“أشياء صغيرة كهذه”.. عالَمٌ ينقذه القلق

“مُهدى إلى أكثر من 56 ألف فتاة احتُجِزن من قبل المؤسسات الماجدولية تحت حجة دفعهن للتوبة وإعادة التأهيل ما بين عامي 1922 و1998. وإلى كل الأطفال الذين أُخذن منهن هناك.”

ينتهي فيلم المخرج تيم ميلانتس “أشياء صغيرة كهذه” (Small Things Like this) والمقتبس عن كتاب بنفس الاسم للكاتبة الأيرلندية كلير كيجان، بهذا الإهداء المُروِّع. نهاية بمثابة تذكير بمأساة احتجاز آلاف النساء على مدار عقود في المؤسسات الماجدولية المنخرطة في مجال المغاسل التجارية تحت إدارة الكنيسة الكاثولكية في أيرلندا، تلك التي احتجزتهن للعمل ظاهريًا في حين كان الهدف الهلامي هو إعادة تطهيرن من الإثم، مما نتج عنه تعرضهن لأضرار نفسية وجسدية واختطاف ابنائهن منهن. تاريخيًا، بدأ الأمر باحتجاز العاملين في مجال فتيات الهوى ومن ثم تطور الوضع لضم نساء أيتام عازبات أو من أرادت عائلاتهن التخلص منهن، أو الفتيات اللاتي تعرضن للإغتصاب وغيرهن الكثير من الضحايا الللاتي اكتُشِف مقبرة جماعية لبعضهن أسفل إحدى مقرات المؤسسة.

إلا أنه وقبل كلمات الإهداء الختامية هذه، يسدل الفيلم شاشته السوداء على اللقطة التي يُمسك فيها بطل حكايتنا بيل بيد فتاة من ضمن ضحايا هذه المأساة؛ يُمسك بيدها حرفيًا ومجازيًا ليعبر بها إلى عالم لم يستطع الواقع أن يمده إليها. بيلي، كمُمثِّل لمعاصري هذا الحدث المشؤوم، هو من أراد الفيلم أن يحكي فصله من قصة هذه المأساة، لم يكترث الفيلم هذه المرة -كعادة هذا النوع من الأفلام- بسرد قصة من منظور الضحايا أو الجاني، بل آثر أن تكون العيون المتلصصة من خلف جدران المنازل المتواطئة مع هذه الجريمة هي المُحرك للأحداث.. المنازل المتواطئة بقلة حيلتها وانكماشها على صمتها تمامًا كأي مجتمع مقهور لا يدرك مدى قوة وحدته؛ تلك الوحدة التي لن يعرفها مع الأسف هذا المجتمع الأيرلندي.

يفتتح الفيلم بلقطة يقف فيها غراب على صليب أعلى مبنى الكنيسة في إحدى بلدات أيرلندا في ثمانينيات القرن الماضي. الغراب الذي اعتدناه نذير شؤم في المكان الذي يحط عليه أو ربما هو أحد غرابي الإله الإسكندنافي “أودين” اللذان كانا يأتيان له بأخبار العالم، فحط هنا عاليًا يبعث للعالم برسالة باحثًا عن أودين ما ليسمعها بين صخب الصمت الذي يغلف البلدة التي تحرص الكاميرا مبكرًا على إبراز قتامتها في لقطات سريعة لزقاقها.

بطل الحكاية هو الأيرلندي “بيلي” بائع الفحم من الطبقة العاملة، وأب لخمسة فتيات يحرص على توفير كل الحنان والأمان لهن. لا يمضي الكثير حتى يضعنا الفيلم أمام محنة بيلي الذي يعاني من قلق مزمن يسلب سكينته ويسرق نومه في الليالي التي يجلس فيها مستيقظًا أمام النافذة تارة وأمام التلفاز تارة أخرى، وحينما يقض القلق مضجعه بما لا يحتمله يخرج شاردًا بين شوارع البلدة.

في كل مرة يقف فيها بيلي متأملًا في حدث ما، نجده يراقب شخص يعاني؛ فتاة ترغمها أمها على الانضمام لمغسلة ماجدولين.. طفل تائه وحيدًا على الطريق.. وآخر يسير في عتمة الليل حافي القدمين يبحث عن طعام أو شراب. تخبره زوجته في أحد المشاهد: “لطالما كنت شخصًا رقيق القلب يا بيلي”، تضع يدها هنا على نواة قلق بطلنا ثم تُلحق تلك الحقيقة بطلب يتكرر على مسامعه فيما بعد من شخصية أخرى، إذ تقول: “ثمة أمور علينا أن نتجاهلها إذا أردنا المضي قدمًا في هذه الحياة”.

في تلك الأثناء، ينسل بين أحداث الفيلم ببراعة فلاش باك لخط درامي يخص طفولة بطلنا بيلي، وأول صورة يرسمها المخرج لهذا الخط الدرامي هي لأمراة شابة حزينة تطل من نافذة ضبابية، ينكسر صمتها بالبكاء على معاناة ابنها من التنمر، وبعدها نرى طفلها (بيلي) وهو يراقبها من بعيد في هدوء.. نراه وهو يراقب أول “معاناة” شهدها في حياته “القلقة”؛ معاناة أمه التي اضطرت لتربيته بمفردها دون أب. مشهد موجز تتكشف من خلاله جذور القلق في بيلي، غير أن مفتاح حل هذا القلق يأتي لنا بعدها من الماضي سريعًا في المشهد التالي حينما يجلس بيلي أمام السيدة ويلسون صاحبة المزرعة التي تعمل بها أمه. نعاينها وهي تواسي بيلي وتشجعه على مقاومة المتنمرين وتخفف سريعًا من انزعاجه بلطفها.

يحافظ الفيلم على نسق ومزاج هادئ تمامًا طوال مدته؛ نسق هادئ لكنه مضطرب في عمق صورته كما هو الحال مع عقل بطل قصته. حتى في لحظات ذروة التصادم يُبقي الفيلم الإنفعالات حبيسة في وجدانه كوقود مستمر لقلقه وحافز متجدد لدفعه نحو المساندات الطفيفة القادر على فعلها من حين لآخر؛ كأن يعطف على طفل بكلمات ودودة وبضعة نقود، أو يمنح العاملين لديه في أعمال الفحم مزيدًا من الأجور، أو يستزيد من الإغداق على عائلته بكل ما يحتاجونه. غير أن كل ذلك ليس بكافٍ لقلقه كي يتمثَّل على هيئة السيدة ويلسون في حياة غيره من المشردين والمكسورين.

بمرور الأحداث نبدأ في التعرف على المؤسسة التابعة للكنيسة لكن فقط بعيون بيلي، ويجد قلق بيلي طريقه للتفاقم مع كل فتاة يراها تصرخ وتئن داخل المغسلة، لا سيما حين تضعه الصدفة أمام حالة خاصة لفتاة تستنجد به فيتركها بمرارة لتعود إلى حصن المأساة. يسأل بيلي زوجته مرارًا بلا إجابة تروي ظمأه: “هل يراودك شكوك؟”، “هل تساءلتي ما إذا كان كل شيء على ما يرام؟”، هل تشعرين بالقلق؟” ويظل العجز يطارده بلا ترياق للتجاهل أو قدرة على تقديم العون. زوجته تتفهَّم قلقه لكنها لا تتفهَّم إصراره على القلق؛ وكأنه بات جمرة يعكف على إشعالها لا مجرد أرق تشحذه فكرة أو موقف عابر.

وباستخدام تكنيك الدمج الدرامي المتميز لمسار قصة الطفل بيلي بالتوازي مع قصة البالغ الحائر بيلي، ينجح الفيلم في إقناع المشاهد باستثمار مشاعره تجاه رغبة بيلي الجامحة للمساعدة؛ ولِما لا وهو ذلك الطفل الذي ربما كان ليصبح هائمًا هو الآخر بلا ملاذ لولا إحسان السيدة ويلسون. كان من الممكن أن يعيش طفولة عاثرة لولا الشاب نيد الذي أحب أمه وعطف عليه شاغلًا مكان أبيه ولو لبعض الوقت. على أن الفيلم لا يترك المثالية الأخلاقية تبتلع منطق الحياة؛ بيلي عامل بسيط والسيدة ويلسون كانت صاحبة أملاك.

وفي نظرة أعمق لما يجري، يشير الفيلم، الذي انتهى بإهداء لضحايا المجتمع، بوضوح إلى ذلك العجز المجتمعي الصامت الذي يضغط بكل قوته لردع أعراض أمراضه؛ قلق بيلي الذي يمنعه من التواصل مع من حوله.. يمنعه من الإكتفاء براحة أسرته التي يفيض عليها بكل ما كان ينقصه في صباه.. ذلك العرض الذي يأبى إلا وأن يكشف عن مرض المجتمع ولن يرضخ لأدويته المُسكِّنة. ولذلك يدفع الفيلم نحو إرساء هذا القلق لا نزعه؛ ينادي بغُرابه نحو رقيقي القلب ألا يهجروا حسهم ونوازعهم البريئة. لكنه يدرك أن العالم لا يتسع لهم، وأنه لا سبيل لاستنساخ قلوبهم.. وإن بقي السؤال قائمًا: هل من أمل في التغيير من دونهم؟!

بالنظر إلى مجمل أحداث الفيلم نجد أنه قد وضع جل منظوره الروائي على كتف بيلي بحيث لا يكاد يخرج في لحظة واحدة من الصورة، وبقدر ما كان ذلك مجديًا في كثير من الأحيان إلا أنه يحرم القصة من بعض الإثراء الضروري من جانب شخصياته الثانوية. صحيح أن القصة هي قصة بيلي كما ذكرنا، لكنها في نواتها قصة مجتمع ومأساة يحمل وزرها كافة أفراده، وبالتالي احتاج الفيلم لضخ بعض الدماء من حول بيلي وأسرته التي نالها هي الأخرى بعض التهميش. وفي حين يلتزم فيلمه -وخيرٌ فعل- بنسقه الهادئ الفاتر في تتبع قضيته، يصبح هذا النسق عبئًا بعض الشيء عندما تأتي لحظة مواجهة أخرى بين بيلي وزوجته بعد تلقيه رشوة من المؤسسة. لم يكن الفيلم بحاجة للخروج من نمطه السائد على مدار أحداثه، لكنه احتاج للمزيد من المراوغة الحوارية والكثير من التكثيف الشعوري في مثل هكذا لحظة محورية لم ترتقِ للحدث.

يحرز الفيلم شوطًا كبيرًا تجاه نجاح فكرته باختيار كيليان مارفي في دور البطولة. كيليان لا يحتاج إلى الكثير ليضع على طاولة الحدث كل السكون المكبوت المطلوب في شخصيته مع ملامح مُثقَلة ونظرات هائمة وصوت رخيم يجر الكلمات لا يلفظها. فيما تُقدِّم الممثلة القديرة إيميلي واتسون في مشهد واحد ما يعطي الفيلم أكثر مشاهده تفجرًا على هدوئه.

كذلك يُحسب للفيلم سلاسة وتوافق مونتاجه مع روح النص، بينما تمكَّن المخرج من توفير الحد الأقصى من المساحة التي يحتاجها كيليان مارفي للقبض على صراعه وفرش محنته سواء بالصورة. والصورة تحديدًا تألقت في بعض تركيباتها مع كل تعبير حاولت إرسائه؛ في إحدى المشاهد نجد رئيسة الرهبان في المؤسسة تطلب من بيلي أن يشرب معها كوبًا من الشاي، فيرفض بيلي، لكنها تُصر على ذلك ليجلسا معًا أمام المدفأة المشتعلة بالفحم. تشتعل الصورة بالفحم الذي يُعبِّر عن حموة اللقاء وإن بدا مسالمًا بحيث يكشف عن فرق القوة بين الطرفين في المجتمع لكنه يكشف كذلك عن العنف المبطن لمثل هذه المؤسسات السلطوية، لكن الصورة كذلك تضع عمل بيلي “بيع الفحم” على المحك إذا ما قرر أن يتصرف بشأن المؤسسة ويساعد فتياتها.

في مشهد آخر تحدث المواجهة التي يتعارض فيها منظور بيلي مع زوجته -المشهد المفصلي في الكشف عن التعارض بين نظرة بيلي ومجتمعه-، فيقرر المخرج أن يقف كيليان مطلًا بوجهه نحو النافذة وظهره لزوجته للمرة الوحيدة في الفيلم. كذلك يلجأ الفيلم في نهايته للصورة كحافز أخير لقفزة الثقة في ذلك المشهد الذي يقف فيه بيلي البالغ أمام محل بيع الألعاب ليُمعن النظر في لعبة “أحجية تركيب الصور” التي حُرم منها في بيلي الطفل نظرًا لظروف أمه الصعبة؛ لعبة الأحجية خلف زجاج المحل صارت القطعة الأخيرة في أحجية قراره العسير. سيُنقذ إحدى هؤلاء الفتيات على مرأى من تحديقات ساكني البلدة، كعزاء غير مجدي لضحايا ذهبوا ولن يعودوا.