“ابنة عمي راتشيل” كلاسيكية حديثة عن الحب القاتل

للمرة الثانية تنتج السينما رواية “إبنة عمي راتشيل” My Cousin Rachel التي نشرت عام 1950 للروائية الانكليزية الشهيرة دافني دي موريير (1907- 1989) في فيلم سينمائي جديد أعد له السيناريو وأخرجه روجر ميتشيل.

أنتج الفيلم الأول عن الرواية نفسها عام 1952 وأخرجه هنري كوستر وقام ببطولته ريتشارد بيرتون وأوليفيا دي هافيلاند. ومن أشهر روايات دي موريير “ربيكا” (1938) التي اخرجها هيتشكوك في فيلم شهير بالعنوان نفسه عام 1940 من بطولة لورنس أوليفييه وجوان فونتين. وهي كاتبة معروفة بالمزج بين الأجواء الرومانسية وأجواء الترقب والإثارة، لا تنتهي رواياتها عادة نهايات سعيدة، وقد ظلت رغم ذلك، أو ربما نتيجة ذلك، تحقق أعلى المبيعات لزمن طويل. ويجب أن نضيف أيضا أنها مؤلفة رواية “الطيور” التي صنع عنها هيتشكوك أحد اشهر أفلامه في الستينات.

تدور أحداث الفيلم في ضيعة بمقاطعة كورنوال في جنوب غربي انكلترا، وهي المنطقة التي عاشت فيها المؤلفة معظم فترات حياتها، وهي تقدم في الرواية وصفا دقيقا لطبيعتها الريفية الساكنة، وتضاريسها الوعرة الساحرة، محاطة بمياه البحر، تنتشر فيها المرتفعات الخضراء وكذلك الشواطئ الرملية البديعة. تدور الأحداث في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، في العصر الفيكتوري إبان حكم الملكة فيكتوريا الذي استمر 64 سنة وعرف بهيمنة التقاليد الاقطاعية والقيم الأخلاقية المتزمتة.

ظهور متأخر

الشخصية الرئيسية في الفيلم هي “راتشيل” التي تقوم بدورها راتشيل وايز.. ولكننا لا نراها في البداية، فظهورها يتأخر بعض الوقت في الفيلم لكن حضورها رغم ذلك بارز من البداية. لدينا أولا الفتى الشاب “فيليب” سليل الأسرة الاقطاعية الثرية الذي فقد والديه فتبناه ابن عمه “أمبروز”- وارث الضيعة الريفية الثرية ويعمل في تجارة العقارات والأراضي. وقد أصبح أمبروز الآن كل عائلة فيليب، فهو الأب والأم والصديق والشقيق وابن العم. من البداية يخبرنا صوت فيليب أنه لم يعرف والده لكنه اعتبر أمبروز والده الحقيقي، وقد كتب أمبروز كل ممتلكاته لفيليب يرثها بعد وفاته.  يصاب أمبروز ببعض المتاعب الصحية مما يدفعه الى الرحيل إلى مقاطعة فلورنسا في ايطاليا، بحثا عن الطقس الدافئ. تستمر العلاقة بين أمبروز وفيليب من خلال الرسائل التي يكتبها الأول للثاني. يصف كيف يشعر بالوحدة ثم يقع في حب امرأة تمنحه ما لم يكن يحلم به، وتتغير حياته ويصبح لها معنى، لكن الأمور لا تسير على هذا المنوال، فتأتي رسائله بعد ذلك مليئة بالمرارة والخوف والتساؤلات عما إذا كانت تلك المرأة ملاكا أم شيطانا، امرأة أم ساحرة، فهو يشعر أنها تقتله، ثم يطلب النجدة من فيليب الذي يهرع إلى هناك متأخرا ليفاجأ بنبأ وفاة أمبروز وغياب أرملته عن البيت الكبير. يجد هناك فقط رجلا إيطاليا يدعى  “رينالدي” يخبره أن أمبروز توفي جراء اصابته بسرطان المخ، ثم يغمز له بطريقة ذات مغزى وهو يحدثه عن “راتشيل” أرملة الراحل، وكيف أنها امرأة جذابة تتمتع بجسد قوي وعاطفة جياشة.

يعود فيليب الى الضيعة التي أصبح مالكا لها وهو على يقين من أن راتشيل (أرملة إبن العم أو باختصار “ابنة عمه”) هي المسؤولة عن موت أمبروز. يشعر تجاهها بكراهية شديدة، ويتعهد لنفسه أن ينتقم منها شر انتقام، ينتظر ظهورها في الضيعة بعد أن أرسلت تخبره بقدومها.

الوقوع في الحب

يتغير الحال الى النقيض بعد ظهور الأرملة الحسناء بشخصيتها الساحرة، وجاذبيتها التي لا تقاوم، ورقتها العذبة، وبعد أن كان فيليب يظنها امرأة شرهة جاءت لتلتهم الضيعة وأموال زوجها الثري الراحل، يكتشف أن أمبروز لم يترك لها شيئا فهو لم يضع اسمها في وصيته أصلا، بل وترفض الحصول على ما يود فيليب منحها اياه من أموال زوجها، في إباء وشمم. وتقول إنها تبحث عن عمل لتدريس اللغة الايطالية كونها نصف ايطالية نصف انكليزية.

هل هي صادقة أم تمثل البراءة باجادة تامة؟ ما الذي سيحدث الآن؟ هذه الايطالية الحسناء جاءت تحوطها مظاهر الثقة والضعف، الفتنة والقوة والاستجابة، النظرات الناعسة، والتحكم الواضح في المشاعر.. أمام هذه الشخصية يقع فيليب حتى الثمالة في حب “ابنة العم راتشيل”، ولكنها لا تمنحه صراحة ما يود أن يسمعه. إنها تترك الباب مواربا بمهارة وحذق.. تمنحه في البداية قبلة فوق جبينه كأي أم طيبة وتتمنى له ليلة سعيدة ونوما هادئا كأي “ولد جيد”، تشعر بحنينه الخاص وشعوره بالحرمان بسبب فقدانه أمه منذ طفولته، ولكنها أمام ارتفاع حدة مشاعره وجموح عاطفته، وبعد أمسية خاصة جدا وعلى ضوء الشموع، تمنحه ليلة من العشق الدافئ بين أحضانها.

 الحب المستحيل بين الشاب وأرملة عمه

يندفع فيليب ابن الخامسة والعشرين في التعلق بالمرأة المجربة الخبيرة التي تتردد حولها اقاويل كثيرة مثل: تشاجر عشيق لها مع زوجها الأول وقتله. إنها تستقبل ذات يوم رينالدي من وراء ظهر فيليب، وتمرح معه وعندما يكتشف فيليب وجود رينالدي في المنزل تزعم أنه صديق قديم. وتزداد مشاعر الحب نحو المرأة الغامضة: ولا يتوقف فيليب أمام ما يمكن أن يعذبه من تساؤلات بل يمضي نحو حافة الجنون، فيصر أولا على بقائها في المنزل ويرفض أن تغادر، ثم يمنحها مجوهرات والدته. وعندما يبلغ الخامسة والعشرين ويصبح من حقه التصرف فيما ورثه، يرغم محاميه على تعديل أوراق ملكية التركة ليجعلها من حق راتشيل ويسلمها وثائق الملكية. يحاول أبوه الروحي أن ينصحه بالتمهل، يقول له إنها تقوم بتهريب المال الى الخارج. لكن فيليب يصرح لها وهو تحت تأثير الشراب أمام الضيوف برغبته في الزواج منها. لكن “هذا جنون.. أنت لا تدرك مدى هذه الاهانة التي وجهتها لي”.. هذا ما تقوله له راتشيل. لكنها تواصل التلاعب بمشاعره رغم ذلك. بين الغضب والابتعاد قليلا مع الاحتفاظ في الوقت نفسه، بعلاقة لصيقة معه، ثم التردد سرا على منزل في البلدة القريبة لمقابلة رينالدي كما يكتشف فيليب، كل هذه التداعيات لابد أن تؤدي حتما الى نهاية دامية.

البراءة والغموض

يجمع الفيلم بين الطابع الرومانسي، الذي يفيض بالمشاعر الملتهبة، ولو من طرف واحد، وبين الفيلم الغامض المثير الذي يوحي بأجواء جريمة ربما تكون قد وقعت أو لا تكون هناك أصلا. فهل قتلت راتشيل أمبروز بالسم تدريجيا أم أنه مات بسبب سرطان المخ؟ هل تسعى الآن لقتل فيليب بالطريقة نفسها منذ أن حلت على الضيعة بعد أن رأيناها تداوم على اعداد شراب التيزانا على الطريقة الايطالية وتقديمه له ليشربه كل ليلة بإصرار واضح؟ هل سقط فيليب مريضا بعد سريان السم في دمائه، وماذا يمكنه أن يفعل الآن؟

نحن أمام عمل يجسد التناقض بين البراءة حد السذاجة، والغموض الذي ربما يخفي شراهة التملك والرغبة في الوصول الى الهدف ولو بالقتل. شخصية راتشيل.. المرأة المنطلقة الجذابة، بأسلوبها الخاص الذي يجعلها تبدو كإحدى أميرات القرون الوسطى، بحسها الإنساني تجاه الفلاحين الفقراء وعطفها عليهم، وتعاملها المرهف مع الخدم، كلها ملامح تساعد في انجذاب فيليب أكثر فأكثر إليها، لكنها تجعلها في الوقت نفسه تبدو كامرأة متمردة خارجة عن النمط المألوف في انكلترا الفيكتورية.. فهي نقيض صورة المرأة الخاضعة المنقادة إلى الرجل. إنها تركب الحصان وحدها، وتخرج تنطلق في الوادي بمفردها أو تذهب الى البلدة رافضة أن يرافقها أحد، تبدو باشراقها وجمالها وسحرها الخاص وهي تسدل حجابا رقيقا منقوشا شفافا على وجهها ساحرة الجمال، يجذب إليها الآخرين وتفرض احترامهم لها. هي التي تقود العلاقة مع فيليب بحساب وتستطيع أن توقفه عند حده. وعندما يرغب مرة ثانية في جسدها تمنحه إياه في برود تام، فذهنها أصبح يعمل طبقا لحسابات أخرى. هل هي ساحرة؟ قاتلة مع سبق الاصرار؟ متآمرة مع رينالدي؟ سعيدة كما تبدو باستقلاليتها أم تعيسة تعاني من ماض قاس لم تكشف عنه؟

هذه التساؤلات التي تتداعى بالضرورة من تكوين الشخصية أو من نسج العلاقة بين فيليب وراتشيل هي ما يجعل الفيلم عملا مركبا، يعود بنا إلى أجواء الفيلم الكلاسيكي البريطاني. إنه يقترب كثيرا من ناحية الأسلوب، من أجواء أفلام حفرت في الذاكرة مثل “الوسيط” The Go-Between(1971) لجوزيف لوزي، أما الغموض الذي يلف الحبكة فهو يبدو قريبا من الغموض الساحر في فيلم “ربيكا”.

 هل كانت راتشيل تقدم له السم في الحساء؟

يعالج المخرج روجر ميتشيل موضوع فيلمه ببراعة واقتدار، ويمسك بكل خيوطه وشخصياته وحبكته بكل دقة وتمكن، لا يفلت منه الايقاع ولا لمرة واحدة، ولا يحتفظ في الفيلم بلقطة واحدة زائدة، ولا يتخلى في أشد لحظات الإغواء، عن الاحتفاظ بمسافة ما بين الصورة والمتفرج، دون أن يفقد الفيلم حرارته وجاذبيته. وتأتي المتعة الأساسية من جمال الصورة وسحرها الخاص، سواء في المشاهد الطبيعية الخارجية التي تعكس جمال الريف الانجليزي مع الكثير من السحب والظلال التي توحي بالمسار التراجيدي للأحداث، وكما في مشاهد تساقط الثلوج، أو من جمال التصوير الداخلي داخل المنزل الاقطاعي بأثاثه الفخم، وردهاته الطويلة، مع استخدام اضاءة تتركز في الضوء الصادر عن الشموع أو المدفأة. والغلالة الخاصة الضبابية التي تضفي على مشاهد الاختلاء بين فيليب وراتشيل جوا سحريا مشوبا بالغموض، مع نغمات البيانو الرتيبة المصاحبة للصورة.

ويزداد الشعور بمتعة المشاهدة ونحن نتابع الأداء البديع من جانب راتشيل وايز بتمكنها من السيطرة على مفاصل الشخصية وابراز ملامحها الساحرة مع منحها مسحة خاصة من الغموض، بطريقتها في نطق كلمات الحوار، في انتقالها من الحماسة الى البرود، ومن الود إلى التمرد والرفض. تنجح وايز في التعبير عن المشاعر الملتبسة المتضاربة التي تجعل المتفرج يتوقع جميع الاحتمالات، لكن من دون أن يقطع في النهاية باستنتاج واضح ومحدد. ويجتهد الممثل الشاب سام كلافين (قراصنة الكاريبي) في دور فيليب، بوجهه الطفولي وقدرته على الانتقال من شراسة الرغبة في الانتقام مع نزعة كراهية خاصة للمرأة – القاتلة، إلى الوقوع في أسر الشخصية التي أراد الفتك بها، والاندفاع في حبها ضاربا عرض الحائظ بنصائح المخلصين من حوله خاصة “لويز” التي تحبه في صمت وكبرياء ولكنها لا تنسى أن تذكره بدهشتها من قدرة “ابنة العم” على أن تلفه حول إصبعها! 

Visited 166 times, 1 visit(s) today