا فشيئًا وصولاً إلى إعطائنا الجرعة الكاملة.

فيلم “الحرس القديم” الذي طرحتْه شبكة “نتفلكس” منذ أيام وتصدَّر المشاهدة فيها، وأعطتْه ترجمة “الحُرَّاس الخالدون” مثال بارز للغاية وفرصة جيِّدة لنتأمل جميعًا كيف تتسرَّب لنا الأفكار من خلال الوسيط الفيلميّ -الترفيهيّ منه خاصةً- دون أن ندري، وبكل أريحيَّة.

يدور الفيلم الذي أخرجته “جينا برينث” في إطار خياليّ عن أربعة من المحاربين هُم: آندي، بوكر، جو، نيكي. كونهم محاربين هو شيء عاديّ، لكنَّ غير العاديّ أنَّهم خالدون كما وصفوا أنفسهم في الفيلم كثيرًا. والأصحّ أنْ يقال إنهم ذوو أعمار طويلة أو بالغة الطول؛ وسرّ هذا هو قدرة أجسادهم على الاستشفاء من أيَّة جروح أو إصابات مهما كانت بالغة. لكنْ يأتي عليهم وقت تتدهور فيهم هذه الخاصيَّة ويكونون قابلين للموت كالبقيَّة. ويكمن سرّ ضعفهم في أنْ يحبسوا ليعيشوا خالدين في قُمقُم كما الجنيّ الذي يُحبس في زجاجة أو مصباح في القصص القديمة.

هؤلاء المحاربون وقائدتهم “نيكي” (تشارليز ثيرون) ظلوا يحاربون مع الخير طوال مئات السنين. والآن تجمَّعوا في دولة “المغرب” للقاء أحد عملاء الحكومة الأمريكيَّة الذي يبلغهم بضرورة تحرير أطفال مدرسة مُختطفين في “السودان”. ورغم إحساس القائدة بعدم جدوى ما يفعلونه على سير الشرّ في العالم وتعاظُمه تضطرّ لقبول المهمة بعد رؤيتها لصورة الأطفال. ويكتشف الجميع أنَّ الأمر خدعة لتصوير قدرتهم لأحد أكبر شركات تطوير الدواء، التي تحاول بدورها الانقضاض على تجارب البحث هذه كفرصة عُمر لن تتكرر. وتتعقد الأجواء مُصاحبةً لعِلمهم أنَّ هناك شابة سمراء البشرة مُجنَّدة في الجيش الأمريكيّ “نايل” تمتلك الهبة نفسها. فماذا سيحدث في الصراع بين جميع الأطراف؟

هذا هو إطار الأحداث الذي خلقه الفيلم في تصنيف إثارة وحركة. وكل هذا لا يمثل مشكلة ففي النظرة الأولى قد يبدو فيلمًا عاديًّا جدًّا كالفيلم الذي طرحتْه الشركة نفسها ” Extraction ” (الإجلاء أو عمليَّة الإجلاء) قبل شهرين فكلاهما من التصنيف ذاته وكلاهما فيلم تجاريّ وكلاهما فيلم قد يضعه بعض عاشقي السينما الحقيقيَّة تحت تصنيف “تافه”، ويضعون عليه ختم “مُهمَل”. لكنْ هناك فارق بين الفيلمين أنَّ فيلم الإجلاء فيلم بالغ التميز الفنيّ وبالمقارنة بينهما لا يعد “الحرَّاس الخالدون” فيلمًا أصلاً، أو على تقدير مُتلطِّف به مجرد فيلم. بالرغم من أنَّ كليهما قد تأثَّر بفيلم “جون ويك”. وعلى صعيد المعاني والقِيَم لمْ يقدم “الإجلاء” نفسه إلا على أنَّه فيلم مغامرة وحركة وحسب، لمْ يدَّعِ شيئًا ولا طلب منك شيئًا -باستثناء ترسيخ قِيَم العُنف. أمَّا فيلمنا هذا فقد رسَّخ الكثير من المعاني والقِيَم وأودعها عقول المُشاهدين.

وقبل عرض عينة من معاني الفيلم أنوِّه إلى أنَّ الفيلم مُنهار داخليًّا وبه الكثير من الفجوات. وباختصار يُسمَّى ما وقع فيه الفيلم بنائيًّا بـ “تداعي المنطق الداخليّ للعمل الفنيّ”. فلكُلِّ عمل فنيّ منطق هو يصنعه بمُجرَّد البدء فيه ونسج خيوطه، والأهمّ من بعض العيوب الأقلّ قدحًا في العمل هو ألا يقع في المشكلة العُظمى وهي انهدام منطق العمل وتناقضه. بالقطع الفيلم خياليّ وهو نفسه قد أسَّس لقوانين الخيال لكنَّه قد ترك فراغات عظمى جعلتْ البناء منهارًا.

أهمها أنَّه لمْ يضع قواعد أصلاً لبنائه فعندما قدَّم فكرة شخوصه لمْ يُبرِّرها ليكمل عمله -حتى شكليًّا- بل اكتفى فقط بأنهم هكذا! مما سمح له بعد ذلك -ولأهداف تخدم قصته- بتغيير فكرة الخلود إلى العُمر الطويل، ولا أحد يعرف أيضًا لماذا ينتهي عُمرهم، كما لمْ يعرف أحد لماذا هُم هكذا. وهذا ليس تجنِّيًا على الفيلم لأنَّه يتصل هذا بأحد الأفكار في الفيلم وهو إنكار الإله. وهذه الشابة المُجنَّدة في جيش مُحارب عاشتْ طوال عُمرها ولمْ تدرِ بأنَّ جروحها وكسورها تُجبر آليًّا إلا عندما قررتْ المخرجة هذا!! .. وعلى سبيل الأحداث عندما هاجمتْ القوة الكنسية لتأخذهم لإجراء التجارب عليهم أخذتْ اثنين “جو ونيكي” وتركتْ الثالث “بوكر” بحُجَّة أنَّه مصاب رغم أنَّهم أتوا لاختطاف أناس قادرة على الاستشفاء!! وهذا بالقطع لأنَّه سيحتاج الاثنين خاصةً في معنى سيأتي لذلك أخذهما وترك الثالث. هذه مجرد أمثلة من البناء الكُلِّيّ وبعض الأحداث الجزئيَّة على تداعي المنطق الداخليّ للعمل.

أمَّا المعاني فهذا الفيلم المُنهار التجاريّ قد أتى بعدد من المعاني لا تليق بحجمه الكُلِّي. أوّلها وثانيها جاءا في حوار بين البطلة والشابة المُجنَّدة؛ حين قالتْ لها البطلة بالنصّ: “ليس لأيّ شيء معنى على أيَّة حال”. والثاني هو إنكارها وجود إله في الكون. ولعلَّ المُشاهد يسأل لِمَ نأتِ بمثل هذه الجُمل الرنانة ونحن لمْ نبرِّر حتى السياق الدراميّ للعمل كُليًّا. وبالأحرى لعلَّ المُشاهد عرف أنَّ الفيلم قد برَّر عدم وجود أيّ مُبرِّر؛ لأنَّ الفيلم أراد أنْ يُصدِّر لنا أنَّه لا معنى هناك أصلاً، وأيضًا لا إله في الكون. إذن فما فائدة وجود تبرير لأيّ شيء وليس هناك معنى وليس هناك مُدبِّر؟!

وبالعموم فالمقولة الأولى “ليس هناك معنى” هي مقولة من مقولات “ما بعد الحداثة” عندما أتتْ لتهدم الحداثة ثم تبحث عن المعنى. وكل هذا لا يتعلَّق بنا- بحضارتنا أقصد- لكنَّه للأسف يُصدَّر إلينا. فبعد أنْ كُنَّا نحاور حداثة لها هيئة وشكل ومضمون ننتقل لمحادثة ما بعدها والذي لا معنى فيه، إلا سُيُولاً من التدفُّقات غير المحكومة بضابط.

وهناك استشهاد مقصود في الفيلم بمشكلة في الفلسفة تُدعى “مُشكلة الشرّ” في مشهد رؤية البطلة للحروب على التلفاز، وإحساسها بعدم جدوى ما تفعل. وبالقطع يكفي أن نقول إجمالاً أنّ مشكلة الشرّ -وهي من المسائل الفلسفيَّة المُعقَّدة- قُدِّمتْ بفهمها الخاطئ من صُنَّاع الفيلم فليست إلا دليلاً على وجود الإله؛ لأنَّ إدراك الشرّ يستوجب التقييم والتدبير الذي جعل فطرة الإنسان تميِّز خيرًا وشرًّا وتفصل بينهما، وهذا يقتضي بدوره وجود المُدبِّر.

أمَّا عن الثاني “عدم وجود إله” فهو بالقطع قول مُنهار داخليًّا بدوره؛ ولا يوجد أيّ دليل فلسفيّ عليه؛ فليس هناك دليل على “العدم” إنَّما ينصبّ الدليل على “الوجود”. ولا أريد الدخول في إطارات مُغرقة في الفلسفيَّة لكنْ أود القول إنَّه لا الفيلم ولا أيَّة فلسفة قدَّمتْ دليلاً على ذلك وغاية ما في الأمر أنْ يتحوَّل الرأي إلى ما يُسمَّى بـ”اللا أدريَّة” أيْ أنَّه لا يدري هل هناك إله أمْ ليس هناك؛ تعبيرًا عن موقف شخصيّ وليس أمرًا عامًّا.

ولماذا نجيب نحن فلنترك الإجابة للفيلم؛ فسرعان ما تعلَّل بوجود الإله في مواطن عديدة. منها: تعليل الرجلين “جو ونيكي” علاقتها الشاذة بـ”القدر” -الآن قد أصبح هناك مُقدِّر ومُدبِّر-. وتقول البطلة في حوار آخر: إنْ حانت ساعتي (أيْ ساعة موتها) فلا رادَّ لها!! ولعلَّنا نسأل: مَنْ سيقدِّر ساعة موتها؟ وما الذي يعطيه القدرة على إماتتها؟ ولماذا لا رادَّ لقضائه؟! وفي حوار في آخر الفيلم تقول لـ”بوكر” عندما سألها: “ألنْ أراكِ مُجدَّدًا؟” فردَّتْ: “تحلَّ ببعض الإيمان”! تقصد لقاءهما مرة أخرى الذي سيدبره القدر.. إذنْ قد ظهر التدبير وظهر الإله وقتما شئنا واختفى في جُمل بطوليَّة وقتما شئنا أيضًا. ولو كان الفيلم جدِّيًّا لاستوجب الأمر قدرًا أكبر من الرد.  ويكفي أنْ الفيلم ردَّ على نفسه في أمر لن يستطيع أن يُماري فيه كما قال الشاعر الكبير “المتنبِّي”:

وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ

إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ

وهناك قضيَّة أثيرت في عدة مشاهد هي الدور الأخلاقيّ في العلم. فما الموقف الأخلاقيّ لإجراء تجارب مُهلكة على آلاف حيوانات التجارب؟! بل الأولى ما هو الموقف حينما يتحول الإنسان نفسه لحيوان تجارب. وهذه قضيَّة مطروحة بالفعل على مائدة البحث في الأفقَيْنِ العلميّ -فرع فلسفة العلوم وأخلاقيات العلم- والفلسفيّ -في فلسفة الأخلاق خاصةً في العصر الحديث-. وهناك مواقف عديدة في إجابة هذا السؤال. وهناك أيضًا قضيَّة فكريَّة أخرى في صُلب التجربة العلميَّة لشركة الدواء تتمثل في هل يمكن تأخير التدهور الإدراكيّ للإنسان؟ علميًّا وفلسفيًّا. وهذه القضية قد حازت على مناقشات كثيرة في العقود الماضيَّة مع اكتشافات الجينوم المتعددة. لكنَّ الفيلم يعرض الفلسفة والأفكار عرضًا عشوائيًّا مُبتسرًا -بالقطع ليس القصد أن يعرضها بطريقة الكُتب- حيث لا تترك لدى المتلقي إلا التشويش.

كما اهتمَّ الفيلم أيضًا بفكرة شرعَنَة الشذوذ الجنسيّ -أيْ إضفاء صفة الشرعيَّة عليه- في شخصيتَيْ “جو ونيكي”. من خلال إعادة صياغتها بكونها علاقة تسانُد ومُعاونة، ومن خلال تغليفها ببعض العبارات المُبتذلة التي تتشبَّث برداء الشاعريَّة، ومن خلال ممارستها على الشاشة علانيةً، ومن خلال أخيرًا استدعاء الإله والقدر وجعله سببًا لها، بعد أنْ أنكروه منذ قليل. وتحاول الأفلام الأمريكيَّة في الآونة الأخيرة -خاصةً إنتاجات هذه الشركة- التركيز بشدة على هذه القضيَّة، وتصديرها للجميع. وليس المقصود بهذا العرب -كما يدِّعي البعض- فليستْ قِيَم العرب ولا الإسلام وحدهما الرافضتَيْن لهذه بل هناك حرب في الغرب أيضًا تدلُّ عليها المشهد في عربة الشرطة بين الرجليْن والجنود. وبالقطع هذه القضيَّة تضاد الفطرة البشريَّة قبل أنْ تضاد أيَّة ديانة أو منظومة قِيَميَّة.

ولمْ ينسَ الفيلم تلميع صورة الولايات المتحدة فنرى في مشاهد الفيلم الذي يُظهِر الشعب الأفغانيّ الذي وجد مَنْ يحنو عليه وهو الجيش الأمريكيّ المُحتلّ لبلاده. فهؤلاء هم الجنود يقدِّمون الحلوى إلى الصغار، وهذه الحضارة الأمريكيَّة واللا حضارة في أيَّة منظومة تخالفها، وهاتِهِ الجنديات لا يُردْنَ الأذى لأحد من البشر. وهذا هو الشرير ذو اللحية الذي أبى إلا أنْ يقتل الجنديَّة البطلة الشجاعة التي كلّ ذنبها أنَّها جاءت لاقتياده للسجن والتعذيب في “جوانتانامو” أو غيرها من الملاهي الليليَّة الترفيهيَّة. فلا تجد منه إلا محاولة الدفاع عن نفسه بطعنة غادرة بعد أنْ ألقمتْه في صدره عدة رصاصات. ونلاحظ أنْ المخرجة لمْ تصوِّر وجه الرجل لقطع التعاطف معه، مع أنَّها أخذت لقطة متحركة طويلة على الجنديَّة مع حركات تمثيليَّة جيدة لإحداث التعاطف العميق. وتمجيد الشخصيَّة الأمريكيَّة سمة رئيسة لأفلامها.

كل هذه الأفكار سقيمها وسليمها تتسلَّل إلى عقولنا نحن المُشاهدين ونجد أنفسنا نردِّدها من ورائه حتى لو نظرنا إليه نظرة الفيلم التجاريّ المُسلِّي. فالأفلام والسينما وسيلة ناجعة وحاسمة في نشر الأفكار. لذلك وجب علينا أنْ ننتبه لهذه الأداة العظيمة ونُعمل عقولنا وحاسَّتنا النقديَّة حينما نشاهد الأفلام، ولعلَّ هذا أيضًا يبرز دور النقد عمومًا في الكشف والإبانة والتوضيح لا في فرض الرؤية.

Visited 135 times, 1 visit(s) today