أودري هيبورن.. نجمة تعالت على أدوار الإغراء
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع عودة الأفلام الأميركية الى غزو الشاشات البريطانية استنادا الى الأسماء اللامعة لنجوم السينما الذين تحولوا بفعل الدعاية الى اساطير في أذهان المشاهدين، أدرك البريطانيون حاجتهم الى صنع نجومهم. من هنا كانت مدرسة اكتشاف المواهب الجديدة التي أسستها استديوهات شركة رانك. ولم يكن الغرض ينحصر فقط في تقديم نجوم جدد ينافسون نجوم هوليوود ويدفعون الى الامام الفيلم البريطاني في حلة جديدة أكثر أناقة واغراء، بل كان خبراء صناعة السينما البريطانيون يرغبون في غزو هوليوود باكتشافاتهم.
لاشك أن من أكثر الاكتشافات السينمائية البريطانية نجاحا وتألقا طوال تاريخ ظهورها على الشاشة، الممثلة الراحلة أودري هيبورن. ومن أفضل ما قرأت عن نشأتها ونجوميتها وأفلامها وسحرها الخاص، كتاب “أودري هيبورن: قصتها الحقيقية” للناقد السينمائي البريطاني البارز ألكسندر ووكر الذي كان يكتب النقد بانتظام لصحيفة “ذي إيفننغ ستاندارد”. وهو في كتابه الذائع الصيت، يسعى الى اعادة اكتشاف ما خفي من أمر النجمة الشهيرة، وتسليط الأضواء على اسرار تألقها ونجاحها.
مهمة المؤلف الناقد، لم تكن سهلة. فالصورة الشائعة لأودري هيبورن التي ظلت راسخة في أذهان الجمهور لسنوات طويلة، هي صورة بريئة رومانسية، شديدة العذوبة، لامرأة ذات جمال فريد، لا تفقد أبدا المرح والرشاقة، تتمتع بطابع أرستقراطي ملحوظ، لم تتعرض في حياتها لأزمات كبيرة، ولا الى فضائح من النوع الذي يجتذب عادة الصحافة وكاميرات التليفزيون. من هنا كانت مهمة المؤلف صعبة وهو يقدم للقراء صورة شخصية لنجمة من طراز فريد. لكن ووكر نجح في تحقيق التوازن في كتابه عن طريق التركيز على عدة محاور: تفاصيل الحياة الشخصية لأودري هيبورن مرتبة ترتيبا زمنيا، أفلامها والمفارقات التي حفلت بها ظروف تصويرها، العلاقة بين هيبورن الحقيقية والصورة الشائعة في خيال الجمهور عنها من خلال افلامها، ودورها في الحياة العامة في السنوات الأخيرة من حياتها أي قبيل رحيلها.
ولدت اودري هيبورن في العاصمة البلجيكية، بروكسل، عام 1929. وهي تنتمي لعائلة ارستقراطية. والدها وهو من أصل أيرلندي، كان يعمل مستشارا ماليا، وكانت أنها بارونة هولندية. وكان الاثنان من المعجبين كثيرا بهتلر. وعندما أصبحت أودري في السادسة من عمرها، هجر والدها الأسرة.
ويقول ووكر إن أمها التي كتبت سلسلة من المقالات الحماسية تأييدا لهتلر، ثم أبدت ندمها الشديد على ما فعلته أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم عندما اصبحت ابنتها مشهورة، إلا أنهاه لم تتحدث قط عن هذا الأمر طوال حياتها. أما الأب فقد قُبض عليه وقضى سنوات الحرب في السجن في بريطانيا. وامتعت أودري نفسها عن الحديث كثيرا عن عذابها ومعاناتها مع أمها خلال سنوات الحرب.
بعد الحرب كانت أودري قد بدأت تشق طريقها الى عالم الفن، بعد أن تعلمت منذ صغرها رقص الباليه. واعتمادا على تكوينها الجسدي الرقيق الى حد النحافة، ووجهها الطفولي الذي يقدم بديلا فوريا للجمال المثير، استطاعت أن تجتذب منتجي السينما الذين وجدوا انها بصورتها المميزة الخاصة وشقاوتها الطبيعية البعيدة عن الاثارة الجنسية تستطيع أن تجذب الأسر، وأن تقوم بالأدوار الاجتماعية المرحة. ويرى البعض ايضا أن أودري كانت أكثر الممثلات انسجاما مع مرحلة الستينيات وهي المرحلة التي شهدت أوج تألقها وشهرتها أمام ابطال جدد مثل بيتر أوتول وألبرت فيني.
ومن بين نظيراتها من الممثلات الشهيرات في السينما الأميركية، كانت أودري تحصل على أكبر الأجور. لكنها مع ذلك، لم تكن تعتمد في أدائها على اجادة تقنيات التمثيل، بل على موهبتها التلقائية، فهي لم تكن مدربة على التمثيل بل على الباليه. لكن أكثر ما كان يميزها هو ذلك الوجه الجذاب الذي يتمكن من اجتذاب الكاميرا بصورة مدهشة.
ويركز المؤلف قليلا على فيلم “عطلة رومانية” الذي تقوم فيه بدور أميرة تهرب من برجها العاجي لكي تركب الدراجة البخارية خلف غريغوري بيك المخبر الصحفي الاميركي تلهو وتضحك وتأكل الأيس كريم. ويرى ووكر أن النجاح الكبير الذي حققه هذا الفيلم لا يرجع فقط الى سحر أودري الخاص، بل الى التأثير الكبير الذي يمنحه التصوير المباشر في الأماكن الحقيقية، والى أن الخصر الشديد النحول لأودري هيبورن جعلها أقرب ما تكون الى إحدى بطلات أفلام والت ديرني الكرتونية المحببة، والى كون الجمهور كان يقارن بين الفيلم وبين ما حدث في الواقع للأميرة مرغريت (شقيقة ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية) التي كانت قد خرجت لتوها من علاقة عاطفية مع رجل من خارج المحيط الارستقراطي.
وإذا كانت أودري قد لعبت بطولة بعض الأفلام التي لم تحقق النجاح المنشود، الا انها قد عادت في فيلم “قصة راهبة” لكي تقوم بدور امرأة ناضجة لا تضطر للكشف عن ثيابها. بل انها عادت فقامت بدور فتاة تبيع جسدها في فيلم “إفطار في تيفاني” دون أدنى محاولة للاعتماد على الاثارة الجسدية بل على تكثيف البراءة والنقاء الكامنين في الشخصية للحصول على تعاطف المشاهدين معها، رغم أن الدور كان قد كُتب خصيصا لمارلين مونرو التي رفضته على أي حال.
وربما كان من طباعها الغريبة كما يقول المؤلف، إصرارها أحيانا على التشبث ببعض الأمور الغريبة، كما حدث عندما كانت تتأهب لتصوير بعض مشاهد فيلم “قصة راهبة” في الكونغو، فقد أصرت على أن تنقل معها “بيديه” أي حوض غسيل صغير في الحمام، لاستعمالها الخاص. وكان من اسباب رفضها عددا من الافلام المهمة ايضا، اعتمادها الكبير على صديقها مصمم الازياء العالمي جيفنشي الذي كانت تصر على ضرورة وجوده كمصمم للأزياء في الأفلام التي تظهر فيها.
ويقول المؤلف انها ذكرت لمصمم الازياء في فيلم “سيدتي الجميلة” انها لم تشأ القيام بالدور لأن ازيائها لم تكن جميلة بدرجة كافية. ومعروف انها انتزعت دور “إلزا” في الفيلم من جولي اندروز بطلة فيلم “صوت الموسيقى” التي تجيد الغناء، بينما اقتضى الامر في “سيدتي الجميلة” استخدام الدوبلاج لجعل اودري تغني بالاستعانة بصوت مغنية حقيقية بعد أن كانت قد بذلت جهدا كبيرا بالفعل في حفظ الالحان بل وقامت بتسجيلها بنفسها.
ويقال ان أودري لم تكن بنفس درجة البراءة التي تظهر بها في السينما فيما يتعلق بالمال الذي كانت تهتم كثيرا به، وربما كان هذا سببا لاختيارها سويسرا كمقر لإقامتها الدائمة فيما بعد.
تزوجت أودري مرتين، الأولى من الممثل ميل فيرر، والثانية من طبيب نفسي ايطالي. ولم تعرف لها غراميات متعددة كغيرها باستثناء علاقتها بروبرت وولدو الذي قضت معه سنواتها الاخيرة. أما دورها كمفوضة لصندوق رعاية الطفولة التابع للأمم المتحدة فهو لم يقتصر قط على الظهور الرمزي في الحفلات من وقت الى آخر، بل اقتضى منها السفر الى أماكن الأوبئة والمجاعات والحروب في افريقيا وآسيا، والدعاية كأفضل ما يكون لإنقاذ الضحايا من الاطفال.