“أوبنهايمر” فوضى عارمة وأضعف أفلام نولان

“أوبنهايمر” فيلم طموح ويتضمن العديد من اللحظات الساحرة والرائعة في كثير من الأحيان، لكن تلك اللحظات لا يمكنها أن تدعم نفسها ولا تجد أرضية مشتركة في سرد أو منظور واحد مقنع. على الرغم من المواضيع التي تبدو عالمية وحتى كونية، إلا أنها تنتهي بالشعور بالمحدودية والقيود، بحيث تجعل العيون تتجه إلى الأسفل، وتتخلى عن أي بحث خيالي عن معنى أعلى وراء العلم أو السياسة.

يشير التسويق إلى أن هذه هي قصة بناء الولايات المتحدة للقنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، ويحيط بالكثير من الغموض والإثارة، كيفية تصوير نولان للاختبار الناجح النهائي للقنبلة الذرية والتي كان من الممكن أن تكون قصة رائعة حقًا، خاصة مع التلميحات إلى أن فيلم نولان كان نوعًا ما، نسخة أخرى من فيلم “العالِم المجنون” عن روبرت أوبنهايمر والقنبلة. وفي لحظات معينة – قليلة جدًا ومقتصرة إلى حد كبير على مشاهد مبكرة قصيرة، كما اتضح – يتخذ الفيلم صفة تعبيرية وسيريالية عندما يعطينا لمحات مبكرة عن افتتان أوبنهايمر بنظرية الكم وآثارها.

ومع ذلك، في حين أنه من الصحيح من الناحية الفنية أن الفيلم يحتوي ويعود باستمرار إلى عرض عام للحظات العلمية البارزة أثناء إنشاء مركز الأبحاث السري لصنع القنبلة في لوس آلاموس Los Alamos، فإن القصص الرئيسية لا تتعلق بالقنبلة.

 لوس ألاموس هي الخلفية التي تُروى على أساسها القصص الثلاث الرئيسية: حياة أوبنهايمر الرومانسية وعلاقاته، محاولات أعدائه بعد الحرب إلغاء تصريحه الأمني، ثم إلى فترة زمنية لاحقة عندما يواجه لويس شتراوس جلسات استماع في الكونجرس بعد ترشيحه لمنصب وزاري وحينها يصبح تاريخ تعاونه وصراعه مع أوبنهايمر محور التركيز الرئيسي.

 يتم تخصيص الكثير من الوقت على الشاشة لعلاقات أوبنهايمر الرومانسية والجنسية، حيث يتم تصوير النساء على أنهن غير عقلانيات، ومسرحيات، ومريضات عقليًا، و/ أو عاجزات عن الشعور بالرضا أو تقدير الضغوط التي كان يتعرض لها أوبنهايمر. وحتى النساء القلائل خارج علاقات أوبناهيمر العاطفية، من بين أفراد طاقم العلماء في لوس ألاموس – فليس لديهن الكثير ليقولن أو أنهن يقدمن مواقف وتأكيدات تصور على أنها ساذجة أو مفرطة في التبسيط مقارنة بالاعتبارات والأعباء الأكثر تعقيدًا وخطورة التي تقع على عاتق “الرجل العظيم”.

يبدو الأمر وكأنه سلسلة مشاهد تقول لنا “حدث هذا، ثم حدث هذا”، وهي مشاهد تجمع الأحداث من حياته لتشكل نوعًا من “الكولاج”، مع خلط الأجزاء بعد ذلك في أوامر عشوائية وقصص متنافسة، وكلها ممثلة بطرق مختلفة- اللحظات الأكثر حداثة هي أحداث بالأبيض والأسود، والأحداث الأقدم بأسلوب “قطعة تاريخية درامية” تقليدية، وأحداث منتصف العصر تعتبر تمثيلًا صارخًا تقريبًا للنشرات الإخبارية في الستينيات أو السبعينيات.

يمكنني أن أتفهم استخدام أساليب مختلفة للتمييز بين العصور المختلفة و/ أو محاولة ملاءمة الشعور بتلك أزمنة المحددة، ولكن الأمر كما لو أن هذا قد تقرر بشكل عشوائي – ولست متأكدًا مما إذا كان هذا أفضل أم أسوأ ، فالأمر يعتمد على مدى موافقتك أو عدم موافقتك على أي من وجهات النظر المتنافسة المختلفة في الفيلم – تقديم قصة شتراوس عمدًا من خلال  الأبيض والأسود، وتقديم جلسات الاستماع ضد أوبنهايمر على أنها تآمرية وصارخة حرفيًا في نفاقها، وتقديم خلفية لوس ألاموس الدرامية بطريقة أكثر لطفًا واحترامًا. ربما تكون محاولة نولان هنا هي خلق تجسيد سينمائي لقصة حياة أوبنهايمر على نحو مماثل لنظرية الكم في جوانب معينة – خلط الأزمنة والقفز فيما بينها بشكل غير متساو وغير متوقع (من خلال مونتاج ينتقل انتقالات قصيرة ومتنافرة أحيانا)، مع استخدام التنوع والتباين في تقنيات الألوان والصور الفوتوغرافية، والانتقال بين أساليب نولان الواضحة في الإخراج الكلاسيكي، والأسلوب التجريبي تقريبًا في التصوير والصوت والمونتاج (خاصة في الفصل الأول، ثم لاحقًا في بعض مشاهد الذروة المتعلقة باختبار القنبلة)، واللجوء إلى طرق في السرد متقاربة ومتباعدة أحيانًا بشكل متزامن وأحيانًا أخرى بشكل عشوائي.

هل تعبير نولان عن الزمن موجود دائما في وقت واحد، إذا جاز التعبير؟ هل هكذا تبدو الفوضى والارتباك والغموض في نظرية الكم عندما يتم تجسيدها من خلال فنيات الإخراج السينمائي وتجسيد شخصية رجل كرس حياته للفيزياء الكمية؟

تصعب الإجابة، لأنه إذا لم يكن الأمر كذلك، فقد قام فقط بتعديل السيرة الذاتية وحاول تضمينها الكثير من المواضيع التي قد يكون لكل منها جاذبيتها الخاصة ولكنها لا تنسجم معًا جيدًا من خلال الشكل الذي ابتكره هنا، وهو ما قد يعكس فشلا في المعالجة.

إذا كان الأمر كذلك، فقد حاول معالجة السيرة الذاتية من خلال تضمين العديد من المواضيع التي يحمل كل منها جاذبيته الخاصة والتي يضمها معًا بشكل عشوائي وفوضوي على الشاشة ولكنها لا تزال جميعها جزءًا من نفس الحياة المعيشية، وكل هذه الفوضى. وكل هذه الخيوط المختلفة هي جزء من القصة الأكبر التي تدور حول المحور المركزي وهو إدخال الأسلحة النووية إلى عالمنا.

إن كون هذا إنجازًا علميًا رائعًا وضمانًا محتملاً بأن البشرية محكوم عليها بالفناء، فإن ذلك سيكشف بعمق عن القضايا التي ابتلي بها أوبنهايمر في هذا السرد ويمثل الطبيعة البشرية التي تحقق اكتشافات خارقة ثم تتعلم كل الدروس الخاطئة منها. ومن المؤسف أن “أوبنهايمر” لا يرقى إلى مستوى المناسبة في هذا الصدد، إذا كان هذا هو القصد.

 والمشكلة الأكبر هي أن بقية القصة – وخاصة العرض الضحل لعلاقاته، والمأساة ذات الصلة، والمشاهد الجنسية والعُري التي يهتم بإبرازها كثيرًا – لا تثير الاهتمام تماما مثل المشاهد التي تصور العاملين في لوس ألاموس. وبين كل بضعة مشاهد في لوس ألاموس، تنتقل القصة فجأة إما إلى الغرفة الصغيرة التي يتعرض فيها أوبنهايمر لساعات من الاستجواب واغتيال الشخصية، أو إلى قاعة كبيرة في الكونجرس حيث يجري استجواب ستراوس. ما هو الوقت الذي تعتقد أنك تود قضاءه في مشاهدة عرض سينمائي مفصل لأي من هذين الأمرين؟

حسنًا، من الأفضل أن تكون إجابتك “ساعات لكليهما!” لأن هذا ما يخبئه لك أوبنهايمر. هناك مبالغة كبيرة في تقدير الجنس والعُري في وسائل الإعلام، ومع ذلك فهي أيضًا غير ضرورية تمامًا لدرجة أن هذه المشاهد لا تضيف شيئًا إلى الفيلم، أو إلى فهمنا لأوبنهايمر- أو لفهم العلاقات، وحرفيًا فالعري والجنس لا يخدمان شيئا. وخلال أحد مشاهد العري والجنس، ارتفعت ضحكات الجمهور على السخافة الفكاهية غير المقصودة في ذلك المشهد.

إذا قمت بتقسيم “أوبنهايمر” إلى ثلاثة أجزاء متميزة (يمكنك هذا بسهولة)، فإن كل جزء من الأجزاء الثلاثة: لوس ألاموس، وتحقيق اللجنة القضائية بخصوص التصريح الأمني، وجلسات الاستماع لتأكيد أو رفض ترشيح ستراوس في الكونجرس – يبدو أن كلا منها، أو ربما ينبغي، أن يكون فيلمًا مستقلا، أو فصلا في مسلسل قصير. فكل قصة تبدو كما لو أنها من تأليف مخرج سينمائي مختلف بأفكار ونوايا مختلفة.

إذا كان فيلم “جيه إف كيه” JFK للمخرج أوليفر ستون قد افتقر إلى نقطة ومنظور سردي واحد، وركز فقط على اطلاق الرصاص (الانفجار) أثناء الاجتماعات، وبدلاً من السرد الشامل بدا مقيدًا ومستقرًا جدًا، ليصبح وكأنه يرتدي أحذية من الرصاص، وإذا تم تضخيم اللحظات الأكثر تجريبية، وإذا كان قد تألف من المشاهد الأكثر مللاً والأقل أهمية في معظم الأحيان. وتخيل لو أن هذه المشاهد احتوت على الجنس والعري بشكل سريري بارد وخال من المشاعر قدر الإمكان، ناهيك عن أنها خارج المكان وغير ضرورية إلى حد التشتيت- البطل وزوجته يناقشان القضية وهما عاريان أو يمارسان الجنس لكنهما أيضًا في المحكمة.

 تنتشر الأفكار السياسية للفيلم أيضًا في جميع أنحاء الخريطة، حيث تبدو في بعض الأحيان وكأنها تمثل وجهة نظر واحدة فقط، ثم تتجاهلها لصالح شيء آخر، مع الإصرار طوال الوقت على عدم وجود منظور حقيقي على الإطلاق. ليس من الضروري حتى أن يكون هناك افتقار إلى موقف معين بقدر ما يكون التذبذب اللامبالي هو المشكلة حقًا.

والنتيجة النهائية هي فيلم يريدنا أن نشعر بأهميته منذ البداية، ويحاول باستمرار تذكيرنا بتاريخه النبيل وتداعياته التي لا تتضمن أقل من تهديد وجودي للوجود الإنساني، ولكنه يبدو كذلك. يقول القليل جدًا ولا يعني شيئًا منه. إنه فيلم عن أوبنهايمر وعن الكثير من الأشياء التي حدثت له، بعضها مثير للاهتمام، وبعضها مثير للاهتمام بما يكفي لمقال في مجلة، ومعظمها لا يستحق أن ندفع مقابل الجلوس لمدة ثلاث ساعات للمشاهدة.

وعلى الرغم من كل هذه المآخذ، إلا أن مستوى التمثيل مذهل. يستحق سيليان ميرفي Cillian Murphy بالتأكيد جائزة الأوسكار، وروبرت داوني جونيور بارع جدًا لدرجة أنك قد تنسى حرفيًا أنك تشاهد أحد أشهر النجوم وأكثرهم شهرة في العصر الحديث.

استحقت إميلي بلانت فرصًا أكبر بكثير للتألق في الفيلم، ولكن عندما أتيحت لها الفرصة أخيرًا، قدمت واحدة من أكثر اللحظات العاطفية إشباعا في الفيلم (والتي لا يوجد سوى عدد قليل جدًا منها).

 يتمتع مات ديمون بالمرح ويعكس روح الدعابة المحببة في بعض الأحيان، بينما تبذل فلورنس بيو قصارى جهدها من خلال دور مكتوب بشكل رقيق للغاية ولا هوادة فيه في تصويره الاتهامي المؤلم.

قد يكون هناك مشهد جيد أو حتى رائع، ومشاهد أخرى متسلسلة ممتدة بشكل رائع، وجميلة دائمًا. ولكن “أوبنهايمر” فيلم مخيب للآمال، بدءًا من عدم قدرته بشكل عام على سرد قصة متماسكة، ثم افتقاره إلى السبب الذي يدفعنا إلى الاستثمار في أي من القصص الشخصية لهؤلاء الأشخاص. والاختبار الذري، الذي ينبغي أن يكون أحد المعالم البارزة على الأقل بصريًا وعاطفيًا، هو في الغالب مجرد لقطات دعائية (تريللر) إلا أنه أطول، وبمجرد انتهاء المشهد، شعرت بالحيرة وتساءلت: “ماذا كان هذا؟”.

لا يعني ذلك أنني أردت فقط حدوث انفجار نووي كبير بواسطة الكمبيوتر- فأنا أفهم المقصود من هذا الفيلم وأعرف كل الحجج والنقاط المقدمة حول كيف ولماذا لا ينبغي التعامل مع الحرب والدمار على أنه ترفيه، ولماذا لا ينبغي لقصة أخلاقية محتملة أن تعظم أو تمجد المحرقة النووية باعتبارها “إنجازا”. لكن هذه اللحظة، بما في ذلك اللقطات الفعلية المستعادة والمحسنة، يمكن ويجب أن تنقل بسهولة الانطباع المخيف والواسع النطاق للانقراض المطلق- وكذلك ردود فعل أوبنهايمر والآخرين الذين يشهدون ذلك- التي يمكن أن تضيف إلى الفيلم (يتضمن الفيلم بعض الإيماءات في هذا الاتجاه بعد الاختبار، ولكن ليس بقدر ما كنت أتوقع).

هذه هي اللحظة المركزية في حياة أوبنهايمر، ولهذا السبب نتحدث باسمه اليوم، ولهذا السبب يوجد هذا الفيلم، ولهذا السبب يتردد صدى تحذيراته. لذلك أشعر أنه كان ينبغي أن تكون لحظة أكثر مركزية في الفيلم، بدلاً من الحصول على وقت أقل أمام الشاشة وتمثيل عاطفي مساوٍ تقريبًا لحياته العاطفية.

أنا من أشد المعجبين بأعمال نولان، بغض النظر عن الانتقادات التي وجهتها له على مر السنين. لقد توقعت تمامًا أن يذهلني “أوبنهايمر” وأن يكون أحد أفلامي المفضلة لهذا العام. لقد تخيلت أنه سيكون ضمن قائمة أفضل 10 أفلام لعام 2023 وأحد المتنافسين الأساسيين على قائمتي لأفضل فيلم مرشح. وبدلاً من ذلك، أشعر بخيبة أمل وسأواجه صعوبة في مشاهدة “أوبنهايمر” مرة أخرى.

يُعد “أوبنهايمر” أضعف أفلام نولان حتى الآن، ويتناقض تمامًا مع رؤيته الطموحة والمعقدة كما تبدت في “دنكيرك”. ومع ذلك، إذا كان حصولنا على أفلام مثل Dunkirk وInterstellar وInception يعني أننا قد نحصل في بعض الأحيان على جهود معيبة مثل Oppenheimer والتي قد تتضمن لمحات من العظمة، فأنا ممتن إلى الأبد لأنه يواصل تحقيق ذلك.

Visited 16 times, 1 visit(s) today