أمل الجمل تكتب: وفي السينما حياة
في تلك الأيام كانت الحالة العامة في البلد وكذلك الطقس شديد البرودة يشي بالانصراف عن العروض السينمائية بالمراكز الثقافية، أنه لن يحضر أحد، ولهذا السبب علقت بعض تلك المراكز أنشتطها، فالمظاهرات كانت على أشدها في التحرير، وفي مناطق مختلفة من أرجاء البلاد، كانت النفوس متأججة في البيوت والميادين والشوارع، فالاعتصامات لا تتوقف وقطع الطرق مستمر يكاد يقف الحياة. فيزيد الأوضاع سوءاً. بل والتهاباً.
ورغم كل ذلك امتلأت قاعة العرض السينمائي عن آخرها في ذلك اليوم الأخير من شهر يناير بمقر مركز الثقافة السينمائية – وكذلك تكرر الأمر في الأسابيع اللاحقة طوال شهر فبراير – حتى أن عدداً من المشاهدين لم يجدوا لهم أماكن فظلوا واقفين طوال العرض. واللافت أيضاً هو صمود الجمهور حتى النهاية رغم قسوة وفظاعة عدد ليس بالقليل من مشاهد الفيلم الكوري بييتا للمخرج كيم كي ودك.
شهد ذلك اليوم اللقاء الثالث الذي ينظمه بيت السينما في 36 شارع شريف والذي استهل نشاطه بعرض العاشق للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد. وهو الفيلم السوري الممنوع من العرض في كثير من المهرجانات السينمائية العربية. ثم توالت العروض واستمرت بنجاح حيث يتم عرض نخبة من أهم الأفلام سواء الحديثة عربياً وأجنبياً أو تلك الأفلام القديمة التي ظلمت في العرض الفضائي مثل فارس المدينة لمحمد خان. يُنسق العروض ويدير النقاش في أعقابها الناقد السينمائي الشاب المجتهد أحمد شوقي.
قرصنة مشروعة
حكاية عروض بيت السينما وغيرها من المراكز الثقافية تُثير أكثر من إشكالية، أولها غضب بعض حراس السينما الذين ينادون بضرورة احترام حقوق الملكية الفكرية، لذلك أعلن بعضهم أنهم ضد تلك العروض على اعتبار أنها أحد أشكال القرصنة. والحقيقة أن رأيهم رغم وجاهته لكنه ينطوي على تزيد. لأنه في تقدير كاتبة هذه السطور أنه حتى لو كانت هذه قرصنة فهي “قرصنة مشروعة”. لماذا؟ لأن القائمين على تنسيق وإقامة تلك العروض لا يستخدمونها استخداماً تجارياً أو بغرض تحقيق مكسب مادي، بل على العكس إنهم يبذلون من وقتهم وجهدهم لإنجاح تلك العروض والحفاظ على استمراريتها وجذب الجمهور إليها. قرصنة مشروعة لأن تلك العروض تلعب دوراً ثقافياً حيوياً نحتاجه جميعاً خصوصاً في ظل الظلام الذي نحياه في تلك الآونة على كافة المستويات. قرصنة مشروعة لأننا جميعاً – أصحاب العقول المستنيرة أو من كان لديهم استعداد للاستنارة – إلى درجات متفاوتة بحاجة إلى المقاومة، وإلى تدعيمها حتى نواصل صراعنا ضد قوى الظلام، والسينما من دون شك هي أحد أهمدروع تلك المقاومة، مقاومة على المستوى النفسي وعلى المستوى الثقافي والتوعوي. ومن هنا نستطيع أن نفسر لماذا أقبل عدد كبير على مشاهدة عروض بيت السينما رغم الأجواء السياسية والاقتصادية والأمنية السيئة والمتردية.
إن تفاعل الناس مع العروض السينمائية بالمراكز الثقافية في تلك الأيام العصيبة يُعيد إلى ذاكرتي واقعتين مشابهتين لكنهما تُؤكدان أنه مهما حاصرنا الموت ففي السينما حياة وخلاص تدريجي. الواقعة الأولى يوم أن بدأت ماريان خوري بانوراما الفيلم الأوروبي قبل الماضية، ووقتها كان التحرير مشتعلاً غارقاً في الدماء. البعض يومذاك نصح ماريان بتأجيل البانوراما أو إلغائها بسبب الظروف التي تمر بها البلد، لكنها غامرت وأصرت وبدأت عروض البانوراما وكانت المفاجأة تزايد الإقبال على العروض، حتى أن عدد غير قليل كانوا يأتون للعروض ثم يعودون إلى الميدان.
الواقعة الثانية تتعلق بما حدث في بيروت في أكتوبر الماضي وتحديداً يوم 19 أكتوبر 2012 حيث وقع تفجير بعد الظهيرة في حي الأشرفية بوسط بيروت راح ضحيته ما يزيد عن 58 روح بشرية تقريباً. أثناء ذلك كانت تظاهرة أسبوع أفلام «آرتي» تشهد يومها الثاني في صالة سينما «متروبوليس» (مركز صوفيل، الأشرفية)
توقع البعض أو كُثر أن التظاهرة قُضي عليها. المفاجأة أنه رغم القتلى والجرحى والدمار وربما الخوف لكن في الثامنة من مساء يوم التفجير ذهب جمهور ليس بالقليل إلى العرض. حينذاك كتب الناقد السينمائي والزميل اللبناني نديم جرجورة يصف من ذهبوا لمشاهدة الأفلام قائلاً: “أرادوا اختبار الذات في مواجهة حدث مفصلي في مسيرة الخراب اللبناني. أرادوا التأكيد لأنفسهم ربما أن للسينما موقعها المحصّن في نفوسهم وعقولهم… هكذا يُمكن فهم التحدّي. لن تمنع السياسة والأمن ومساوئهما من متابعة العيش، وإن على التخوم الواهية والهشّة للحياة اليومية… فالسينما قادرة على جعل الصالة المعتمة أكثر إضاءة من بلد لم يكن يوماً بلداً ولا وطناً ولا أمّة.”
وما أشبه الليلة بالبارحة. عندنا أيضاً في أرض الكنانة ذهب الجمهور إلى السينما ليحتفوا بها وبالحياة رغم أنف القتل والخراب والديكتاتورية الدينية الظلامية. فلا البرد مهما كان قارساً، ولا الاضطرابات الأمنية مهما كانت ضراوتها، ولا دماء ضحايا التعذيب والسحل والقتل قادرة على قتل فن السينما أو الرغبة في متابعة جديده.