“أنيت” و”الثور الهائج”: التحديق في الهاوية
سلوى شلبي
“لا تحارب الوحوش فتصبح واحداً منهم وإذا حدقت للهاوية ستحدق هي أيضاً بك “فريدريك نيتشه
يبدأ فيلم “الثور الهائج” للمخرج “مارتن سكورسيزي” بلقطات لروبرت دي نيرو (جيك لاموتا) مرتدياً رداء الملاكمة وهو يقفز ويسدد لكمات في الهواء وهو الطقس ذاته الذي يمارسه آدم درايفر (هنري ما كهنري) في فيلم “أنيت” للمخرج “ليو كاراكس” قبل تقديم عرضه الكوميدي وهو ما اتجه إليه لاموتا بعد انهيار مستقبله في الملاكمة.
أثناء العرض يجعل هنري الجمهور يتكهن بالسبب الذي جعله كوميديان عن طريق أغنية فتظهر سخريته اللاذعة ولا مبالاته ويطفو على السطح الغضب الذي يشتعل داخله، يسخر كثيراً من الموت وعندما يتساءل الجمهور إذا ما كان سبب عمله بالكوميديا هو الخوف من الموت يقول” لا، فأنا أتعاطف مع الهاوية لذا يجب ألا أنظر ناحيتها”
ومثل لاموتا يقع هنري في حب فتاة جميلة ورقيقة ماريون كوتيار (آن ديفرانو) مطربة الأوبرا الشهيرة. لكنه لم يكن يضربها ويمنعها من التحدث مع أي رجل آخر بدافع الغيرة مثلما فعل لاموتا مع زوجته حتى قاده جنون الغيرة لاتهام أخيه (قام بدوره جو بيشي) بالخيانة فقام بضربه ضرباً مبرحاً وانتهى الأمر بخسارته لعلاقته بشقيقه. غيرة هنري تنبع من مصدر آخر فهو ناقم على العالم وعندما تبدأ حياته العملية بالانهيار-عندما يمزح في واحد من عروضه الكوميدية بشأن أنه قتل أن زوجته من الضحك-يتفاقم الغضب بداخله وتفتر علاقته بزوجته.
الرقص في العاصفة
تذهب آن مع هنري وابنتهما “آنيت”– التي تولد على هيئة دمية- في رحلة بحرية في محاولة لرأب الصدع في علاقتهما. أثناء الرحلة تهب عاصفة ولأن هنري يعاني إدمان الخمر مثل لاموتا يجبر آن على الرقص في العاصفة على سطح اليخت وحينما ترجوه ليهدأ ويضمها ليحميها من العاصفة فهي تخشى ” أن تفقد صوتها في هذا الطقس العاصف”. يسخر هنري من مخاوفها “كل ما تفعلينه هو أنك تموتين كل ليلة ثم تقومي بالانحناء حتى الفجر”. يواصل هنري رقصته لتنتهي بسقوط آن لتغرق في البحر بينما يتجمد هو في مكانه عاجزاً حتى عن أن يمد يده لإنقاذها.
يأخذ هنري آنيت إلى الشاطئ في قارب نجاة وهناك يتناهى إلى سمعه صوت آن وهي تغني يظن أنها هلوسة ستنتهي بطلوع النهار لكننا نشاهد آن في هيئة مشوهة بعد أن غرقت تتوعده بأنها ستطارده كل ليلة وستهب صوتها لابنتهما لتظل موجودة في حياته دائماً.
السقوط في الهاوية:
يكتشف هنري قدرة آنيت على الغناء فيستدعي المايسترو (يلعب دوره سيمون هيلبرغ) الذي كان العازف المصاحب لآن في الأوبرا. يقترح عليه هنري أن يقود الأوركسترا لتغني آنيت ويجوبوا العالم ليجنوا أموالاً طائلة. يرفض المايسترو في البداية “لأنه استغلال للطفلة” لكنه يرضخ حتى يظل بالقرب من الطفلة لأنها تذكره بأمها التي “لم يمت حبها بداخله” ولأنه يشك بأن آنيت قد تكون ابنته. يعلم هنري احتمالية ألا تكون آنيت ابنته فيصاب بالذعر من فكرة فقدانها. يقتل هنري المايسترو وتشهد آنيت على جريمته، ترفض الغناء وتخبر العالم بأن أبيها قاتل.
ورغم أنه يصعب المقارنة بين الفيلمين لأن “الثور الهائج” يتخذ قالب الفيلم الرياضي ليصور رحلة صعود وهبوط بطله بشكل درامي بينما يستخدم فيلم “آنيت” قالب الأفلام الغنائية ليروي قصة حب أشبه بقصة الجميلة والوحش باختلاف أن الجميلة هنا تدفع حياتهاً ثمناً للوقوع في حب الوحش فالفيلمين في الأساس يحكيان قصة رجلين دمرا حياتهما بسبب الغضب. فهنري يتشابه مع لاموتا في الكثير فكلاهما جاء من أسرة فقيرة وعانيا من إدمان الخمر وظلا يحملان كماً هائلاً من الغضب بداخلهما وربما كان هنري أكثر وعياً بتأثير الغضب على حياته فبعد القبض عليه يغني أغنية الرجوع بالزمن ليتمنى لو أنه ” لم يسمح لغضبه بالتفاقم إلى هذا الحد”. في حين أن لاموتا ينهار في السجن ويبكي وهو يسدد اللكمات للجدار متسائلاً لماذا! “يقولون إني حيوان لكني لست حيواناً”.
كلاً من هنري ولاموتا امتلكا مقومات عدة للسعادة في مرحلة ما من حياتهما لكن ذلك لم يكن كافياً فالحب كان يخنق هنري ويدقع لاموتا للجنون والنجاح والشهرة والمال لم يتمكنوا من ملأ الفراغ وإخماد الغضب الكامن بداخلهما ففقدا كل شيء وانتهى الأمر بكليهما وحيداَ. مع اقتراب نهاية فيلم الثور الهائج يجد لاموتا نفسه وحيداً بعد أن حكم عليه بالسجن لمدة عام لتقديم الخمر للقُصر في الملهى الخاص به، فخسر زوجته وأطفاله حتى حزام البطولة الذي ربحه قام بتحطيمه ليبيع المجوهرات الموجودة بداخله وينتهي الفيلم وهو يستعد لتقديم أحد عروضه ويتحدث إلى نفسه في المرآة. وينتهي فيلم آنيت بمواجهة بين هنري وابنته بعد أن تحولت من دمية إلى فتاة حقيقية فقد تحررت أخيراً من استغلال ابيها ومن كونها أداة انتقام لأمها تقول له ” الآن لم يعد لديك شيئاً لتحبه” خسر هنري كل ما أحبه وسيقضي بقية حياته وحيداً في السجن لا يملك سوى الندم والبكاء على أطلال حياته.