“أكثر السنوات عنفا” السعي المحموم للصعود في مجتمع فاسد
يعود المخرج الأمريكي باسم جيه سي شاندور (اختصارا لإسمه الثلاثي جيفري ماكدونالد شاندور)، في فيلمه الثالث “أكثر السنوات عنفا” A Most Violent Year، ليؤكد موهبته الكبيرة التي كشف عنها، بوجه خاص، في فيلمه الثاني “كل شيء ضاع” الذي يعتمد على أداء ممثل واحد هو روبرت ريدفورد، بعد أن ترك وحيدا في قارب نجاة صغير يواجه مصيره في عرض البحر.
هذا فيلم من أفلام الجريمة، ذو نكهة أخرى مختلفة، فهو يفترض أن يكون من النوع المعروف في السينما الأمريكية بـ “ثريللر” thriller، أي فيلم الإثارة والتشويق والجريمة، لكنه لا يشبه أيا من الأفلام المماثلة، فهو لا يعتمد على الإثارة السطحية الخارجية، بل فيلم عقلاني إلى حد بعيد، يتعامل مع الشخصيات والأحداث، بحيث يخفي أكثر مما يظهر، بل يكتفي بالإشارات والإيماءات وبالحوارات التي تبطن غير ما تظهر، وخصوصا ما على لسان الشخصية الرئيسية في الفيلم، “أبيل موراليس” (أوسكار إيزاك) وهو مهاجر من دولة في أمريكا اللاتينية (غير محددة في الفيلم)، نجح في تأسيس شركة لنقل وتوزيع الوقود السائل، لكنه أصبح يواجه اعتداءات من مصدر غامض، يتعرض لها سائقو الناقلات التي تنقل الوقود، وسرقة كميات هائلة من هذا الوقود في تلك السنة حالكة السواد- 1981، التي يقال إنها من أكثر سنوات القرن العشرين، ارتفاعا في معدلات الجريمة التي تشهدها مدينة نيويورك.
بطل وحيد
موراليس كما نعرف من سياق الفيلم، جاء إلى أمريكا مدفوعا بتحقيق “الحلم الأمريكي”، أي تحقيق الصعود الاجتماعي السريع، وقد بدأ من أسفل السلم، كسائق لشاحنات الوقود، ثم تزوج من ابنة صاحب الشركة، وهو رجل صنع ثروته بطرق إجرامية، يقضي الآن عقوبة في السجن. ولزوجته “آنا” (جيسكا شاستون) شقيق- مليونير- يقيم داخل ما يصفونه في الفيلم بـ “قلعة” حصينة، وقد حقق ثروته- مثل والده- من ممارسة أعمال إجرامية. وقد يكون هو نفسه وراء عمليات الاغارة على شاحنات شركة موراليس وسرقة الوقود!
أما أساس الحبكة فهو أن موراليس يرفض الخضوع لما هو سائد في نظام التعاملات في مجال “البيزنس”، أي يرفض أن يتحول إلى “مجرم”، أو أن تدفعه الاعتداءات التي يتعرض لها سائقو شركته، إلى التعامل بالمثل، أي اللجوء للعنف، رافضا في إصرار، تسليح السائقين بالأسلحة النارية لرد تلك الاعتداءات. أما زوجته فهي على النقيض منه، تسخر من نظرته الرومانسية التي تراها ساذجة للواقع القائم، فقد أخذت عن والدها، وهي الأمريكية الأصلية (الشقراء) وليست الوافدة من الخارج، تلك الروح البراغماتية التي تجيد التعامل مع النظام الفاسد الذي ترتبط فيه الثروة بالبيزنس بالجريمة بالغطاء السياسي.
موراليس إذن نموذج للبطل “الوحيد” وسط غابة من الوحوش، يريد أن يحتفظ بنقائه مهما كلفه الأمر، بالرغم من تعرض أسرته للخطر، لكنه يقع في أزمة كبرى عندما يريد شراء محطة قديمة شاسعة للوقود السائل تقع على شاطيء النهر، من رجل يهودي مسن ينتمي لليهود الحداسيين، يحصل على 40 في المائة من قيمة الصفقة كمقدم، ويشترط على بطلنا، الحصول على باقي الثمن أي على مليون ونصف مليون دولار، خلال ثلاثين يوما وإلا احتفظ بما دُفع له، وباع لمنافس موراليس الغامض.
أزمة مركبة
ما يقع من اعتداءات ومشاكل يُدخل موراليس في كابوس مزدوج، فهو من ناحية، يسعى لتدبير باقي المال لاتمام الصفقة، ومن ناحية أخرى، يريد أن يعرف من هؤلاء الذين يسعون لتدميره، ويحاول أن يبث روح التحدي في العاملين بشركته، خصوصا ربيبه الذي ينتمي لبلده، والذي يبدأ مثله من أسفل السلم، وهو السائق عديم الخبرة “جوليان” الذي يتعرض لاعتداء يلزمه المستشفى في بداية الفيلم، ثم يتعرض لاعتداء ثان، لكنه يكون قد سلح نفسه وأخذ يطلق النار مرعوبا، ومع شعوره بالفزع من القبض عليه، يهرب ويختفي إلى أن يظهر قبل نهاية الفيلم لكي ينتهي نهاية مأساوية!
من جهة ثالثة يواجه موراليس أيضا تحقيقات تجريها الشرطة فيما يتردد عن تجاوزات عديدة وقعت داخل شركته، وسنعرف فيما بعد أن “آنا” قد تكون المسؤولة عنها، وأن موراليس كما يردد طويلا، بريء تماما، فهو حريص كل الحرص على الالتزام بالقانون. لكن هل سيبقى هكذا طويلا؟ إننا نراه في النهاية وهو يصغي إلى ما يردده ضابط الشرطة من ضرورة الحصول على الدعم السياسي إذا كان يريد أن يحافظ على ما حققه، ويمده على استقامته، كما أنه بالطبع، في حاجة إلى من يوفر له الحماية. في إشارة واضحة إلى احتمال أن يرضخ أبيل وينسجم مع طبيعة النظام بعد أن وعى الدرس، وخصوصا أنه لم يتمكن من تدبير المبلغ المطلوب لاستكمال الصفقة، سوى بفضل زوجته التي نرى أنها نجحت في تدبير مبالغ كبيرة من المال كانت تختلسها طيلة السنوات الماضية، من أموال الشركة.
عن الأسلوب
ليس أهم ما في هذا الفيلم، موضوعه الذي يدور حول فساد النظام الاقتصادي في أمريكا، وجشع الرأسمالية وارتباطها بالجريمة المنظمة، على غرار ما رأينا في عشرات الأفلام قد يكون من أشهرها بالطبع “الأب الروحي” (أو “العراب”). وربما يكون هذا ما دفع الكثيرين للمقارنة بين الفيلمين، في حين أن موراليس، رغم ثبات جأشه وإصراره على المضي قدما متحديا خصومه، يقف على النقيض تماما من شخصية “مايكل كورليوني”، الذي كان مصرا على مواصلة جرائم أسرته ولكن في صيغة حديثة، تبعد عنها الشبهات الجنائية.
في فيلمنا هذا الكثير من مشاهد الإثارة والحركة، كما في مشهد المطاردة بالسيارت التي تنتهي إلى مطاردة على الأقدام في الشوارع، ثم داخل محطة قطارات الأنفاق ثم داخل القطار على نحو يذكرنا بفيلم “الرابطة الفرنسية” (1971) لوليم فريدكن، وهناك الكثير من الإثارة في مشهد مطاردة أبيل لشخص غامض وجده قرب نافذة مسكنه ليلا، ثم تعثر ابنته الصغيرة على مسدس ضخم كادت أن تطلق منه الرصاص على أمها. وهناك أجواء أخرى داخلية، تدور بين جنبات المكاتب الغامضة، والأوكار، أو داخل عربة (كرافان) توقع فيها الصفقة في النهاية، وتصوير سيريالي خاص لشوارع نيويورك كما لو كانت قد أصبحت خالية من السكان ربما بسبب انتشار العنف.
أما ما يجعل الفيلم مختلفا، فهو ذلك الأسلوب المتميز في رسم الشخصيات ، وفي تقديم الموضوع بحيث يكتسب مغزى أكبر من مجرد الهجاء الاجتماعي المباشر. فأساس الجمال في الفيلم، يكمن في تلك الأجواء التي تجعل شخصياته جميعها لا تشعر بالارتياح، بل يخالجها شعور معذب بعدم التحقق، بالخوف، والقلق، والخشية على ما تحقق من الضياع. كما تساهم المشاهد الطويلة الساكنة التي تنتقل فيها اللقطات بين الشخصيات، مع ذلك الحوار المكثف الذي يحمل أكثر من معنى، في إضفاء جو خاص على الفيلم، فيه من الطرافة بقدر من فيه من الغموض، ذلك الغموض الساحر الذي تجده في شخصيات وحوارات أفلام ديفيد ماميت.
شعور بالعبث
يتعاون شاندور مع مدير التصوير برادفورد يونغ، في إضفاء نغمة لونية تشي بالزمن الماضي الذي تدور فيه الأحداث، ويكسب أسلوب التصوير الفيلم طابعا خاصا باستخدامه اللونين، البني والأخضر الباهت وأيضا الأصفر، كما يجعل من المشاهد الليلية ذات الإضاءة الشاحبة، تبدو وقد امتدت خارج الواقع. وبوجه عام ينتاب المشاهد مع الإحساس بايقاع الفيلم الرتيب، وحواراته الهامسة الغامضة، شعور بأننا أمام أجواء قريبة من أجواء مسرح العبث. هناك من يسأل أبيل، وهو يراه مدفوعا بشكل محموم لإنجاح الصفقة: ” ماذا تريد بالضبط” بمعنى.. “ألا يكفيك ما حققته”؟ وهو ما يلخص فكرة أن كل ذلك السعي من أجل امتلاك المال هو نفسه نوع من العبث!