“البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”: مرآة ديستوبية لعالم متهاوٍ
زياد أحمد
عندما ننظر إلى لوحة الفنان الفرنسي جان فرنسوا ميليه “جامعات السنابل”، وهي التي تجسد ثلاث نساء بائسات ينحنين على الأرض لجمع بقايا السنابل، نجد في كل تفصيل منها رمزية كبرى عن العيش على الهامش.
هذه اللوحة رغم بساطتها الصارخة تحمل أبعادًا عميقة عن النضال الإنساني من أجل البقاء في مواجهة عالم قاسٍ وغير مبالٍ. من هذه الرؤية تتشابك الخطوط مع فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”، الذي كتب نصه محمد الحسيني وخالد منصور، وأخرجه الأخير، ليقدم رؤية سينمائية متشعبة تسلط الضوء على شخصيات هامشية ترسم مأساة العزلة والفقد، في عالم يبدو وكأنه يتآمر على إزاحتهم تمامًا.
الفيلم يبدأ من تفاصيل حياة “حسن”، الشخصية المحورية التي جسدها عصام عمر بإتقان بالغ، شاب هامشي، يعمل كفرد أمن مدني، يعيش حياةً متواضعة على أطراف المجتمع مع أمه وكلبه رامبو. بيتهم، كحياتهم، هش متهالك، يرمز لانعدام الأمان المادي والعاطفي.
تبدأ الأحداث من شجار عابر مع صاحب المنزل، كارم، يتورط فيه رامبو حين يهاجم كارم دفاعًا عن صاحبه. هذه اللحظة المفصلية تُطلق سلسلة من الصراعات، مالك المنزل يطالب بذبح الكلب كشرط للصلح، وحسن يجد نفسه أمام اختيار مفجع بين ولائه لصديقه الوحيد في هذا العالم وبين استسلامه لضغوط واقع ظالم.
رغم بساطة الحبكة الظاهرية، إلا أن العمل يتجاوز الإطار المباشر ليرسم عوالم متداخلة من الرمزية. حسن ليس مجرد فرد أمن بسيط، ورامبو ليس مجرد كلب وديع. الفيلم ينطلق من قصتهما ليُقدم قراءة أعمق لحياة الهامشيين، وللتناقضات التي تُحيط بهم، ما بين هدوء أرواحهم وصخب العالم من حولهم.
تُظهر الكاميرا حي حسن، ببنيانه المتصدع وألوانه الداكنة، وكأنها تُعلن عن عطب الحياة التي تسكنه. الحي هنا ليس مجرد فضاء مكاني، بل شخصية إضافية تتآمر على بطله. المدينة في هذا الفيلم ليست مُلهمة ولا مُنصفة. على العكس، هي كيان خشن قاسٍ، لا يترك مساحة لضعفاء مثل حسن وأمه وكلبهم. حتى عندما ينتقل حسن عبر شوارع المدينة الفاخرة للوصول إلى عمله، لا تُغير هذه الشوارع المضيئة من واقعه شيئًا. على النقيض، تبرز الفجوة بين عالمين: عالم المدينة المحطمة وعالم المدينة البراقة، حيث يعيش الأبطال الهامشيون بلا قدرة على العبور من أحدهما إلى الآخر.
اختيار حسن لتسمية كلبه باسم “رامبو” يحمل في طياته رمزية لافتة. الاسم، المأخوذ من الشخصية السينمائية الشهيرة، يُجسد مفارقة صادمة بين الواقع والخيال. رامبو السينمائي هو رمز للقوة والانتصار على كل التحديات، بينما رامبو الكلب يُمثل البساطة والوفاء الذي لا ينتمي لعالم القوة، بل لعالم المحبة والوداعة. في لحظة، يختزل رامبو معاناة حسن، صديقه الوحيد الذي يواجه مصيرًا قاسيًا، وكأن الكلب والإنسان هما وجهان لعملة واحدة
رموز في تفاصيل المشاهد
الفيلم يعج بالرمزيات البصرية واللغوية التي تُثري معناه. واحدة من أبرز هذه الرموز هي سترة حسن التي تحمل كلمة Security مكتوبة بحروف باهتة ممسوحة. هذه الكلمة، التي تفترض أن تُشير إلى الأمن والأمان، تتحول إلى نقيضها تمامًا، مُعبرة عن حياة بطلها المليئة بالتوجس والخوف.
مشهد آخر يتسم بعمق رمزي هو لحظة لجوء حسن إلى المسجد بعد التهديدات التي يتلقاها. في هذا المشهد، يجلس تحت عمود منير كتبت عليه أسماء الله الحسنى، ينظر إلى السماء في استسلام خاشع. هذه اللحظة تعكس إدراكه لضعفه، واستنجاده بما يتجاوز قدراته البشرية.
كذلك مشهد النهاية، حيث نرى حسن يُودع كلبه رامبو ويتركه يرحل نحو مصير مجهول. هذه النهاية لا تمثل فقط فراقًا بين إنسان وكلب، بل هي أيضًا إعلان رمزي عن استسلام حسن نفسه، عن إدراكه لعجزه عن حماية من يحب، وعن فقدانه لأي قدرة على تغيير واقعه.
عصام عمر، في دور حسن، يُقدم أداءً عفويًا وصادقًا يُجسد هشاشة الشخصية وطيبتها بمهارة بالغة. مشاهده المتكررة مع رامبو، من الحديث العفوي إلى لحظات الحزن والانكسار، تُبرز براعة الممثل في التعبير عن مشاعر معقدة دون مبالغة
سماء إبراهيم، في دور الأم، تألقت ببساطتها وأدائها الفطري، معبرة عن حنان لا حدود له تجاه ابنها وكلبه، لكنها في الوقت نفسه تُظهر عجزًا تامًا عن مواجهة قسوة الحياة
حتى الأدوار الثانوية، مثل صاحب المنزل كارم أو زميل حسن في العمل، تمثل مكونات ضرورية لإبراز تضاريس هذا العالم البائس
أجواء ديستوبية
اعتمد مخرج العمل خالد منصور على تقنيات تصوير وإضاءة تُبرز الجانب القاتم للمدينة والحياة التي تدور فيها الأحداث. الألوان الداكنة، والإضاءة الخافتة، والزوايا التي تُظهر الشخصيات بحجم صغير وسط فضاءات كبيرة، كلها تُساهم في خلق شعور بالاغتراب والضياع.
أضاف الاعتماد على التصوير الليلي بُعدًا دراميًا للفيلم، فجعل المدينة تبدو وكأنها كيانا عملاقا يبتلع أبطالها، بينما تُعبر مشاهد من زاوية “عين الطائر” عن عجز الشخصيات أمام قوة أكبر منها.
العفوية والرمزية
جاء السيناريو متقنًا في صياغته، حيث توازن بين العفوية في الحوارات اليومية والرمزية في الأحداث الكبرى. لم يعتمد على المبالغات أو الخطابات المباشرة، بل قدّم لنا شخصيات تتحدث وتتصرف كما لو أنها جزء حقيقي من هذا العالم.
الحوار بين حسن وكلبه رامبو، رغم أنه يبدو بسيطًا في الظاهر، إلا أنه يحمل في طياته عمقًا عاطفيًا يُجسد حالة التعلق الوحيدة التي تربط حسن بالعالم. كذلك، الحوارات التي دارت بين حسن وأمه، أو بينه وبين زميله، تعكس تفاصيل الحياة اليومية لفئة منسية من الناس.
“البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” عمل سينمائي يُخاطب العقل والقلب معًا. بفضل حبكته المتماسكة، ورمزيته العميقة، وأدائه التمثيلي المتميز، ينجح الفيلم في تجاوز كونه مجرد قصة تُروى ليصبح شهادة على واقع كثيرين.
الفيلم يترك المشاهد في حالة تأمل عميق، حيث يُدرك أن القصة ليست فقط عن حسن وكلبه، بل هي عن كل من يقف عند هامش الحياة، يبحث عن منفذ للخروج من دوامة لا تنتهي.
إنه فيلم يتحدث عن قسوة العالم، وعن هشاشة الإنسان، لكنه في الوقت ذاته يحمل في طياته دعوة للتأمل في معنى الوفاء، والإنسانية، والقوة التي يمكن أن نجدها في أضعف الكائنات.