“أزرق القفطان”.. الجحيم هو أن تكون مختلفا

عبد اللطيف البازي*

 عرض فيلم “أزرق الففطان” ضمن قسم “نظرة ما” بدورة عام 2022 من مهرجان كان السينمائي. وهو الفيلم الطويل الثاني للمخرجة المغربية مريم التوزاني بعد فيلمها “آدم” الذي عرض هو الآخر بنفس القسم في دورة كان 2019، وبعد إخراجها لفيلمين تخييلين قصيرين، ” الليلة الأخيرة” (2011) و”آية والبحر” (2015)، وفيلم وثائقي قصير بعنوان “جلدي القديم” (2014).  

“أزرق القفطان” فيلم جريء ولا يهاب المواجهة، وهو يحكي قصة قفطان يقوم بحياكته حليم “المعلم” الوسيم والصموت وذلك تحت مراقبة وتتبع زوجته مينة القلقة  التي تدبر شؤون ورشة الخياطة بحزم، وتعامل  زبوناتها بصرامة، وتطل عليهن وعلى العالم من منصة الورشة باعتبارها مختبرا سريا وسحريا يبهر بإبداعاته التي تفاجئ بألوان ومقاسات واشكال تتحول بدورها إلى أحاسيس لذيذة وغامضة تغير رؤية الحاضرين  للوجود ولو للحظات.

وحليم هو من يقوم بـ”تنزيل” طلبات ونزوات الزبونات، وهو المتحكم، بذلك، في منسوب جودة القفطان الذي ينبعث من تفاصيله سحر و شاعرية يمنحان الفيلم حيوية، ويحثان  الشخصيات على الحلم وعلى الثقة في مهاراتهم رغم أن هذا القفطان الأصيل منتوج هش ومهدد بالفناء، ومن هنا حرص مينة وزوجها على تأمين الخلف وتعهد من سيحمل مشعل هذه الحرفة وهذا الإبداع بعدهما علما أنهما لم يرغبا أو لم يتمكنا من الإنجاب.

ومينة وحليم مرتبطان منذ ما يقارب ربع قرن، وهما يتقاسمان سرا حارقا ويعيشان حياة تبدو هادئة يحكمها توازن ما. إلا أن هذا التوازن سيختل بظهور يوسف، الشاب الذيأتى طلبا لتعلم فن الخياطة لنكتشف أن هذا الفيلم هو بمثابة تقاطع لأكثر من مأساة: مأساة المثلية الجنسية التي يعيشها حليم في صمت، وتعيشها معه مينة، بتكتم وبألم وبشيزوفرينية كذلك، فالكل يعاملهما على أنهما زوج Couple كباقي الأزواج لكننا سنشهد كيف أن حليم يشعر بالرعب، وهو يمارس الجنس مع زوجته، وكأنه يتعرض للاغتصاب.  

والمأساة الثانية هي معاناة مينة مع مرض السرطان حيث تم بتر جزء من نهدها ومن أنوثتها. أما المأساة الثالثة فيعيشها يوسف الوافد الجديد الذي هرب من جحيم أسرته وسقط أسير انجداب غريزي نحو حليم، وقد كانت الورشة شاهدة على لحظات الإنجذاب الأولى بينهما بكاميرا مقربة منهما تنقل انفعالاتهما الدفينة وتوقهما إلى الحنان ورغبتهما الجامحة في التحاب.

وفي البداية تميزت العلاقة التي ربطت مينة بيوسف بالتوتر وعدم الثقة وبقدر وافر من الغيرة، ثم جمعهما فيما بعد تواطؤ استثنائي تأسس بالتدريج. كما أننا سوف نعيش لحظة تواطؤ آخر بين مينة وزوجها حيث نصحته نصيحة غير متوقعة: ع”ليك ألا تخاف من الحب”. وسوف ترتب له بعد ذلك موعدا مع معشوقه يوسف بالحمام، الحمام باعتباره فضاء تعري، فضاء تبدو فيه الأجساد ضبابية والوقائع كأنها تمر في حلم أو في كابوس، فضاء مواز لفضاء الورشة الرتيب والخاضع للمواضعات الاجتماعية.

ويزداد تعلق الضيف يوسف بحليم وتقوى قبول مينة للوضع القائم، لنجد أنفسنا إزاء ثلاثي عاشق، يرقص أطرافه الثلاثة، ذات انتشاء، على إيقاع أغنية ريفية متداولة في الأوساط الشعبية. وفي مشهد الرقص هذا لا نعد نتبين من يعشق من، ومن يشتهي من، لنستحضر فكرة الباحث الفرنسي روني جيرار الذي يتحدث عن الرغبة المثلثة le desir trianagulaire باعتبارها رغبة تحتاج في الآن نفسه لموضوع تعشقه ولوساطة نموذج معين يوجه عشقها ويدبر انجذابها.

“أزرق القفطان” هو فيلم هجين تتخلل حكايته المتخيلة مقاطع تكاد تكون توثيقية  تتعلق بفن الخياطة وتفاصيل التطريز تم تصويرها بحب ولوعة ربما لأنه يريد أن يؤكد أن مرور الزمن  له وقع مأساوي، كما أنه يتضمن بعدا تعليميا  يريد إيصال رسائل للمستقبل تؤكد على ضرورة الحفاظ على الفنون وسحرها لأنها مكون رئيسي من مكونات الهوية الجماعية. وهو عمل متقشف، وقصته عابرة  للمجتمعات والثقافات تصور حالات  حرمان وأسى وهشاشة،  إذ تقترب الكاميرا دون تهيب  من الشخصيات وانفعالاتها وحالات سكونها وصخبها بالمنزل أو بالورشة حاضنة الأثواب الرفيعة والأحلام المنفلتة، أو بحواري المدينة القديمة التي تؤطر كل وقائع الفيلم مما قد يولد لدى المتلقي شعورا بأن المغرب مجتمع تقليدي وعتيق لم يصله أي مظهر من  مظاهر الحداثة باستثناء حضور رجال أمن مهمتهم ضبط الأمن والتحكم في تحركات النساء وأجسادهن، كما يرسخ في ذهن هذا المتلقي  بأن المغاربة هم في معظمهم  متعبون  خاصة منهم رواد المقهى الشعبي الذي قصدته مينة، رفقة حليم، ودخنت بمرح غليونا تقليديا (سبسيا)، مما ذكرنا  بأجواء رواية “ليلة القدر” للطاهر بنجلون التي أدرجها أكثر من ناقد ضمن الأدب المكتوب تحت الطلب.

 فهل فيلم مريم التوزاني ينسحب عليه هو الآخر هذا التوصيف؟ كما يبدو أن المخرجة لا تثق في جمهورها، لذا  أصرت على إدراج ما يمكن اعتباره “المشهد الزائد”، ذلك أنها رغبت  في جعلنا نعاين بشكل واضح، حتى لا يخامرنا أدني  شك، بأن حليم مارس الجنس مع رجل بعد إغلاق باب الغرفة بالحمام، رغم أن نفس الباب أغلق أكثر من مرة  في مرات سابقة، ووصلت المعلومة الملغومة دون أن نشاهد تبانا وهو يسقط أرضا. مما ولد لدينا الانطباع   بأن الفيلم تنقصه جرعة من الصدق وجعلنا نتساءل: ما الذي يجعل أغلب صناع وصانعات السينما ببلدنا يرتبكون ويتلعثمون ولا يتضح في إنتاجاتهم ما يودون قوله للعالم؟

وكما كان منتظرا، ترحل مينة في هدوء، ويحرص زوجها ويصر على أن يلبسها بدلا من الكفن الأبيض، القفطان الأزرق الذي أودعه كل مهاراته وشغفه، وسنشهد جنازة سوريالية حمل فيها حليم ويوسف جثمان مينة وكأنهما يصاحبانها، وهي في كامل أناقتها وبهائها، لتعبر نحو وجود آخر أكثر رحابة وأكثر ضمانا للإنشراح. وسنجد الرجلين في المشهد الأخير من الفيلم يرتشفان شايا، دون إحساس  بالذنب، وقد حل يوسف، مزهوا، محل مينة التي استمتعت في نفس المقهى بتدخين غليون تقليدي مُرافق بآخر ضحكة لها صادرة من القلب.

*ناقد سينمائي من المغرب

Visited 2 times, 1 visit(s) today