أزمة وجدل حول فيلم «أميرة»
يبدو أن هذا العام هو عام الأزمات السينمائية بجدارة، فبعد أن هدأت العاصفة التي أثارها فيلم ريش منذ عرضه في مهرجان الجونة، لاح في الأفق إعصار أشد قوة وضراوة، كان سببه عرض فيلم «أميرة» للمخرج المصري محمد دياب بالأردن.
فقد أثار الفيلم حالة واسعة من الجدل والسخط بعد عرضه مؤخرا فى مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان، واتهمَ عدد كبير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاشتاج “اسحبوا فيلم أميرة، الفيلم بأنه يتعمد تشويه نضال الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، ويزيف الحقائق حول ما يسمى بأطفال الحرية، وهم الأطفال الذين ولدوا من تهريب نطف الأسرى الفلسطينيين خارج أسوار سجون الاحتلال، الأمر الذي يعتبره الأسرى الفلسطينيين انتصاراً لإرادة البقاء، وكسراً لقيود الاحتلال الدامية، وأملاً لاستمرار المقاومة والحياة.
وأدانت وزارة الثقافة الفلسطينية في بيان لها الفيلم ووصفته بأنه يعتدي ويسيء بكل وضوح لكرامة الأسرى وبطولاتهم وتاريخهم الكفاحي، وصرح وزير الثقافة الفلسطيني: “إن الفيلم يمس بشكل واضح قضية هامة من قضايا شعبنا ويضرب روايتنا الوطنية والنضالية.
وهاجمت الفيلم هيئات فلسطينية رسمية وشعبية ووصفته بأنه يتبنى رواية الاحتلال حول قضية سفراء الحرية ويثير الشكوك حول نسبهم، الأمر الذي دفع الهيئة الملكية الاردنية للأفلام سحب فيلم «أميرة» من ترشيحات المملكة لجائزة الأوسكار احترامًا لمشاعر الأسرى وعائلاتهم، وهو ما يأتي بعد إصدار مخرج الفيلم، محمد دياب، بيانًا أعلن فيه وقف جميع عروضه، وطلب تشكيل لجنة مستقلة من الأسرى وعائلاتهم لمشاهدته ومراجعته.
فيلم «أميرة» من إخراج محمد دياب وتأليف الثلاثي شرين ومحمد وخالد دياب ومن إنتاج فيلم كلينك (محمد حفظي)، ومنى عبد الوهاب، وأكاميديا (معز مسعود)، بالاشتراك مع يوسف الطاهر، ورولا ناصر، ويشارك المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد وأميرة دياب وسارة جوهر كمنتجين للفيلم.
الفيلم من بطولة الأردنية صبا مبارك والفلسطيني علي سليمان والوجه الجديد تارا عبود ويتناول الفيلم قصة الفتاة المراهقة، أميرة، التي تنشأ معتقدة أنها وُلدت نتيجة عملية تلقيح صناعي من نطفة مهربة من والدها في سجن “مجدو” الإسرائيلي، وهو ما يمنحها شعوراً كبيراً بالفخر، باعتبارها ابنة مناضل فلسطيني. لكن في إحدى الزيارات مع أمها للسجن، يطلب الزوج من زوجته إنجاب طفل آخر بالطريقة ذاتها، وهو ما ترفضه الأم في البداية، ثم تعود لتوافق عليه. وتنجح عملية التهريب، لكن المفاجأة تقع عندما يعلن الأطباء أن النطفة التي استلموها هي لشخص عقيم لا يمكنه الإنجاب إطلاقاً. وهو ما يدفع عائلة الزوج، ومعها أميرة، إلى الشكّ أولاً في سلوك الأم. وتبدأ عملية مطابقة للبصمة الوراثية مع جميع المحيطين بالزوجة مثل أخوان الزوج ومعلم المدرسة، لكن من دون جدوى. لتعترف الام بالخيانة مع الطبيب لكننا نكتشف أن النطفة كانت لضابط إسرائيلي.
كان الفيلم قد عرض عالميا لأول مرة بمهرجان فينسيا في دورته الأخيرة وحصد 3 جوائز (هامشية) وقوبل الفيلم بحفاوة كبيرة، وعلى الصعيد العربي عرض الفيلم في مهرجان الجونة ومهرجان قرطاج ومهرجان كرامة لحقوق الإنسان بالأردن، وكان من المزمع عرضه يوم الخميس الماضي ضمن عروض مهرجان البحر الأحمر في جدة، ولكن العرض ألغي بطلب من منتجي العمل.
لم يكن فيلم «أميرة» الفيلم الأول الذي يتناول قضية سفراء الحرية فقد سبقه إليها المخرج الفلسطيني راكان مياسي الذى قدم عام 2017 فيلمه القصير «بونبونه» بطولة صالح بكري ورنا علم الدين .وهما زوجان يسعيان لتحقيق حلمهما بالإنجاب رغم أسر الزوج في سجون الاحتلال، ورغم الحواجز الزجاجية السميكة التي تمنع لقاء الزوجين إلا أن الزوجة تصر على تنفيذ الخطة لدرجة تدفعها لإثارة زوجها جنسياً عبر سماعة الهاتف ، ويمرر لها سائله المنوي في غلاف حلوى “بونبونه” عبر الإطار المطاطي للحاجز الزجاجي ، وأثناء عودتها تقوم الزوجة بتلقيح نفسها داخل حافلة الصليب الأحمر في مشهد سريالي . ورغم اللا منطق والمبالغة الفجة (المقصودة) إلا أن الفيلم حمل فنيات ورمزيات كثيرة وفق لغة سينمائية خاصة وملفته. أما الفيلم الثاني فهو فيلم وثائقي من إخراج مصطفي الصواف. وتتبع فيه سعي الأسرى وعائلتهم أثناء عمليات التهريب والتلقيح الصناعي، وصولاً إلى النتائج التي تكلل بعضها بالنجاح أو الفشل.
متى يدرك دعاة المنع والمصادرة أن الممنوع مرغوب وما المنع إلا وسيلة ترويج وانتشار ودعاية مجانية تضاعف أعداد الراغبين في المشاهدة. وسوف نفاجئ خلال الأيام القليلة القادمة بتسريب فيلم «أميرة» وانتشاره على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، كما حدث مع فيلم «ريش» . إن التحريض كوسيلة لإرهاب المبدعين تصرف عبثي لا يحدث إلا في مناطق مظلمة متخلفة مليئة بالأوبئة الفكرية والاجتماعية المتوارثة، فأصبحت الخيانة والتآمر تهم جاهزة لكبح الإبداع ووأد الأفكار ومصادرة الأحلام، نحن هنا لا ندافع عن صناع فيلم «أميرة» فهم أولى أن يدافعوا عن رؤيتهم ومضمون عملهم لكننا هنا ننتصر لحرية الابداع والتفكير والخلق ونفضح دمامة المنع والحجب والمصادرة للمنتج الفني الجمالي حتى لو اصطدمت مضامينه مع مسلماتنا.
أثبتت تلك الأزمة القوة الكاسحة لرواد مواقع التواصل الاجتماعي في التأثير على المؤسسات أي كانت قوتها ومكانتها، هذه القوة الحمقاء التي تحكمها الصيحات البدائية العالية، لقد شكل سحب فيلم «أميرة» من ترشيحات الاوسكار انهزام مؤسسة فنية أمام الضغط المتصاعد على شبكات التواصل، الأمر الذي امتد لتخاذل صناع الفيلم أنفسهم وتخليهم المشين عن فلمهم واعلانهم إيقاف عرضة والدعوة لتشكيل لجنة وصاية ومشاهدة لتقييم الفيلم.
هل يدرك ماذا فعل صناع العمل بأنفسهم وبفلمهم وبمكتسبات الإبداع؟ أصدر دياب بيانا طويلا مرتبكا للتبرير، أما المخرج هاني أبو أسعد الذي أشرف على كل كبيرة وصغيرة في الفيلم فقد أيد بشدة قرار وقفه، فأي أقدام هشة تلك التي تقفون عليها؟ إن كنتم لا تصدقون أنفسكم فكيف نصدقكم؟ أن كنتم قفزتم من السفينة وتركتموها تبتلعها الأمواج الغاضبة فمن الطبيعي أن يستقر فلمكم في قاع النسيان.
فيلم «أميرة» فيلم مليء بالمشاكل والثغرات الفنية على مستوى الكتابة والتنفيذ ولا أظن أنه كان سيقترب من المنافسة على الاوسكار بأي شكل من الأشكال، وأرى أن أهم مشاكله جاءت في تخليه عن الإخلاص للبيئة التي أراد أن يمثلها فجاء كقشرة خارجية للعالم الذي اختار الغوص في أعماقه، فافتقد الصدق والعمق، ولم تكن الفكرة المرتبطة ضمنياً بمفاهيم الشرف والعفة والمقاومة مناسبة لمسارات الحبكة الملتوية ذات النسق البوليسي التي اختارها السيناريو ليطور احداثه، ناهيك عن خطوط السرد المبتورة والنهاية المكبلة بالنمطية.
فيلم “أميرة “مثل لمحمد دياب محاولة الخروج من بوتقة المحلية للعالمية التى يسعى إليها منذ سنوات بأشراف من عرابه هانى أبو أسعد ، لذا لم يعبأ فلمه بثقافة البيئة التي أختار أن يشتبك مع همومها بل كان الوصول للعالمية يسيطر على وعيه وتفكيره ممنياً نفسه بمكانه ونجاح عالمي كالذي حققه أبو أسعد أو منجز مشرف كمنجز المخرج الإيراني أصغر فرهادي صاحب جائزتي الأوسكار ، لكنه في تلك الأثناء وفي غمار الأحلام لم ينتبه لخطورة الفكرة الملغمة التي اختارها و لم يدرك حساسية التعامل معها ، أخذته الأحلام والأمنيات ولم يعي أن الصدق والبساطة والتعامل الجاد والاشتباك الخلاق مع القضايا هو ما مكن هؤلاء من الوصول لتلك المكانة الرفيعة في المشهد السينمائي العالمي.