“أرى استر”.. هل هو مخرج أفلام رعب حقا؟

أري أستر أثناء تصوير أحد أفلامه أري أستر أثناء تصوير أحد أفلامه

إن تطور أفلام الرعب الملحوظ في السنوات العشر الأخيرة، ينذر بحدوث طفرة حقيقية في هذا النوع، والذي تطور منذ بداية نشأة السينما وحتى الآن، حيث مر بمراحل كثيرة جعلته يقف صامدا وسط حالة كبيرة من التقليدية والاستسهال من صناع بعض الافلام في هذا النوع.

ويرى المخرج الفرنسي فرانسوا تريفو أن تاريخ السينما يسير في خطين ينحدر أحدهما من لوميير وهو الخط الواقعي في جوهره، بينما ينحدر الآخر من ميليس ويتضمن صنع عالم فانتازي أو خيالي.

وبالرغم من عدم دقة هذا التقسيم من الناحية التاريخية إلا إنه يمكننا أن نجد فرقا بين الافلام والأنماط الفيلمية التي تدور بشكل عام داخل محاكاة الواقع، فهذا النمط يفترض بناء عالم خيالي بديلا يحكي قصصا ذات تجارب من المستحيل حدوثها في أرض الواقع ويتخذ من مخاوفنا وعالمنا الافتراضي ما يثيره علي الشاشة ويقدمه ليجعل الرعب كامنا ينبع من داخلنا ومن مشاكلنا النفسية وأحلامنا ليكون أكثر إثارة وتخويفا، فصناعة الخوف تستلزم الدراية الكاملة بالنفس البشرية وما يعتريها من أسرار لجعل المشاهد  دائما في حالة ترقب وتوجس.

لذلك كان ضروريا تطوير هذا النمط حتى لا يقع في فخ التقليد والاستسهال ولكن دائما توجد مخاطرة كبيرة في تغيير هذا النوع بسبب ما يعتريه من ضمان النجاح التجاري في الشق التقليدي ورغبة المنتجين في البقاء في المنطقة الآمنة إلا أن قواعد السوق دائما ما تتغير وبظهور شركة A24 الأمريكية والتي بدأت نشاطها كموزع محدود داخل الولايات المتحدة الامريكية تبنت اتجاها محددا وهو دعم الافلام ذات الميزانيات المحدودة، وأيضا سينما المؤلف حيث الأغلب ما نجد مؤلف الفيلم هو المخرج لكي يبرز رؤيته الخاصة فى الفيلم.

قامت تلك الشركة بتوزيع هذه الافلام المختلفة والمستقلة إلى حد كبيرا داخل أمريكا ومع الوقت تطورت لكي تصبح موزعا عالميا وأيضا شركة إنتاج ولعل أشهر وأهم مشاريعها تحديدا في عالم الرعب هو مشروع روبرت ايجرز بفيلمي “الساحرة” و”الفنار” (The witch- The lighthouse) ومشروع إري استرAri Aster   وهو موضوع المقال.

أري استر  صانع الافلام الامريكي المستقل بدأ حياته السينمائية بمجموعة من الافلام القصيرة والتي غلب عليها الطابع الكوميدي إلي أن بدأ أول أفلامه وهو فيلم Hereditary الذي أحدث ضجة كبيرة خصوصا مع بداية دخوله في نمط الرعب وقال عنه المخرج الكبير مارتن سكورسيزي “إن استر صانع أفلام شاب استطاع أن يحدث تغييرا ويصنع صورة غنية بالتفاصيل ، وأفلام مبهرة سينمائية وبصرية”  وقد تميز استر بكونه صاحب مشاريع أفلام تنتمي إلي عالم الرعب وتتميز بأنها طويلة نسبية ففيلمه الأول  “وراثي” Hereditary ساعتان والفيلم الآخر “قيظ الصيف” Midsommer ساعتين ونصف في النسخة السينمائية وفي نسخة المخرج ساعتان وخمسون دقيقة ، وأعلن استر بأن فيلمه القادم وهو رعب كوميدي ستكون مدته حوالي أربع ساعات وهي مدة طويلة إلي حد كبير في نمط الرعب الذي يتميز بصغر مدة عرض الفيلم ، فهذا تحدى جديد من استر يستعرض فيه امكانياته القوية في الكتابة والصورة والتي تجعله يقدم فيلما طويلا نسبيا ولا تشعر معه بأي ملل .

من فيلم “قيظ الصيف”

وتبني استر فكرة العائلة وما تمثله من عادات وتقاليد ومواريث وكيفية قضاءها على أصحابها في بعض الأحيان أو إصابتهم بالحنق، فقد تناول استر الجانب المخيف فى فيلميه وقدم تلك الفكرة بشكل مختلف ففي فيلم “وراثي” Hereditary كانت العائلة صغيرة والموضوع وراثي بشكل محدود عن طريق أسرة صغيرة نكتشف بالنهاية أنها جزء من جماعة دينية معينة.

وفى فيلم “قيظ الصيف” Midsommer نقلنا إلي فكرة العائلة الكبيرة والانتماء لها حيث أصبحت القرية بأكملها مترابطة ولديها عاداتها الخاصة بها ، فإن فكرتا العائلة والإيمان هما الفكرتان الرئيسيتان اللتان ناقشهما استر في أفلامه وتناولهما بشكل عميق يجعلك تفكر بصورة مخيفة فيهما خاصة إذا اجتمعا معا .

فيلم “وراثي” Hereditary إنتاج عام 2018، تأليف وإخراج إري استر، تدور أحداثه حول عائلة تفقد الجدة وتبدأ رحلة إيمانية مخيفة، ويبدأ الانهيار العائلي بسبب ما ورثته من أسرار وغموض من تلك الجدة التي كانت عضوة في جماعة دينية لمحاولة تنفيذ طقوس خاصه بها مستغلة كافة الظروف لصالحها لتتحول العائلة إلي دمى بالماكيت لتحركه الجدة كيفما تشاء، وهي المهنة والهواية التي كانت للإبنة والتي أصبحت الأداة الرئيسية للجدة.  وقد أشار المخرج إلى ذلك في أسلوبه على مستوى الصورة حيث أن المشهد اﻻفتتاحي للفيلم يبدأ بماكيت يعرض تفاصيل المنزل منتقلا من داخله إلى البيت نفسه، ليظهر لنا كيفية تحريك تلك الدمى بواسطة يد خفية.

تميز استر باستغلال كافة الأدوات والإمكانيات الخاصة به ليصنع ما أشبه بكابوس مخيف ملئ بالأفكار والرؤي، فيستغل شريط الصوت لصنع موسيقي ومؤثرات تبدو في أغلب الاحيان مزعجة لتنقل لنا تلك الحالة التي تمر بها العائلة ونتعايش معها شعوريا ولكن بدون ملل.

واستطاع استر صنع مشاهد قوية بصريا كمشهد حريق الزوج في الفيلم والذي كان أشبه بلوحة فنية كابوسية، ومشهد بيتر في المدرسة عندما يضرب نفسه استطاع نقل حالة التوتر باستخدام زوايا التصوير والعدسات.

وتميزت الإضاءة ببساطتها وساهمت بشكل كبير في نقل حالة الترقب والتوجس داخل أحداث الفيلم الذي كتبه استر بحرفية ودقة شديدة استطاع من خلاله أن يصنع سيناريو متماسكا وقوي البناء الدرامي وبناء شخصيات درامية مليئة بالصراعات النفسية والصراعات المادية ، فشخصية بيتر الخائفة والمسالمة التي وجدت نفسها فجأة محاصرة ضمن عادات وراثية إيمانية جعلت منه شخصية مخالفة تماما لما عاش فيه عمره كله فخطأ واحد ارتكبه استطاع تغير مجري حياته بالكامل والعلاقة المتوترة بينه وبين امه والتي عبر عنها السيناريو بمشهد بليغ عند تناولها الطعام عقب موت الأخت مستغلا الإضاءة الصفراء والمساحة المتباعدة بالرغم من قربها بسبب زاوية التصوير لتصوير حالة التباعد الكبري بين الأم وابنها وكان الأب هو رمانة الميزان في هذا المشهد والذي كشف عن الكثير من الخبايا  بحواره الدقيق المكتوب بدقة شديدة .

ونرى الأم التي تعاني من حبها لابنها وخوفها عليه، ولكن تاريخها النفسي يجعلها مضطربة فكريا وعاطفيا، فلا نستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، ولكنه من المؤكد أن هناك ثمة شيئا تتوارثه تلك العائلة يجعلها دائما تعيش بصراعات مختلفة.

وتميز الاداء بالصدق الشديد والتلقائية الصادقة تحديدا من توني كوليت التي قامت بدور الام والتي استطاعت ان تنقل كافة الصراعات التي تمر بها الشخصية بدون أي افتعال او اصطناع بل استطاعت التعبير بالعين وبالوجه لتوضح تعبيرات مختلفة تجعلك تعيش مع الشخصية ، وكذلك اليكس وولف الذي قام بدور بيتر والذي قدم مشهدا عظيما عندما ماتت أخته ورجع إلي البيت في حالة صدمة ودهشة عبر عنهما بعينيه الزائغتين التي لخصت كل مشاعره في تلك الحالة واداء الفتاة الصغيرة تشارلي الذي كان اختيارها بسبب ملامحها الجامدة التي تخيفك في أحيان كثيره بدون كلام فقط نظراتها وملامحها

من هنا استطاع اري استر الاستفادة من تلك التجربة والذهاب إلي السويد.. تحديدا مثيولوجيا الأساطير .. إسكندنافية وهي التي ساعدته كثيرا لاختمار فكرته التي بدأها في فيلم “وراثي” Hereditary والتي أضاف إليها تجربته الشخصية عندما انفصل عن صديقته ومر بتجربة أليمة عقب ذلك حسب تصريحاته  فوجد ضالته فيها ووجد مادة خصبة لصنع فيلمه الثاني “قيظ الصيف” Midsommer والذي تكبر فيه العائلة لتصبح قرية بأكملها تنتمي إلي نفس الدم ترغب في استقطاب دما جديدا لحدوث عملية التزاوج وإقامة العيد والاحتفال الذي يقام كل 90 عاما وبالتالي يجب عليهم أن يخرجوا ليستقطبوا دما جديدا وهوما يحدث بأن يذهب أحد اﻻفراد ويستقطب أصدقاءه بعد اختياره لهم ليجذبهم إلي عائلته وبدأ الاحتفال .

من فيلم “وراثي”

هنا تتضح الفكرة وتكون أكثر إكتمالا ورعبا، بالرغم من قلة مشاهد الرعب التقليدية إلا أن حالة التوجس والرعب التي تصل إلي ذروتها بالنهاية تظل موجودة طوال أحداث الفيلم التي لا تشعر مطلقا بطولها وتتمني أن تزيد لكي تتعرف أكثر علي تلك العائلة وطقوسهم الغريبة.

تأثر استر بشكل كبير بتلك الأساطير القديمة وقدمها بشكل عصري جدا فتقليد الناس الأكبر سنا بأن يلقوا بأنفسهم من أعلي القمم الجبلية لكي يضمنوا بقائهم بلا فقر اوجوع واستمرار عجلة الحياة بلا زيادة سكانية في القرية هو تقليد قديم ذكر في الأساطير القديمة في عدة مواضع، ورمزية الدب الذي يرمز للشر في الكثير من المواضع القديمة في تلك الاساطير والذي استعان به استر لكي يكمل به اللوحة الأخيرة له.

استطاع استر التحكم بشكل كامل في كتابة هذا السيناريو بدقة، وصنع عالم متكامل اﻷركان له قواعده الخاصة وله خفاياه التي تدفعك لاكتشافها طوال أحداث الفيلم مستخدما الصورة بشكلها الأمثل لدمجها مع السيناريو المكتوب.

وقدم استر افتتاحية مميزة للفيلم تتناغم مع روح الفيلم الأصلية وكأنها قراءة لكتاب أساطير قديمة ، ويأخذنا من خلال ذلك لنري أن ما بداخل تلك الافتتاحية إشارة لمضمون الفيلم ، فيصبح لدينا هذا الايمان الراسخ في عقول القرية الذي يدفعهم بالقيام بتلك الطقوس الغريبة والمخيفة علي مدار أيام الاحتفال ويجعل التضحية لزاما لاستمرارهم ، ومن هنا وجد استر مادة خصبة لكي يعبر عن عدم الاستقرار في العلاقات العاطفية مما يؤدي إلي انهيارها بسبب أنانية أحد الأطراف، ففي حالة كريستيان نجده يرى أن ليس هناك أي متعة مع  صديقته  بسبب مشاكلها النفسية والتي تحاول باستماتة الحفاظ عليه خاصة بعد وفاة أهلها .

ومن هنا أوجد استر التضاد.. فقد استخدم سحر الطبيعة والألوان الجذابة وضوء النهار الذي ظهر في معظم الفيلم تقريبا ليصنع منه عالما مخيفا ومرعبا واستخدم كل تلك المعطيات بشكل يجعلك قلقا ومتوترا بخلاف ما هو سائد في أفلام الرعب التقليدية، بأن الليل هو الأكثر شيوعا لما يحمله من خبايا وشرور، إنما هنا الرعب في وضح النهار وفي قلب الطبيعة التي تبتلع كل شيء في مشهدا معبرا جدا عندما كان يتم دفن كل شيء حي في الارض.

وقد استخدم المخدرات كعنصر رئيسي لتلك العائلة لكي يجعل منطقا من تصرفاتهم الغريبة غير المنطقية والتي تحدث نتاج تغييب الوعي الكامل لديهم ليقبلوا بكل سرور على التضحية من أجل الاستمرار، ونشعر من الصورة البصرية أن داني تنتمي لهذا المكان وأنها جزء من تلك الطبيعة فنراها وقد نبت العشب علي يدها وقدمها.

فالمخدرات التي تغييب العقل وتصنع عالم افتراضي تعيش فيه مثلها مثل الايمان والموروثات والعادات والتقاليد التي يعيشون فيها والتي تصنع سجنا كبيرا في حياتهم لا يستطيعون الخروج منه وهم سعداء بهذا وانهم يضحون بكل شيء لأجل هذا الايمان، مغيبين عقولهم تماما مثل ما تفعله المخدرات بهم.

فهل من الأفضل للعلاقات المؤذية أن تستمر أم أن تنتهي؟ وتجعل حياة اطرافها أفضل، فتلك العلاقة التي تسبب ايذاء وألم نفسي بين الشركاء تدمر مدى فهم بعضهم البعض وتصيبهم باجهاد نفسي، فمن الخطأ الاستمرار فيها لأنها تنتهي بنهايات مأساوية تؤذي الطرفين.

رسم استر باستخدام الصورة عدة لوحات فنية أعطت ثراء بصري هائل للفيلم ، فهناك عدة مشاهد مميزة جدا علي المستوي البصري فمشهد الغذاء الذي جمعهم جميعا كان أشبه بلوحة العشاء الأخير ومتأثرا بها تحديدا للخيانة المرتقبة من كريستيان لصديقته ، ومشهد النهاية الذي كان قويا بصريا ، ومشهد ممارسة الجنس لكريستيان في طقس غريب احتفالا بتخصيب الفتاة فهو مشهد غريب ومرعب بشكل كبير ويتضح تأثر استر بالفن التشكيلي في هذا المشهد وترتيبه للممثلين ووضعياتهم فرسمهم كأنهم لوحة التخصيب متأثرا بما جاء بالأساطير القديمة .

وقد تميز شريط الصوت الذي كان مصمم بشكل ناقل لحالة الرعب والخوف واستخدام موسيقي معبرة جدا تبث الرعب، وتميز تحديدا في ثلاثة مشاهد

1- مشهد انتحار اخت دان الذي استخدم صوت صافرة الحريق بشكل مزعج ودمجها مع الموسيقي مما جعل المشهد مخيف لما وراءه من فكرة الانتحار نفسها التي قد تكون نتيجة للإهمال الأسري والخلافات الشديدة بينهم .

2-  مشهد تنصيب داني الملكة كان توزيع الموسيقي أثناء الرقصة مميز جدا فكانت تساعد المتلقي بأن يكون جزءا من الرقصة كأنه مشارك بها .

3- مشهد النهاية الذي كان متكاملا من حيث الصوت والموسيقي التصاعدية الحادة والصارخة لتجعل منه لوحة فنية ناطقة تشعرك بالفزع والرعب.

ومن هنا تنتج عدة تساؤﻻت هل تستطيع العائلة والمعتقدات أن تقتل أفرادها؟ وهل تستحق بدلا من إحساس الدفء والأمان الشعور بإحساس الخوف والرعب من مجرد معرفة ما وراء العائلة وأسرارها؟  كل هذه التساؤلات والأفكار تظهر الجانب النفسي والخفي للترابط العائلي والإيمانيات الروحية التي قد تؤذي بعض أفرادها دون شعور.

وبذلك يمكننا ملاحظة تطور نوع الرعب ليصبح أكثر عمقا وأكثر دراية بمواضيع وأفكار يستطيع التوغل فيها وإثاره الجانب الخفي منها مستخدما الصورة في المقام الاول والتي هي لغة السينما ليصنع بها رعب لا يعتمد علي القفزات فقط التي تصنعها بعض المؤثرات الصوتية.

Visited 87 times, 1 visit(s) today