أفلام المغرب العربي في مهرجان أبو ظبي السينمائي
جهنم على الارض
أحد الملاحظات الأساسية على مشاركة دول المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب) ضمن فعاليات مهرجان ابو ظبي السينمائي في دورته السادسة (11-20 اكتوبر) أن ثمة هاجس واحد تقريبا يسيطر بشكل كبير على صناع السينما المغاربة نتيجة تغير موازيين القوى السياسية المحلية في المنطقة أو خوفا من ارتداد نحو ماض مؤلم ودموي شهدته البلاد على يد جماعات الإسلام السياسي والمتطرفين الأصوليين والجهاديين وغيرهم من فصائل المتشديين أو المتاجرين بأسم الدين والله.
لا شك أن صعود الإخوان المسلمين في مصر إلى الحكم وتولي الإسلاميين (بنكيران) في المغرب وذلك المد الأصولي تحت دعوة السلفية في تونس بالاضافة إلى تاريخ الجزائر المشبع بالدم والتطرف الديني في التسعينيات، من أكثر العوامل التي ساهمت في تحرك خيال وأفكار صناع السينما المغاربة للخوض في تلك الهواجس بمباشرة شديدة رغم اختلاف الظروف السياسية لكل بلد واختلاف أجيال صناع السينما أنفسهم.
من المغرب يأتينا “المغضوب عليهم” تأليف وإخراج المخرج المغربي الشابمحسن البصري في أول تجاربه السينمائية، ومن تونس يعود المخرج المخضرمنوري بوزيدلتقديم فيلمه الجديد”ما نموتش”وتحت عنوان انجليزي هو (الجمال المخفي) ومن الجزائر يقدم لنا صاحب الخبز الحافيرشيد بن حاجفيلمه الجديد ايضا”عطور الجزائر”.
ثلاث حكايات وخصم واحد
في الفيلم المغربي “المغضوب عليهم” نجد مجموعة من الإرهابيين المتطرفين دينيا يقومون باختطاف جماعة مسرحية مغمورة تتكون من شابين وفتاتين واحتجازهم في منزل بعيد في انتظار الأوامر بتصفيتهم جسديا ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه أن يمثل او يمارس الفن بحكم كونه من أوليات الأمور المحرمة من قبل المتشددين ولكن الأزمة تحدث عندما يتم القبض على أمير الجماعة وبالتالي يقع المختطفون في حيرة من أمرهم هل يقتلون الرهائن أم يحررونهم، إلى ان ينتهي الأمر بأن يقتلوا بعضهم البعض.
أما في التونسي”ما نموتش” فنحن امام زمن آني هو تونس ما بعد الثورة حيث عائشة الفتاة المحجبة نتيجة تجربة عاطفية فاشلة أفقدتها عذريتها فاتجهت للحجاب كنوع من التكفير والشعور بالذنب في مقابل صديقتها زينب الفتاة الصغيرة الجميلة التي يخرج أخوها المتشدد من السجن فيبدأ في بث افكاره المتطرفة داخل المنزل ولكن الازمة تحدث عندما يطلب خطيب زينب منها أن تتحجب بحجة ان والدته تريدها محتشمة.
وعندما ترفض زينب تتعرض للويلات على يد أمها التي ترغب في تحجيبها بالقوة لمجرد أن ترضي زوجها المستقبلي بينما تتحرك عائشة وزينب طوال الوقت في تونس ما بعد الثورة حيث ترتفع نبرة المد السلفي المتطرف وتتعرض النساء كل يوم للاضطهاد اللفظي والبدني بحجة الأمر بالمعروف.
وفي “عطور الجزائر” يعود بن حاج إلى 1998 في ذورة حمامات الدم التي اغرقت فيها الجماعات الأصولية بلد المليون شهيد لنتابع رحلة كريمة المهاجرة التي تعيش في فرنسا عندما تعود من هناك كي تحاول انقاذ عائلتها الصغيرة من مصير اسود عندما تعلم ان اخاها الأصغر تحول إلى احد امراء الجماعات المتطرفة بعد ان عاد من افغانستان وانه محكوم عليه بالأعدام لو لم يوقع على وثيقة توبة ورجوع عن أفكاره.
وفي خضم هذه الأزمة العائلية تستعيد كريمة أسباب هجرتها إلى فرنسا قبل عشرين عاما بسبب ما فعله والدها رمز جيل الثورة وتعيش واقعا يوميا ملوثا بالدم والانفجارات الليلية والصراخ على الموتى إلى ان تقرر البقاء ومواجهة هذا الواقع المتغول بحجة الحرب المقدسة والجهاد في سبيل الله.
من هنا نتبن انه رغم اختلاف الحكايات الثلاث بل واختلاف ازمنتها الدرامية ما بين الزمن المجرد في “المغضوب عليهم” والحاضر في “ما نموتش” والماضي القريب في “عطور الجزائر” إلا ان الخصم الدرامي والفكري والسياسي واحد في الحكايات الثلاث وهو الفكر الأصولي المتشدد بكل اشكاله وتداعياته سواء الاجتماعية أو الانسانية أو السياسية.
المرأة والحجاب
يجمع صناع الأفلام الثلاث على اختيار المرأة كجسد وكيان انساني لوصف الجماعات المتشددة بالتخلف والرجعية من خلال ابراز مواقفهم ضد المرأة خاصة فيما يتعلق بقضية الحجاب والاحتشام. الدول المغربية الثلاث التي كانت تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي تعلمت ان تحترم جسد المرأة سواء كان عاريا أو مغطى في الوقت الذي ينتشر الحجاب في مصر منذ أواخر السبعينيات بينما التحرش يصبح سلوكا يوميا لا غنى عنه لشرائح وفئات عديدة من الشباب.
تتخذ فكرة الحجاب او اعتبار المرأة عورة يجب أن تستر طوال الوقت نفس المضمون مع اختلاف الشكل في الأفلام الثلاث.
في المغضوب عليهم يجبر المختطفون احدى الفتيات على ارتداء ملابس محتشمة كي لا تفتنهم أو تفتن زملاءها رغم ان زملاءها انفسهم يبدون أسوياء لم ينظر لها احدهم نظرة شهوانية وانما النظرة جاءت من المحروم المتشدد، وفي “ما نموتش” يبنى بوزيد فيلمه بالكامل على صراع زينب ضد الحجاب القسري دون اقتناع ويخوض في غمار النقاش الفقهي العتيق حول كون الحجاب فريضة أم لا لكنه يتجاوز هذا إلى الأسباب الحقيقية وراء الإصرار على تحجيب زينب.
ان خطيبها يريد ذلك، ليس لأن أمه طلبته، ولكن لأنه كرجل اعمال يدرك ان المرحلة القادمة هي مرحلة الدولة “المتحجبة” وان على زوجته ان تكون كذلك إذا إراد أن يصعد أكثر في عمله داخل المجتمع التونسي القادم من وجهة نظره، إذن الحجاب هنا ليس فريضة ولا مطلبا اجتماعيا ولكنه غرض خاص لمجاراة طبيعة المرحلة التي سوف يصبح فيها لأصحاب اللحى والملابس على نمط طالبان، اليد العليا والولاية على الناس.
انهم يمنحنون انفسهم، كما نرى في الفيلم، أحقية ان ينهروا النساء في الطرقات طالبين منهم التحشم وارتداء الحجاب والبقاء في البيوت لأن وجودهم في الشوارع يعذب هؤلاء المتشديين ويفتنهم ويذكرهم بالحرمان النفسي والجسدي الذي يمارسونه على أنفسهم بحجة التدين ومراعاة شرع الله.
بينما يقدم لنا الفيلم عائشة كنموذج للفتاة المحجبة عن غير اقتناع ولكن بسبب أزمة عاطفية فقدت على أثرها عذريتها وحملت سفاحا وتصورت أن الحجاب سوف يقيها شر نفسها او يكفر لها ذنبها ويعينها على مواجهة كل ما يخيفها في ذاتها والناس وكل ما لا ترغب في مواجهته من مشاعر وهواجس وافكار بل وآلام مثل علاقتها السابقة بحمزة شقيق زينب وحبها له طوال سنوات ولكنه يخرج من السجن لا يرغب في العمل او التحرك بشكل ايجابي بل يعيش عالة على خطيب اخته الغني وعلى اخوانه في الجماعة المتشددة متصورا ان الجنة في انتظاره في النهاية ولا يعمل ويأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
وفي “عطور الجزائر” يقدم لنا بن حاج صورة عن مجتمع هاجمته الجماعات الجهادية المتطرفة فحولته إلى بقعة من جهنم على الأرض.. الفتاة الصغيرة أبنة شقيق كريمة محجبة وهي لا تزال في السابعة من عمرها لا يسمح لها ان تلعب مثل بقية الفتيات فتضع الروج أو ترتدي فساتين أمها، وابنة الخال الناشطة السياسية ترتدي سراويل طوال الوقت لأن احدهم قام برش الحمض على ساقيها عندما فكرت ان ترتدي تنورة صغيرة وذلك بحجة تغيير المنكر باليد، في حين انه عبر الفلاش باك نكتشف ان السبب الرئيسي في تدين اخيها وتطرفه هو اكتشافه ان اباه اعتدى على اختهم بالتبني سامية التي كانت ابنة احد شهداء الثورة وربيبة الأب وهو ما دعى الاخ إلى الزواج منها لسترها لكنه اصيب برد فعل عكسي جعله يغرق في التدين رغبة منه في تغيير الواقع وبالتالي وصل به الأمر إلى حد التطرف والدم.
رد الفعل العكسي للاخ يذكرنا برد فعل عائشة في “ما نموتش” عنما ذهبت للحجاب هربا من ذكرى عاطفية سيئة ومشينة وليس عن اقتناع او تدين حقيقي.
الفن عورة
ثاني عناصر التصور الرافض للفكر الإسلامي المتشدد في الأفلام الثلاثة هو تصويرها لرفض الجماعات الأصولية للفن بكل اشكاله في “المغضوب عليهم” الصراع يدور بين الإرهابيين المتشددين وبين مجموعة ممثلين مسرحيين يصبح مطلبهم الوحيد في النهاية أن يقوموا بتمثيل المسرحية أمام الأرهابيين قبل ان يقتلوهم.
اما في “مانموتش” فإن المغنى العجوز الذي قام المخرج نفسه بتأديه دوره يقتل في النهاية لمجرد انه يغني في الطرقات على اكورديونه البسيط اغنية الفيلم “ما نموتش”. صحيح ان الفيلم لا يفصح صراحة عمن قتل المغني العجوز لكنه يشير إلى تورط كل أطراف الصراع السياسي في تونس بداية من السلفيين وأصحاب الاتجاه المتشدد وصولا لليبراليين بكل عجزهم عن توفير سطح مدني آمن لممارسة الحياة بشكل طبيعي والتي يأتي الفن على رأس عناصرها.
من فيلم “مانومتش”
وفي “عطور الجزائر” وبينما تحتفل سامية أخت كريمة بالتبني بمولد ابنتها الجديدة في حفل نسائي صغير تغني فيه بعض النسوة اغاني شعبية خفيفة يهجم عليهم مجموعة من المتشددين ليقوموا بتكسير كل شئ ونهر النسوة وسبهم و اتهماهم بالكفر لأنهم يغنون ويستمعون إلى الموسيقى وتأتي على لسانهم كلمات “حرام” الغناء حرام والموسيقى كفر واستروا أنفسكم رغم انهم يجلسون في جلسة نسائية وليس مكان عام مختلط.
ازمة الفيلم السياسي
على الرغم من الاتفاق العام أن الأفلام الثلاثة تملك أفكارا درامية جريئة تحاول ان تخوض بها الصراع السياسي والاجتماعي ضد قوى التخلف والظلامية لكن السينما في جوهرها ليست مجرد افكار شجاعة او مواقف مباشرة لأن المباشرة كالخطابة تحمس المستمع لكنها لا ترسخ في ذهنه وذاكرته ينفعل بها بشكل مؤقت لكنها لا تتحول لموقف عام أو منهج ذهني في التفكير.
أزمة الطرح في الأفلام الثلاثة هي المباشرة الفجة لدرجة تنقص من قيمة الأفكار في بعض الأحيان.
في “مانموتش” نجد عائشة بطلة الفيلم تجلس في البيت بالحجاب، وهو امر مستغرب يعكس عدم دراية المخرج بأن المحجبات لا يجلسن في المنزل مرتديات الحجاب او الملابس المحتشمة طالما انه ليس هناك رجل غريب في البيت، بل ان اكثر النساء انطلاقا في منازلهن هم اكثرهن احتشاما خارج بيوتهن بحكم طبيعة المرأة النفسية.
أما زينب التي تجبرها امها على ارتداء الحجاب فإنها تضعه هي الأخرى في المنزل بل وتنام به دلالة على انها استسلمت ورضيت بالعذاب والذل، وهي اشارة شديدة المباشرة والفجاجة بل أن استسلام زينب لارتداء الحجاب في الشارع وهي التي تراه قيدا على شخصيتها كان من الممكن ان يحقق اثرا اكبر من ارتدائها الحجاب في المنزل ولا أحد يراها.
ونفس الازمة نراها في فيلم “عطور الجزائر” من خلال شخصية سامية اخت كريمة بالتبني فعلى الرغم من كون الممثلة ريم تعكوشت غير محجبة مما يمنحها فرصة خلع الحجاب في المنزل الا ان المخرج يصر على ان ترتديه طوال الوقت خارج المنزل وداخله في مبالغة تكاد توازي تطرف المتشددين انفسهم.
إن واحدة من ازمات الفيلم السياسي العربي هو مقاومة التشدد بالتشدد والتطرف بالمغالاة وهو ما يفقد التجربة السينمائية شرعيتها الفكرية والنفسية ويحولها إلى بوق دعائي او تجن صارخ على الواقع وليس على الخصم الدرامي او السياسي.
ناهينا عن المشاهد الحوارية المطولة التي تتحول إلى مناظرات ايديولوجية وفقهية خائبة تمتد عبر زمن الفيلم لتفقد ايقاع الأحداث رونقه وتوقف من تدفق الدراما لصالح التعبير الانشائي عن الموقف السياسي او الفكري.
في فيلم “عطور الجزائر” جاءت اغلب مشاهد المواجهات ما بين كريمة واخيها في السجن عبارة عن تراشق حواري ذهني شعاراتي ليس فيه من الدراما او السينما ما يجعله صالحا لوجوده داخل تجربة بصرية تدعى فيلما.
لقد اعتمد المخرج على اختيار كلاشيه بصري حيث ادخل عمود من الضوء الاصفر بشكل مائل إلى الغرفة وكأن الاخت المتنورة المتفرنسة تأتي بالنور إلى ظلمة اخيها في قبره الفكري العتيق، ومن خلال الحوار الطنطان حول الدين والدنيا.
بل إن اللقطة التي ينبعث فيها التراب من ملابس الأخ عندما تلمسه الأخت دلالة على كونه يعيش في عصور سحيقة او يحمل افكارا مغبرة كان اكثر دلالة من حوارات الاخت وعمود الضوء المائل في سذاجة قادما من شباك الغرفة.
وتتوازي مشاهد الحوار الذهني والطنطنة السياسية والدينية بين مشاهد كريمة واخيها في “عطور الجزائر” ومشاهد عائشة وحبيبها حمزة في “مانموتش” حيث تصبح مشاهد حمزة عبارة عن كتل من الحوار والنقاش الصحفي في برامج التوك شو حول موقفه الديني والسياسي في مقابل موقف الآخرين وعلى رأسهم عائشة.
ولا يختلف الأمر في “المغضوب” عليهم خاصة في المساجلات الحوارية المسرحية بين الفرقة الشابة ومجموعة الارهابيين المختطفين، ولا شأن لتلك الفقرات الكلامية بكون الفيلم يدور في مكان واحد هو منزل بعيد منعزل او ان الفرقة المختطفة مسرحية!
فصناع الأفلام السياسية العرب دائما ما يلجأون لفكرة التراشق الحواري المباشر تعبيرا عن الأفكار دون ان يكون للشخصية الدرامية او للموقف او الحبكة او السرد او الشكل موضع من الاعراب السينمائي فبدلا من أن تكون الدراما هي المعبر عن الأفكار تصبح الشخصية مجرد حنجرة طناطة بأفكار صناع الفيلم.
هذه النقائص الفنية سوف تظل آفة الفيلم السياسي العربي ومصدر ضعفه لأن المتلقي في النهاية لا يجد فرقا بين أن يتابع حلقة في برنامج توك شو وبين مشاهدة فيلم من المفترض أنه قائم على استخلاص للرؤية وبلورة للأفكار في شكل فني تتسع تاويلاته ودلالاته ولا تنحسر في كلمة مباشرة.