أزمة السينما المصرية في فيلم “صيف تجريبي”
بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم المصري “صيف تجريبي” (2017) سيناريو وإخراج محمود لطفي، ستكتشف علاقة العنوان بالمحتوى.
ينتمي الفيلم للسينما المستقلة في أقصى حدودها التجريبية، ويندرج ضمن ما يطلق عليه الـ (ميتاسينما)، أي حديث السينما عن ذاتها. تدور أحداث الفيلم حول البحث عن فيلم مُتخيل من انتاج عام 1980 عنوانه “صيف تجريبي” أو عن “النسخة الأصلية” من هذا الفيلم من بين نسخ أخرى مقلدة ومُتخيلة هي الأخرى.
يُتخذ هذا البحث وسيلة للعودة إلى جذور السينما المستقلة: مسيرتها وتقنياتها السردية وعوائقها.
الجهد المبذول في صناعة الفيلم واضح من خلال التعقيد الذي يبدو متعمداً ليتطابق الشكل مع المضمون لكنه تعقيد شكلي خالٍ من المتعة والعمق.
أداء الممثلين يدعو للثناء والفيلم في محصلته تجربة مغايرة وذكية للاحتفاء بالسينما المصرية المستقلة وروادها، ويعزو أسباب تراجعها على مشجب ما سماه “جهاز السينما” في إشارة إلى الرقابة.
البحث عن الفيلم الذي صادرته الجهات الرسمية يوضع في موازاة مع البحث عن شقة لممارسة الجنس في المشهد الأول.
والبحث عن “النسخة الأصلية” المفقودة مقابل نُسخه العديدة فيه إشارة إلى الاستنساخ الحاصل في السينما إلى درجة العجز عن العثور عن النسخة الأصل. كما أن فكرة البحث عن فيلم غير موجود تُحيل إلى أزمة النص السينمائي وإلى نضوب الأفكار السينمائية وأزمة السينما المصرية بشكل عام والسينما المستقلة بشكل خاص وهو ما ينسحب في الأخير إلى أزمة فيلم “صيف تجريبي”. هذا على مستوى النص، وعلى المستوى المادي ظهرت سينما (ريو) في أحد مشاهد الفيلم وهي مهجورة متهالكة وقد صارت موطناً للحشائش والأشجار والقاذورات.
تقنية الفيلم التسجيلي هي السائدة في الفيلم: الكاميرا في حركتها التائهة تبحث أيضاً، وخلال البحث ترصد مظاهر الحياة القاهرية اليوم. الحياة المزدحمة توضع في مقابلة مع الماضي من خلال استعمال تقويم فرعوني في الفواصل بين المشاهد.
التواريخ والمعلومات تم عرضها بطريقة سينمائية قديمة، اللوحة أو الكتابة، لا من خلال السرد الصوتي الداخلي/ الخارجي، وكأنه بهذه الإحالات إلى الماضي أو البدايات يقترح حل أزمة السينما بالعودة إلى تاريخها وجذورها.
تيمة فيلليني
يتقاطع فيلم “صيف تجريبي” من حيث تيمة البحث عن شيء غير موجود مع فيلم فيلليني “ثمانية ونصف”- 1963 وهو عن مخرج اسمه (جويدو) يبحث عن موضوع لفيلمه ولا يجده. وقد استخدم فيلليني هذه الفكرة كحامل أو كقالب لعرض أفكار أعمق عن مخرج يحاول جاهداً العثور على ذاته والتوفيق بين حياته المهنية والخاصة المشتتة بين زوجته وعشيقته وعمله.
فيلم فيلليني المستوحى من سيرته الذاتية ألهم الكثيرين منهم موري يستون في عمله المسرحي الموسيقي “التاسعة”- 1982 وهو العمل الذي أعاد المخرج روب مارشال تكييفه عام 2009 في فيلم درامي غنائي كوميدي يحمل العنوان نفسه. في المقابل لا يحمل فيلم “صيف تجريبي” سوى فكرة البحث عن فيلم متخيل بهدف الاحتفاء بمسيرة السينما المصرية المستقلة.
في فيلم “كل ذلك الجاز”- 1989 يستثمر المخرج بوب فوس سيرته ليروي قصة مخرج مسرحي (جو جيديون) مدمن للجنس والعمل والمخدرات، يصارع الموت وهو يحاول تحقيق التوازن أثناء تحضيره لفيلم هوليوودي لكن تعترضه معوقات أهمها تدهور صحته. يكمن التشويق هنا في السرد الاستعراضي الممتع وفي انتظار معرفة هوية المرأة التي يجري معها (جو) حواراته طوال الفيلم والتي يتضح في النهاية أنها ملاك الموت.
يوجد خيط رفيع بين الغموض الجميل الذي ينتمي للفن وبين التلغيز الذي ينتمي للعبث. التجريب الذي يقع في فخ التلغيز يحمل سخرية مبطنة من السينما البديلة ويدفع المتفرج إلى عدم الإقبال على هذه النوعية من الأفلام وهو ما يصب في صالح السينما التجارية التي تقوم على الغناء والرقص والكوميديا الرخيصة.
أزمة السينما المصرية والسينما العربية بشكل عام والمستقلة بشكل خاص تكمن في غياب النصوص الجيدة خلافاًللسينما العالمية المستقلة حتى وهي تعيد معالجة الأفكار القديمة بأساليب جديدة.
عن الغموض والتلغيز
تندرج تحت نوع “الغموض” أفلام كثيرة أفلام غامضة لكنها تحافظ على تماسكها وإن لم تحقق الفهم تنجح في تحقيق المتعة. على سبيل المثال لا الحصر فيلم (Mulholland Drive) -2001الذي قام مخرجه ديفيد لينش بإرشاد جمهوره بعشرة مفاتيح لحل حبكة الفيلم. من أفلام الغموض أيضاً:).ولكي لا يقع في التلغيز فإن بعض هذه الأفلام أجَّلت الحل حتى المشاهد الأخيرة مثل فيلم (Some Velvet Morning) 2013. بعض الأفلام تستبعد الفهم من قانون متعتها وتضع الجهل مبدأً للذة ولا تتورع أن تكتب هذا في عنوان فرعي مثل العنوان (الفضيلة غير المتوقعة للجهل unexpected virtue of ignorance) الذي ورد كعنوان فرعي لفيلم (Birdman) 2014.
عنصر التشويق في أي عمل أدبي أو سينمائي يكمن في أحداث القصة أو تقنيات سردها وجماليات تنفيذها. إبقاء المتفرج حتى نهاية الفيلم ليس هدفاً بحد ذاته, وشتان بين من يبقى حتى نهاية الفيلم ليعرف ما الذي يحدث, وبين من يبقى وهو مستمتع بما يشاهده ويفكر بإعادة المشاهدة مرة أخرى.
ثمة مشهد أُعيدَ مرتين في فيلم “صيف تجريبي” مشهد الشاب وهو يقول للعجوز: “على فكرة أنا شفت اللي في السّحّارة”. يُوحي التكرار بأهمية المشهد من أجل فهم بُنية الفيلم لكن لا توجد دلالة لهذا المشهد المكرر وعلاقته ببقية المشاهد. وفي مشهد آخر يسأل المخرج طفلين من وراء الكاميرا: “بِتحبو الإنيمي ليه؟” تجيب الطفلة: “عشان هو انيمي”. الجواب يحمل صيغة للمتعة بعيداً عن الفهم وهو ما كان ليتحقق لهذا الفيلم لو أن معالجته للفكرة كانت أكثر عمقاً وتشويقاً.