“أماركورد” تحفة المايسترو فيديريكو فيلليني
عادة ما يوصف المخرج الايطالي الكبير فيديريكو فلليني بكونه مخرج الذكريات أو الذاكرة حسب تفضيله، فهو واحد من أكثر المخرجين في العالم الذين نقلوا سيرهم الذاتية إلى الشاشة الكبيرة، والأمثلة من فيلموغرفيته أكبر من أن تعد، يروي في مذكراته أنه لكي يتحرر نهائيا من بعض الذكريات والأماكن كان بضعها في أفلامه؛ مثل شخص يفرغ شقته ويضع أثاثه بالمزاد، ليتخلص عبرها من الأشياء والأحداث. في هذا السياق كان ينشد حسب تعبيره أن يكون فيلمه “أماركورد” الوداع النهائي لمسقط رأسه ريميني.
يعني عنوان الفيلم “Amarcord ” باللهجة المحلية لمنطقة روماني “أتذكر”، ويحيل بزمن الفعل على تيمة الفيلم نفسه التي تدور حول استعادة جزء من مراهقة المخرج في إيطاليا منتصف الثلاثينات المحكومة بإرث الكنيسة من جهة وقبضة الفاشية بزعامة بينيو موسوليني من جهة ثانية.
تدور أحداث الفيلم في مدينة متخيلة اسمها ” بورغو” تقع على البحر الأدريتيكي، ونعلم من مذكرات المخرج أنها الاسم المستعار الذي اختاره لمسقط رأسه ريميني، كما أعلمتنا هذه المذكرات بأن الشخصية الرئيسية في الفيلم “تيتا بيوندي” هو فيلليني نفسه.
تبدأ الأحداث بهبوب رياح على المدينة مصحوبة بفقاعات بيضاء (جنية الزغب)، يستدل السكان بمقدمها على انحسار الشتاء ومقدم الربيع، وينظمون طقسا احتفاليا بالمناسبة يتمثل في محرقة كبيرة لتمثال ساحرة الشتاء العجوز وقودها الأثاث القديم وكل ما يٌرغب في التخلص منه، وهنا تفتح السينما أمامنا آفاق المقارنة الأنتربولوجية، ففي قرى الجنوب المغربي ثمة طقس احتفالي ينظم ليلة عاشوراء يشابه في كثير من جزئياته طقس تأبين الشتاء في الفيلم.
شكل “تيتا بيوندي” الذي يلعب دوره برونو زانين محور الأحداث، وسبق أن نوهنا إلى أن هذه الشخصية تمثل فلليني في مراهقته، فهو مراهق يعيش تحث وطأة سلطة أبوية مطلقة يمارسها والده أوريليو الذي يعمل رئيس ورشة بناء، وهو في خلاف دائم مع زوجته ووالدة تيتا السيدة ميرندا الكاثوليكية المتدينة، يعيش معهما في عائلة ممتدة الجد الذي يتمتع بروح الدعابة والخال المغرق في سلبيته في الداخل ودنجوانيته في الخارج ثم الأخ الأصغر، خارج البيت يخوض تيتا مع أصدقائه في ألعاب جنسية، لكنه لا يتحرر من سلطتين آخريتين هما سلطة الكنيسة وسلطة المدرسة، وهنا يقدم فيلليني صورة كاريكاتيرية عن هاتين المؤسستين من خلال القس في مشهد الاعتراف؛ وبورتريهات كاريكاتيرية لمدرسي التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والفن والرياضيات واللغة اللاتينية ، وكان ينتقل بين المشاهد المسرحية التي خص بها كل واحد منهم في استعمال ملفت للمونتاج.
في الفيلم، وظف فيللني تقنية من تقنيات الرواية وهي استعمال إحدى شخصيات العمل في موقع راوي الأحداث، إذ يقدم المحامي الذي يلعب دوره لويجي روسي السياق التاريخي لأحداث الفيلم معلقا على بعض المواقف بطريقة تذكر برواة الميثولوجيا الرومانية القديمة.
على أن الشخصية التي طبعت أحداث الفيلم، تبقى بلا مراء لاكرديسكا التي لعبت دورها الممثلة والمغنية الفرنسية ماغالي نويل، وهي مصففة شعر تتمتع بقوام ونظرة نجمة سينمائية جعلتها تسيل لعاب جميع رجال البلدة، بل ورد على لسان أصدقاء تيتا في الفيلم أنها أجمل من غاريتا غاربو التي لم تكن سوى فتاة أحلام مراهقي الثلاثينات، طيلة الفيلم جعلفلليني لاكرديسكا تتجول في حواري “بورغو” رفقة أختيها مستعرضة مفاتنها لتثير مشاعر الإعجاب عند البعض وتوقظ أعراض الكبت الجنسي عند البعض الآخر، والحقيقة أن هذه الشخصية لم تكن من وحي الخيال، وإنما كانت شخصية حقيقية بصمت ذاكرة فيللني نفسه، بدليل أنه يحكي في مذكراته أنه بعدما أصاب ما أصابه من الشهرة تملكه الفضول لمعرفة مصير هذه السيدة، واقتفى آثرها بسيارته الجاغوار إلى غاية ضيعة بائسة ليجدها عجوز ضئيلة ذهب كل بهائها.
تؤثث المشاهد أيضا مجموعة من الشخصيات؛ شلة تيتا الشقية وكل اهتمامها مطاردة مظاهر الجنس، وخلق المقالب ومعاكسة لاكرديسكايقودهم بيبو (ألفارو فيتالي) الذي اكتشفه فيللني وصار بعدها نجم الأفلام الكوميدية ذات المسحة الجنسية؛ فولبينا المومس الشقراء الشبقة؛ البائع المتجول بمبالغاته وقصصه الخيالية؛ عازف الأوركوديون الأعمى؛ بائعة التبغ الشهوانية؛ المتسول الذي كان يتحول إلى راوي؛ سكوريزا سائق الدراجة النارية المهوس بالسباق؛ بجانب شخصيات أخرى كثيرة يطول مجال ذكرها في هذا المقام.
بموازة ثراء شخصيات الفيلم ، تتعدد الأماكن بحمولتها ساحة البلدة؛ صالون الحلاقة حيث تعمل لاكرديسكا؛ ورش البناء؛ المدرسة؛ الكنيسة؛ الشاطيء؛ المشفى؛ الحانة؛ صالة سينما فيلغور؛ الضيعة؛ تمثال النصر، ثم الفندق الكبير الذي شهد حدثين تمثل أحدهما في قدوم أمير من العائلة المالكة جعل المجلس المحلي يختار له لاكرديسكا ليتخذها للتسري خلال مقامه، ومن هنا اكتسبت لقبها “كرديسكا”(يعني تفضل بالقبول وهي العبارة التي عرضت بها نفسها على الأمير)، أما الحدث الثاني فقدوم أمير عربي بمعية ثلاثين جارية منقبة ادعى البائع المتجول أنهن راودانه ونال منهن، ولا أدري ما إذا كان نقاد السينما العربية في السبعينات قد أضافوا فيلم فيلليني إلى قوائمهم عن الأعمال المسيئة لصورة العرب والمعادية لشخصية العربي.
تميز “أماركود” عن أفلام فيللني بالحيوية وانسيابية السرد، لكنه في العمق يتجاوز كونه مجرد كوميديا وردية خفيفة لحياة الريف الايطالي في الثلاثينات، ليطرح قضايا سياسية عميقة، فإذا كان فيللني قد حافظ على طرحه المعروف في سابق أعماله عن موقفه من قيم الكنيسة الكاثوليكية، إلا أنه لم يتسامح مع الفاشية التي كان الفيلم هجاء حادا لها جعل من “أماركورد” أكثر أفلام فيللني سياسية، بدا ذلك عبر مجموعة من المستويات منها التصوير الكاريكاتيري للتجمعات الفاشية والسخرية من رجالاتها ومنهم موسوليني نفسه الذي لم يمنع تشكيل صورته بآلاف الورود من إبرازها بشكل بشع . ذات ليلة، يقوم أحد النشطاء الشيوعيين ببث موسيقى مناوئة من غرامافون وضع قرب جرس الكاتدرائية ولإسكات الغرمافون وإسقاطه من أعلى الكاتدرائية، لم يجد الفاشيون من حيلة سوى إطلاق الرصاص في مشهد يوثق لجبن الفاشيست وتفاهتهم، يُشك في أوريليو والد تيتا الذي لا يحضر تجمعات الفاشيست، فيجبر على شرب زيت الخروع في توثيق لممارسات الفاشية الإيطالية البشعة، ويستفيد فيللني من النهج الدعائي للفاشية ليصور واحد من أجمل مشاهد الفيلم حين تخرج الساكنة في قوارب صغيرة إلى عرض البحر لمشاهدة مرور السفينة العملاقة “لوريكس” التي قدمت باعتبارها إحدى الانجازات الفاشية الكبرى .
زمنيا استغرق السرد سنة كاملة، في آخر الشتاء تموت السيدة ميرندا والدة تيتا بعد مرض قصير، فيغرق في حزن عميق، تصادف لاكرديسكا أخيرا الحب فتتزوج ضابطا بحريا، ويقيم لها السكان حفل توديع يصادف هبوب جنية الزغب معلنة رحيل الشتاء مرة أخرى.
يدين الفيلم في نجاحه لأربع عناصر أولها الإخراج المبدع للمايستروفيديريكو فيلليني، وثانيها للسيناريو المحكم الذي تعاون فيللني في كتابته مع تونينو كيرا، وثالثهما للموسيقى التصويرية المعدة من الكبير نينا روتا، ورابعهما لعمل مدير التصوير جيسيبي روتينو.
فيلليني بين ماغالي نويل (لاكرديسكا) وزجته جوليتا ماسينا أثناء عرض الفيلم بمهرجان كان 1974
لقد كانت الموسيقى التصويرية دوما إحدى نقط القوة في السينما الايطالية، ومع كل فيلم جديد لفيللينيصار حضور المبدع نينا روتا تقليدا، وقبل تفرغه لموسيقى الفيلم انتشى روتا بنجاحه العالمي المدوي في فيلم العراب لفرنسيس فورد كوبولا، ووضع للفيلم لحنين أولهما اللحن اللازمة المعبر عن النكوص إلى الماضي في ميلوديا تعبر حركتها الأولى عن الحنين حيث يتصاعد اللحن ثم ينخفض في الحركة الثانية معبرا عن التحسر، ومما يدل على نجاح روتا في التعبير عن الذاكرة و معاني التذكر اتخاذ اللحن جينريك لكثير من البرامج التلفزيونية المتخصصة في تاريخ السينما أو الممهدة لبث الأفلام الكلاسيكية القديمة، أما اللحن الثاني الثانوي فهو لحن مرح وحيوي صيغ لمرافقة مختلف الاحتفالات في الفيلم باستعمال آلات النفخ.
جعل التصوير فيلم “أماركورد” تحفة بصرية، إذ تميز بالمزاوجة بين اللقطات العامة واللقطات المتتابعة، ولعبت اللقطات العامة دورا كبيرا في إبراز شعرية الصورة، فلم يكن التصوير عفويا محايدا، وإنما كان فيللني ومدير تصويره يعملان على تشكيل الكادرات بالعناصر التي تخدم شعرية الصورة وكأنه يصوغ شعرا بصريا، وقد بصمت الكثير من اللقطات في الفيلم خيال هواة السينما منها مشاهد فولبينا بقدها الممشوق على شاطئ البحر؛ مشاهد منارة البحر في ريميني؛ مشهد الغروب في خلفية الشجرة العظيمة مع السلم حيث صعد العم تيو؛ مشهد أضواء سيارة بطل السباق وهي تسلط ضوئها على نسوة جميلات في الظلام اقتربن من السيارة لتحية البطل؛ مشهد الثور البري في الثلج؛ مشهد الطاووس النافث لريشه في الثلج المتساقط؛ الكلب الباسط ذراعيه وحيدا في الشارع الخالي؛ مشهد البدين الذي يمشي قرب الشاطئ بالتوازي مع طابور أطفال ذكر بمشهد مماثل من فيلم “I Vitelloni” لنفس المخرج؛ نفرة المراكب لملاقاة السفينة العملاقة “لوريكس ” ومشهد الأخيرة بأضوائها القوية التي تقطع ظلمة الليل؛ مشهد تيتا يبحث عن لاكرديسكا التي تمشي في الاتجاه المعاكس من نفس الطريق وقد حال بينهما الثلج، وكلها مشاهد بقيت عالقة في ذاكرة كل من شاهد الفيلم، وأبرزت بالملموس مرة أخرى سطوة الصورة وأولويتها في السينما على ماعداها.
حاز فيلم “أماركورد” على استحسان النقد وإعجاب الجمهور، ونال كذلك جائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي سنة 1974، كما اعتبر أجمل أفلام فيللني وأكثرها تماسكا وقابلية للفهم، و يعود كل ذلك إلى أن المايسترو حقق في فيلمه المعادلة الصعبة المتمثلة في المزاوجة بين ثلاث عناصر أساسية هي ؛ رؤية المخرج وطموحه في الإنجاز؛ والتقيد بالضوابط الفنية التجريبية ؛ ثم تحقيق استجابة وتفاعل الجمهور العريض.