“إيفان الرهيب”: ملحمة سينمائية بين العبقرية والجنون

زياد أحمد
حظيت هذه الفئة السينمائية برعاية ستالين، الذي اعتبر إيفان بطله الشخصي، وقد جرى إنتاجها خلال الحرب العالمية الثانية، في الغالب داخل استوديوهات ألما آتا بكازاخستان، إذ تم ترحيل نخبة المخرجين السوفييت إلى مواقع أخرى لدواعٍ أمنية.
ورغم ظرف الحرب، لم يخضع أيزنشتاين لقيود صارمة؛ ففي الجزء الثاني، تظهر مشاهد استعراضية لمسيرة حاشدة، تتصدرها حشود من الممثلين يرتدون أزياء عسكرية، مجسدين جيش إيفان، والبروليتاريين في موكب تحفيزي لحثه على العودة من المنفى.
وقد لاقى الجزء الأول، الذي طُرح عام 1944، احتفاءً واسع النطاق، لكنه كان احتفاءً يقتصر على ستالين نفسه، إذ لم يكن ثمة رأي آخر جدير بالاعتبار، اكتمل الجزء الثاني بحلول 1946، غير أنه وُئد في مهده، بعدما رأت الرقابة الحكومية، أو ربما ستالين ذاته، أن صورة القيصر تستبطن تشابهًا غير مريح مع صورة الديكتاتور، أما الجزء الثالث، فقد وضع أيزنشتاين خطوطه العريضة، وصور بعض مشاهده، لكن الإنتاج توقف، ثم أدركه الموت عام 1948
يفتتح الفيلم في قاعة العرش الشاهقة بموسكو، حيث تتويج إيفان وسط موافقة البويار، تلك الأرستقراطية الوراثية من الأثرياء المتنفذين، الذين هيمنوا على مقاليد الحكم فعليًا، غير أن ملامحهم العابسة سرعان ما تجلت، حين أعلن الفتى الطويل الواثق، ومن اللحظة الأولى، أنه قيصر روسيا الأوحد، مقسمًا على الاقتران بالأميرة أنستازيا، ومدّ حدود روسيا وتأمينها، وترسيخ سطوته على البويار
هذا المشهد التأسيسي يرسّخ النبرة الأسلوبية للفيلمين؛ التتويج طقس مهيب، الأزياء مزخرفة بالجواهر، وتبدو ثقيلة إلى حد يعوق الحركة، الأداء التمثيلي خطابي متكلف. أيزنشتاين يوظف هنا، كما سيفعل لاحقًا، لقطات مقربة حادة للوجوه، تتسم بالشذوذ، وتزداد غرابتها بفعل الإضاءة السفلية القوية، وزوايا التصوير الحادة. أما معارضو إيفان فيبدون ككاريكاتيرات بشرية منفصلة عن سياقها، معزولة بصريًا دون تحديد موقعها المكاني بدقة

من العسير تأمل تلك الوجوه دون استحضار الفيلم الصامت الدنماركي “آلام جان دارك” لكارل تيودور دراير «1928» لا ريب أن أيزنشتاين شاهده قبل الشروع في مشروعه خلال الأربعينيات، سواء في روسيا أو في هوليوود، حيث دعته شركة باراماونت عام 1930 لإخراج فيلم بعد نجاحه في ” بوتيمكين ” و”أكتوبر”. غير أن الاستوديوهات رفضت مشاريعه، ليصبح هدفًا للحملات المناهضة للشيوعية، فلم ينجز أي فيلم أمريكي قط. ومع ذلك وقع في شغف عميق بالأعمال المبكرة لـ والت ديزني، معلنًا لاحقًا أن ” سنو وايت والأقزام السبعة ” هو أعظم فيلم أُنتج على الإطلاق
في محاكمة جان دارك، وضع دراير بطلته تحت سطوة قضاة مخيفين، تملأ وجوههم العبس والغضب، يتبدون عبر زوايا مائلة، وسط إضاءة درامية مكثفة. وإذا كان ذلك قد أثر في أيزنشتاين، فقد يكون الحال ذاته مع تصميماته المعمارية، تظهر جان دارك في بيئة معمارية مشوهة، تهيمن عليها جدران منحنية توحي بالبرودة العدائية
ديكورات أيزنشتاين أضخم على نحو غير متناسب، لكنها تستدعي التأثير البصري ذاته. بعض المشاهد تدور ضمن فضاءات جرداء، أقواس مفرغة، زوايا حادة، سلالم وممرات متاهية، فيما تكتسي أخرى كقاعة العرش، بجدران مطلية بالأيقونات والنقوش البارزة. في مشاهد عدة يعمد إلى إدخال الشخصيات ضمن عمق الكادر، مارة بين أعمدة وأروقة، مما يعزز الإحساس بالمكان، كما يوظف الظلال العملاقة لإضفاء تأثير بصري هائل، مثل إسقاط صورة ضخمة لرأس إيفان بلحيته الشيطانية المدببة، ليبدو أفراد بلاطه أشبه بالأقزام في حضرته
في الجزء الأول، نواجه الشخصيات المتورطة في دسائس القصر، يتجلى القيصر «نيكولاي تشيركاسوف» صديقه المقرب كوليتشيف، يرفض المشهد برمته، ويختار حياة الدير، بينما يتعرض كوربسكي لضغوط البويار لمناهضة إيفان، إذ كان احتكارهم للسلطة تقليدًا راسخًا، ولم يكن صعود إيفان سوى زلزال سياسي باغتهم
إثر زواج إيفان من أنستازيا، تنجب طفلًا، مما يؤجج الكراهية الكامنة في قلب يوفروسينيا، عمته الطامحة إلى العرش عبر ابنها ستاريتسكي، تبدو المفارقة جلية، ستاريتسكي هذا، ذو الوجه الطفولي والشعر الأشقر القصير، ليس سوى ابن أمه المدلل، الذي يهرع إلى أحضانها متذمرًا من دفعها المستمر له نحو الطموح القسري، لا رغبة لديه في أن يصبح قيصرًا على الإطلاق.
أما يوفروسينيا، فتجسيد متكامل للشر، تتشح بقبعة أقرب إلى قبعة الساحرات، المداخل المؤدية إلى شقتها تبدو منخفضة بشكل قسري، تجبرها على الانحناء، فتزحف إلى المشهد كحية تتلوى. هي من حبكت مكيدة حمل إيفان لكأس مسموم إلى فراش أنستازيا المحتضرة، دون أن يدرك المصيدة، لكنه انتقم لاحقًا، حين ألبس ستاريتسكي تاج القيصر ساخرًا، وجعله أضحوكة أمام الجميع

الجزء الأول ينضح بالفخامة التاريخية والاستعراضات المهيبة، أما الجزء الثاني فيتخذ منحى مختلفًا، يقترب من العبثية الساخرة، حتى أن بعض النقاد لم يتورعوا عن وصفه بالكوميديا، أداء نيكولاي تشيركاسوف في الجزء الأول كان متقنًا، لكنه في الجزء الثاني يلامس أحيانًا حدود الهزل غير المقصود، كأنه منبوذ من إنتاج ميل بروكس لنفس القصة، شخصيًا، لم أشعر بأي انخراط وجداني مع أي من الفيلمين، فقد بدوا لي كمرثية باردة لرجل مسكون بالهوس
لكن، لماذا يتبوأ ” إيفان الرهيب ” مكانة راسخة ضمن قوائم السينما العظمى؟ أتصور أن قلة من المشاهدين يجدون فيه متعة حقيقية، رغم سحره البصري الآسر، ربما يعود ذلك إلى أن أيزنشتاين أضحى أسطورة سينمائية مقدسة، فرضتها الأوساط الأكاديمية، خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، كان جاي ليدا تلميذه في موسكو عام 1933، وأحد أمناء متحف الفن الحديث المؤثرين، من أبرز المدافعين عنه، وهو من جلب النسخة الكاملة الوحيدة لفيلم “المدمرة بوتيمكين” إلى الغرب.
ورغم ذلك، فإن الإشادة بـ ” إيفان الرهيب ” أقرب إلى التزام أكاديمي منها إلى انفعال صادق، أولئك الذين يعدونه تحفة سينمائية، هل قصد أيزنشتاين أن يكون كذلك؟ أدعو إلى مقارنة هذا الفيلم بـ ” الإمبراطورة القرمزية ” « 1934 » لجوزيف فون ستيرنبرج، ففي مقابل الإثارة الشهوانية المخادعة التي بثها فون ستيرنبرج في بلاط كاثرين العظيمة، يبدو أيزنشتاين أشبه بصانع ميكانيكي، يتقن التقنية، لكنه يفتقر إلى روح الإبداع الحر