“أرض الخوف”.. مأزق وجودي مروّع
قليلة هي الأفلام المصرية التي تناقش أسئلة إنسانية ووجودية كبرى، وأقل منها تلك الأفلام التي تتقن مستوياتها الواقعية الحكائية، وتتيح في نفس الوقت مستويات أخرى للقراءة، بحيث نكون أمام عمل ناضج المعالجة، قوي ومؤثر، متماسك السرد، ومؤرق بأسئلته المعلّقة، والجديرة بالتأمل.
لا أحب مصطلح “السينما الفلسفية”، أو “الأدب والمسرح الوجودي”، وأفضّل بدلا منه تعبير “دراما الأسئلة الكبرى”، لأن هذه الأعمال حاضرة منذ المسرح الإغريقي، بدرجات مختلفة من الجودة، كما أنها حاضرة في أعمال شكسبير الكبرى، وهذا بالتأكيد أحد أسباب بقائها حتى اليوم، وهي أيضا حاضرة في أعمال كتّاب كبار مثل ديستويفيسكي، أي أنها ليست وليدة القرن العشرين، أو الفلسفة الحديثة فحسب، رغم أن هذا القرن بالذات احتفي أكثر بهذه الأعمال، بل وظل بعضها عنوانا على قرن القلق والشك، والبحث عن طريق، بعد حربين عالميتين مدمرتين.
هذا الفيلم المصري الذي أنتج عام 1999 بعنوان “أرض الخوف” من تأليف وإخراج داوود عبد السيد، وعرض في مارس عام 2000، من أهم وأنضج ما يمكن أن يندرج تحت عنوان “دراما الأسئلة الكبرى”، ومن أفضل وأنضج أعمال مؤلفه ومخرجه، ودور بطله أحمد زكي في الفيلم من بين أدواره الأهم والأصعب والأفضل.
السمات هنا في صورتها النموذجية: قصة متقنة مثيرة عن عالم المخدرات، ولكنها ليست قصة عادية، فرغم أنك يمكن أن تستمتع بها كثيرا عند هذا المستوى، كما شاهدت بنفسي من تجاوب جمهور سينما مترو مع الفيلم في عرضه الأول، إلا إنك ستستمتع أكثر بمستويات أخرى إذا شئت، وربما ستخرج من الفيلم بأسئلة أكثر من الإجابات.
نماذج أخرى
نماذج دراما الأسئلة الكبرى في السينما المصرية يمكن أن نجدها قديما في تلك الاستلهامات من “فاوست” جوتة، حيث تحليل علاقة الإنسان في مواجهة الشر والإغواء، ويمثلهما الشيطان بالطبع، هنا أمثولة (قصة رمزية) من السهل تطويعها للناحية الدينية، وهي أمثولة سهلة التلقي والقراءة حيث يظهر الشيطان بصفته المعروفة الشريرة، وككائن خارق القدرة والإبهار، وخصوصا مع أداء يوسف وهبي المتفوق في “سفير جهنم”، وأداء محمود المليجي العظيم في “موعد مع إبليس”.
لكن المرحلة الأهم بالتأكيد في هذا النوع من الدراما السينمائية، جاءت مع بعض الأفلام المأخوذة عن أعمال نجيب محفوظ، مثل “اللص والكلاب” الذي يتحول فيه سفاح معروف الي صورة للإنسان الباحث عن العدل، ومثل فيلم “الطريق” الذي يقدم بحثا خطيرا عن الأب بصورتيه الواقعية والمقدسة، ومثل فيلم ” الشحات” الذي يرصد متاهة وحيرة وجودية نادرة، ومثل فيلم ” الشيطان يعظ”، وهو مأخوذ عن قصة قصيرة مدهشة لمحفوظ بعنوان “الرجل الثاني” في مجموعة “الشيطان يعظ”، والفيلم عن محنة الطرد، ومحاولة الرجل الثاني أن يعيش مستقلا بلا جدوى، بعد أن صار منبوذا من الرجل الأول، وفي قبضة حياة لا ترحم، ومثل فيلم “قلب الليل” الذي يستعيد أيضا قصة الطرد من البيت الكبير، والنزول الى الحياة، بحثا عن مرفأ وسط ظلام دامس، ثم يجعل الفيلم بطله متخبطا حتى النهاية المؤلمة.
في كل عمل من هذه الأعمال، تُطرح الأسئلة من خلال مستوى حكائي شيق ولامع، تماما كما فعل داوود عبد السيد في “أرض الخوف”، مع وجود إشارات تضع يد المتلقي على وجود مستوى آخر للقراءة.
ليس مطلوبا أن يكون الترميز كاملا كما يعتقد البعض، بل لعله من الأفضل أن تكون المعالجة في منطقة رمادية، تقول ولا تقول، هنا يصبح المعنى كامنا، وليس مباشرا، ولكن هناك أشياء كثيرة واضحة ومشتركة بين هذه الأعمال: بطل الدراما مثلا يتجاوز اسمه وعمله وشخصه، رغم أن كل ذلك محدد وظاهر بالتفصيل، ولكن يمكن اعتباره نموذجا للإنسان عموما، والبطل لا يتوقف عن الحيرة والسؤال، هذا مظهر آخر مشترك ومتكرر، والعنصر الثالث المشترك أنه رغم وجود نهايات لهذه الأعمال، إلا أنها في الحقيقة بلا نهايات، لأنها تترك في ذهن بطلها، وفي ذهن المتفرج، أسئلة مقلقة ومزعجة للغاية، هي ما يطلقون عليها الأسئلة الوجودية، أي بوجود الإنسان، حياته واختياراته، قدرته وعجزه، وقلقه وحيرته أيضا.
الشخصيات أيضا يمكن أن تحمل اسم “الشخصيات الوجودية”، فيها تفرد واختلاف، الفرد لا الجماعة هو عنوان التجربة، وهو أيضا الذي يمارس حريته في الاختيار، وبسبب هذه الحرية يعيش تجربة قاسية ومؤلمة وشاقة، وهو بطل تراجيدي الى حد كبير، نبيل وعاشق للمعرفة وللتجارب، ولكن هذا الشغف يفتح عليه أبواب جهنم، ولأنه يشعر بالوحدة والهجران، فهو في قلق دائم لا ينتهي إلا بالموت.
عن المهمة وصاحبها
طالت هذه المقدمة نوعا ما، ولكني أراها أساسية في قراءة فيلم “أرض الخوف”، الذي تتركز أسئلته الكبرى حول طبيعة المهمة، أو الأمانة، التي حملها الإنسان، وحول مدى قدرته على إنجازها في العالم الجديد الذي هبط إليه، وهو عالم يصفه الفيلم بداية من العنوان بأنه مكان للخوف.
الإنسان الذي كان “مراقبا ومتابعا” من أعلى، سيمارس معه داوود لعبته المتكررة في أفلامه: سيدخله الي تجربة بكل المعاني، سيجعله متورطا بعد أن كان مراقبا، ومن خلال التجربة، يكتشف يحيى الحياة، ويكتشف ما بداخله من أشياء لا يعرفها.
في “أرض الخوف” ثلاثة افتراضات هامة: الافتراض الأول هو أن الفصل من العمل، الذي يمكن اعتباره معادلا للنبذ والمغادرة والطرد، لم يكن إلا جزءا من المهمة نفسها، حيث أطيح بيحيى المنقبادي في قضية رشوة، فسجن، وعمل في صالة بلياردو، تمهيدا لدخول العالم السفلي لتجارة المخدرات.
والافتراض الثاني هو أن المهمة ليست عقابا على الإطلاق، بل هي اصطفاء واختيار، فلولا أن الضابط يحيى المنقبادي متميز ومتفرد، ولولا أنه خضع لمراقبة صارمة سجلت قدراته وإمكانياته، لما أسندت إليه المهمة من الأساس، هو موضع ثقة ونزيه وذكي وقوي وحاسم، أي أنه ببساطة جدير بالمهمة على الأقل من وجهة نظر من أسندها إليه، وهي وجهة نظر معتبرة، لأنها من صاحب الشأن، ومالك المهنة، وموزّع المهمّات.
والافتراض الثالث الهام جدا هو أن شيئا لم يتم رغما عن يحيى المنقبادي، فقد وافق على المهمة، وحمل الأمانة، ونزل متحمسا الى أرض الخوف، بكل حرية واقتناع، في سبيل أن يحقق شيئا مهنيا متميزا، له ولبلده، وليست مصادفة أن يكون المشهد التالي لمشهد التكليف مشهدا ليحيى وهو يستمع على سريره لأغنية “وطني وصباي وأحلامي”.
الإغواء الذي سيتجسد بصريا في صورة التفاحة الخالدة في مشهد التكليف، ليس إغواء شريرا، بل هو هنا إغواء المجد والقيمة والطموح، إغواء المغامرة نبيلة الهدف، حتى لو كانت ستلوثه الى الأبد، إغواء التضحية التي ستجعله العميل الغامض والخالد، حتى لو تغيّر وزيرا الداخلية أو العدل، وحتى لو تغيّر رئيس جهاز المخابرات، لعله أيضا إغواء الفضول المعرفي على طريقة بومثيوس سارق النار،إغواء سرقة المعرفة والأسرار، وإغواء الوثيقة المقدسة المحفوظة عن مهمته، التي ستمنحه وساما ومجدا باقيا، ثم إنه يتعامل الآن مع الكبار، مع القيادات العليا، هو الآن الرجل المهم، بل لعله الأهم في تاريخ المهمات كلها.
الإنسان إذن في هذه التجربة ليس معاقبا، بل لقد اختار ووافق وتحمس، سيهتز الحماس، وسيبدأ التشكك في المهمة فيما بعد، ولكن منذ البداية يحيى موافق، كان يمكن أن يتحلل من كل شيء وهو يستمع الى استفزاز عمر الأسيوطي (عزت أبو عوف) له أثناء لعب البلياردو، ولكنه تعامل بهدوء ورضا، عمر الأسيوطي لم يطرد من الخدمة، وهو يمتلك عنجهية إبليس “لو اتقابلنا مرة تانية لازم تقوللي يا عمر بيه”، لم يعودا زملاء، عمر يكره يحيى، ورغم أنه لم يطرد لا ظاهريا ولا واقعيا من الخدمة، إلا أنه سينزل معه في النهاية الى أرض الخوف، لديه أيضا مهمة غامضة في الأرض الخراب.
ثلاث عقبات
ومثلما وضع داوود ثلاثة افتراضات للمهمة، فقد وضع ثلاث عقبات أمام يحيى لابد أن يتجاوزها لتحقيق المهمة: العقبة الأولى هي سؤال الهوية، حيث سيقبل يحيى أن يغير هويته، بما في ذلك اسمه، سيتحول يحيى المنقبادي الضابط النزيه، الى مجرد معلم من تجار الصنف اسمه يحيى أبو دبورة، وسيشتبك يحيى منذ البداية مع من يذكره بهويته القديمة، كما حدث مع الرجل الذي كان يحلق له شعره، هذا التغيير هو البداية الشكلية للتغير الحقيقي.
العقبة الثانية هي الانغماس في اللعبة، والتلوث الكامل بها، وهنا ينتقل يحي تدريجيا، ومن خلال تفصيلات متماسكة، من بودي جارد الى مدير كباريه الى تاجر مخدرات عادية كالحشيش وخلافه، ثم يصبح قاتلا، ثم يتحول في النهاية الى تاجر كوكايين، أو تلك المخدرات السوبر التي بدأت في الدخول في العام 1981، على يد المعلم رجب صاحب التوكيل (أحمد كمال).
صار يحيى معلّما كبيرا بالتجربة، ومن خلال الشخصيات التي أدخلته العالم السفلي: المعلم سعدة المنزلاوي (سامي العدل) الذي أعطاه أول شحنة مخدرات، والمعلم بسيوني (مخلص البحيري)، الذي أقنعه بعنفه وشراسته أن القتل ضروري إذا أراد أن يصنع لنفسه سمعة مخيفة، وأخيرا المعلم هدهد (حمدي غيث)، الذي يمكن اعتباره حكيم تجار الصنف بلا منازع، والذي يمزج الديني السماوي بالأرضي في صفقة واحدة، والذي يبدو شخصية أسطورية تؤمن بالقدر، وبالرزق، وبالمصير المؤلم، مثلما ترى في القتل ثمنا ضروريا، وفي الصداقة والأمانة والوفاء قيما لا تزول، هدهد يبدو لي مثل أب حقيقي ل يحيى، يعلمه ويزوجه ويكشف له أسرار الإدارة والشطارة، ينقذه يحيى من الموت، ويتركه هدهد بلا عقاب، رغم علمه بأنه يخون الصحبة والصداقة.
أما العقبة الثالثة التي تواجهها المهمة، فهي حضور شخصية الضابط في قلب رجل المخدرات يحيى حتى النهاية، الضابط لم يمت أبدا، كان مستترا في صورة خطابات دورية تحمل اسم آدم، تكشف أسرار تجارة المخدرات، وتخفف الشعور بالذنب عن يحيى أبو دبورة، وتذكره بأنه مجرم يعمل في سبيل العدالة، ورغم أن يحيى أبو دبورة قد ذهب بلا عودة في مهمته، ورغم أنه اندمج تماما في حياته الجديدة، إلا أنه ينزعج بشدة من عدم وصول خطاباته، ومن صدمة مواجهة موسى ( عبد الرحمن أبو زهرة) ، مما أضفي على المهمة المقدسة طابعا عبثيا، فيصفع موسى ويهينه، في هذه الحالة يخرج الضابط من يحيى أبو دبورة، ثم يظهر الضابط من جديد في مواجهته الأخيرة مع عمر الأسيوطي في صحراء جرداء، وكأنهما في بدء الخليقة، لقد تحايل الأسيوطي الغامض والماكر ضد يحيى، ربما كان ذلك حقدا أو حسدا أو عنجهية، أو ربما كان الأسيوطي نفسه متواطئا مع المعلمين، أو ربما كان المعلم الأكبر وراء كل المعلمين، ولكن يحيى يقول عن نفسه إنه ما زال في داخله ضابط شرطة، رغم أنه صار جزءا من عالم المجرمين.
يحيى تاجر المخدرات يخرج منه الضابط وهو يتحرى عن حبيبته فريدة (فرح)، أو وهو يواجه وحشية القتلة على الشاطيء بكل احتراف، أو وهو يصر على استرداد الوثيقة ( المقدسة) المحفوظة، باعتبارها الدليل الوحيد الذي يثبت أنه كان في مهمة، بل إن حياته كلها في نهاية الرحلة مرتبطة بإثبات أنه ضابط في مهمة، رغم اعترافه بأنه يحن الي أرض الخوف، ورغم أن استعادة هويته القديمة لن يحل أزمته وقلقه الوجودي.
سر القلق
من أين ينبع هذا القلق الذي لن ينتهي؟ ليس من المهمة الصعبة، ولا من شراسة العالم السفلي، حيث القتل والخوف والشك وعدم الاستقرار في مكان، ولكنه ينبع في الفيلم من اكتشاف يحيى لجانب في نفسه لم يعرفه، اكتشافه لتناقض خطير جعله يمارس الشر، بنفس الصدق والأمانة التي يكتب بها التقارير، لقد أراد أن يعرف أسرار عالم المخدرات، فعرف أسرار نفسه، بل إن دوافعه في نهاية الفيلم تقول إن الرغبة في الإثم وممارسة الشرّ صارت هي الأقوى في داخله، أي أن داوود نقل الصراع بمهارة من خارج الإنسان الى داخله، في الداخل أيضا أرض لا تقل خطورة للخوف وللشك وللحيرة وللقلق، بل لعلها أرض الخوف الحقيقية.
هذا مأزق وجودي مروّع، فكأن المعركة خارج الإنسان، وفي داخله، وفي كل الاتجاهات، بحيث يبدو الموت امرا هينا مقارنة بهذا العذاب المستمر، حرب يحيى تتجسد أمام الشرطة تتمثل في إثبات أنه ضابط في مهمة، وتتمثل في أرض الخوف في إثبات أنه ضابط فاسد مفصول من الخدمة بسبب الرشوة، وحربه أمام نفسه تتمثل في أن يثبت لها أنه ما زال “آدم” المصطفي لمهمة عظيمة، وفي أن يثبت لطاقة الشر في داخله أنه ضحية وفي كابوس غير حقيقي، وأن الأمور قد اختلطت عليه، واقعا وخيالا، وصوابا وخطأ، هو في حكم المغامر والمجتهد والنبيل الذي تصدى بحسن نية لمهمة أكبر منه، برغم أنه يعرف في قرارة نفسه أنه أحب تدريجيا هذا العمل، وكأنه الوجه الآخر لحياته كضابط، الصورة من منظور معاكس، أو الوجه الآخر للعملة، كل طرف يؤدي دوره ومهمته في لعبة كونية شاملة كما تحدث المعلم هدهد، وكل مهنة لها ثمن وقربان، من قال إن الضابط لا يعيش أيضا في خوف وقلق؟ لقد انتقل يحيى الى الضفة الأخري من اللعبة الأرضية، من البراءة الى الاثم، حتي التغيير لم يطل سوى اللقب، فصار اسمه أبو دبورة بدلا من المنقبادي، أما الاسم (يحيى) فهو كما هو، فقد ولد ليحيا اللعبة بكل تفاصيها، ومن الزاويتين.
التورط والوحدة
الحكاية كلها تروى من زاوية الإنسان نفسه، لا يتداخل أبدا صوت صاحب التكليف بالمهمة، بل إنه يختفي تماما، حتى الرسول الذي يسمى موسى ليس رسولا بالضبط، فلا هو مكلف مثل يحيى، ولا هو يعرف الرجل الكبير مثله، ورغم أنه يقول إنه “رسول .. مجرد رسول”، إلا أنه في الواقع مجرد مراقب جديد، أصابه الفضول والملل، فتداخل، ووجد نفسه في النهاية متورطا، إنسان آخر لا يملك ل يحيى أي شيء رغم طيبة قلبه، وحسن نيته، بطل تراجيدي جديد أراد أن يعرف، فتح الخطابات، لم يفهم شيئا، ولكنه تعاطف بكل قلبه، ودفع الثمن، يحيى أحبه بالمقابل، لماذا فتح موسى الخطابات؟ لماذا أراد أن يعرف؟ ولماذا أصلا وافق يحيى على هذه الرحلة المعرفية التي ستلوثه؟ مساكين حقا هؤلاء البشر.
هذه الأرض مدمرة، وهذه الإنسان محكوم عليه بالوحدة، كما يقول الوجوديون، اختياراته وحدها تحدد وجوده، وهو محكوم عليه أيضا بالحرية، ومع الوحدة والحرية يولد قلق لا يزول أبدا، فوضى على الأرض، وفوضى أكبر بسبب تناقضات الإنسان الداخلية، لا يغلق داوود الباب، ولا يقضي على الأمل، هناك وثيقة وحيدة تثبت براءة يحيى، صحيح أنها وصلت الآن الى الشيطان نفسه، ولكنها تريح يحيى أمام ذاته، وهي أيضا الإثبات الوحيد، أمامنا نحن أيضا، على أنه لم يكن في كابوس، وأن المهمة حق وصدق، وأن هناك، وهذا هو الأهم، من كلّفه بالمهمة، ووثق فيه، واعتبره جديرا بالخير وحماية الوطن، من كلفه بالمهمة أيضا هو صاحب أرض الأمان والعدل، الذي يقاتل الشر بالشر، بلا رحمة أو هوادة.
لا شيء يخفف من قسوة أرض الخوف إلا الحب، وهنا يقدم السيناريو المحكم لبطل المأساة يحيى أبو دبورة، ثلاث نساء تعشقنه، وتغيرن حياته: رباب (صفوة) الراقصة التي تتزوجه، وتتركه عندما ينخرط في تجارة الصنف، وهناء (زينة)، الشابة الصغيرة التي تمنحه الحب والجسد والجنة الأرضية والابن الذي يحمل اسم يونس، وفريدة (فرح) المرأة الفريدة في شخصيتها القوية، ولكن يحيى أصبح أيضا نقطة ضعفها، تتحمل قلقه وغضبه وحيرته، وتعود إليه في النهاية، يتشاركان الوقوف أمام خطر غامض.
ثلاث حكايات حب مع ثلاث شخصيات نسائية مختلفة، يبدو الحب هو الحقيقة الأهم التي يمكنها مواجهة الموت، ومواجهة كل شيء سيء على الأرض، وهي الفكرة متكررة في أفلام داوود عبد السيد، لعل الحب أيضا هو الإجابة الوحيدة على أسئلة مستحيلة الإجابات.
الأسماء والصور والموسيقى
عود على بدء: هناك مستوى حكائي قوي ومحكم، رجل بوليس وسط عالم المخدرات، خيال داوود في هذا المستوى بديع، سواء في وصوله الى افتراض قوانين ولوائح تحكم هذا العالم، أو في تحديده لمناطق التوزيع ولأنواع الوكلاء المعلمين والصبيان، وكأنها حياة كاملة محجوبة، أو سواء في رصد التغيير الذي حدث بدخول البودرة الى السوق في بداية الثمانينيات، ووجود وكيل للتوزيع قتله يحيى عن جهل، ولامه المعلم هدهد على ذلك، لأنها أيضا تجارة عالمية كونية.
ولكن هناك مستوى الرحلة الإنسانية الوجودية بكل مغزاها الفلسفي والديني أيضا: فيها معنى النزول والطرد والفصل، وفيها معنى التكليف والمهمة وحمل الرسالة والأمانة، وفيها اكتشاف للشر في خارج الإنسان وداخله، وفيها شريك منافس ومزعج في المهمة يمثله الضابط عمر الأسيوطي، شريك حقود وغامض يدير الشر بمكر ودهاء، وهناك حيرة وقلق وجودي في مستواهما الأرفع، وهناك كذلك اختيار وقدرة على الفعل، مع شعور بالوحدة والحرية والمصير الغامض والمفتوح على كل الاحتمالات.
وبين المستويين تتناثر العلامات البصرية أو الأسماء التي تلفت نظر وسمع المتفرج، وتقول له إن الحكاية ليست عادية، وإن فيها معنى يتجاوز ظاهر الحكاية، أشهر علامة بصرية مثلا هي التفاحة، التي نراها أربع مرات في الفيلم، مرة في مشهد التكليف، وثلاث مرات نراها في لقاءات يحيى مع تجار المخدرات، في المرة الأولى يبدو الإغواء مرتبطا بالمعرفة، وبالرغبة في المغامرة، وفي اكتشاف أسرار عالم محجوب وغير معروف، وفي المرات الثلاث تتحول التفاحة الي عنوانا على الاثم، وعلى الاستغراق في العالم الجديد.
فيما يتعلق بالأسماء، لاحظ الكثيرون وكتبوا عن تلك الأسماء المقدسة للشخصيات: يحيى سيبعث رسائله باسم حركي هو “آدم”، ورجل البريد الذي يقول إنه مجرد رسول لا يعرف شيئا ولكنه متعاطف اسمه “موسى”، والمعلم “هدهد” الحكيم بحكمته أعاد البعض الى النبي سليمان، صاحب الهدهد والحكمة النبي سليمان.
الأسماء عموما هامة عند داوود، يحيى المنقبادي وعمر الأسيوطي يربط بينهما المصير في الدفعة، وربما في القدوم من نفس المحافظة أيضا، وكأنهما مترابطان ومتواجهان حتى النهاية، وبعض الشخصيات تتحدث عن نفسها صراحة مثل موسى الذي يكرر أنه رسول، ومثل عمر الذي يصفه يحيى في غضب بأنه مثل الشيطان، حتى شخصية مثل ابن يحيى الصغير حمل اسما يحيل البعض الى شخصية دينية هي يونس، هذا الطفل هو مستقبل جديد ولد في قلب أرض الخوف، من أب شرطي ومجرمفي نفس الوقت، ومن أنثى عاشقة وطفلة بريئة في نفس الوقت، وسيكون على يونس عندما يكبر، إذا كبر، أن يدافع عن نفسه مثل أبيه.
إشارات وعلامات
رغم هذه العلامات البصرية والإسمية، إلا أنني لست ممن يرون أنها رموز كاملة وآلية، هي فقط إشارات وعلامات لا تفترض دلالة واقع الشخصية على رمز صريح، مثلما فعل البعض في تفكيك رواية “أولاد حارتنا ” مثلا، إنه أصلا منهج غير صحيح، لأن العمل الفني والأدبي، حتى بدلالاته الرمزية المقصودة، يخلق معادلا كاملا موازيا، وهو ليس معادلات رياضية، بحيث نضع الاسم بدلا من الطرف المجهول، ولكنه إنشاء مواز للفكرة، يراوغ لكي يخفيها، ويسير أحيانا خلف الشخصية المصنوعة من لحم ودم، ثم يضع علامات تنبه وتؤشر، ولكنه يحكم بالأساس صنعة الدراما، فيخرج المعنى من قلبها، بلا تعسف أو إلحاح.
الأسماء هنا تذكرنا فحسب بأهمية وقداسة المهمة، رغم أن كل ما حولها يشير الى عكس هذه القداسة، ولو تغيرت الأسماء الى غيرها، لما ضاع المستوى الأهم والأعلى للمهمة، بسبب استخدام داوود الواعي لعناصر فنية أخرى في نفس الاتجاه، تؤشر الى نفس المعنى، دون أن تأخذنا الى تفسير ضيق بعينه، تحيلنا إليه الأسماء بدلالاتها المحدودة.
فما زلت أعتقد أن موسيقى راجح داوود أهم من هذه الأسماء في الإشارة الى المستوى الإنساني والفلسفي والوجودي للنص البديع. الموسيقى تأخذنا الى آفاق علوية ونحن في قلب العالم السفلي، تلك الأصوات البشرية ذات الأصداء، تذكرنا دوما بأن الحكاية أعمق مما نعتقد، ليست هنا فيما نراه، ولكنها هناك فيما وراء الصورة والحكاية، وهي على وفي داخل أنفسنا على حد سواء، حياتنا مبهمة ومستمرة مثل تلك الأصوات، مصيرنا غامض مثلها، لعلها أيضا أصوات استغاثة أو نشوة، أو لعلها تمثل الصوتين ممتزجين معا، مثلما امتزجت حيرة يحيى بلذته، أو مثلما امتزج ضميره بآثامه.
أهم من تلك الأسماء الموحية اختيار داوود والمشرف الفني الفذ أنسي أبو سيف لمشاهد بعينها تم تصويرها في ديكورات وأماكن غير عادية، لتمنح الشخصيات أبعادا أسطورية مثل إقامة المعلم هدهد في بيت أثري قديم، ومثل حجرة هناء التي تبدو بأنوارها وبالسرير والناموسية، مثل جنة صغيرة مؤقتة، عالم آخر يمنح المحارب استراحة بسيطة، رغم أنه في قلب المعركة، ولا ننسى الصحراء القفر التي اختيرت للقاء يحيى وعمر الأسيوطي الأخير، فأعادتنا من جديد الى مستوى اللعبة المجرد.
أهم من الأسماء إضاءة سمير بهزان لعالم كباريه “حياة الليل”، ولمشهد العروس الصغيرة هناء، وإضاءة الأزمة على وجه يحيى، بحيث يقتسم النور والظل معالم وجهه، ثم هذه الهالة من النور التي تحيط بوجه وجسد موسى بعد موتة، مع إظلام ما حول السرير، هذا الرجل أراد أن يفعل شيئا فأهانه الجميع، بمن فيهم يحيى، وقد تعاطف موسى، ولم يندم أبدا على أن يدفع ثمن هذا التعاطف.
التشخيص الرفيع
أهم من الأسماء هذا الأداء التشخيصي الرفيع، الذي يمنح مشاهد كثيرة طابع الطقوس السرية، بالذات في عالم تجار المخدرات، أو في لحظة التكليف.
صعوبة هذا الدور بالنسبة لأحمد زكي تتمثل ليس فقط في وجوه يحيى المتغيرة، والمتأرجحة بين الإثم والبراءة، ولكن أيضا في أنه يؤدي طوال الوقت مشاهد رد الفعل وليس الفعل، ويعبر طوال الوقت بوجهه فقط عن مشاعر شديدة التباين، هناك مشهد لا ينطق فيه بكلمة مع فرح عندما توافق على الزواج منه، هو أيضا يجب أن يبدو حائرا فعلا، لا أن يمثل أنه حائر، وعليه أن يبدو آثما فعلا، لا أن يمثل الاثم، عليه أيضا أن يجعلنا نخاف منه، بسبب قسوته ومعاملته الفظة أحيانا ل فرح، ولكن لابد نتعاطف مع حيرته وأحزانه في نفس الوقت، هذا العاشق القاتل الذي أحب مهمته الاثمة، من أكثر الشخصيات الدرامية السينمائية المصرية تعقيدا، وقد لعبها أحمد زكي باقتدار جدير بها، وبموهبته العظمية، ولا ننسى ايضا صوته كسارد معلق، هاديء ومستسلم، ولعله أيضا قانع وخائف ومتوجس من كل شيء.
كل الممثلين كانوا في أدوارهم، وخصوصا نجما المسرح الكبيران حمدي غيث في دور المعلم هدهد، وهو أيضا شخصية هامة وصعبة، مزيج غريب من الواقعية والحكمة والاطمئنان القدري، من الرحمة والشراسة، والدور من أفضل أدواره السينمائية، وهناك بالطبع القدير عبد الرحمن أبو زهرة في دور موسى، مشاهد قليلة قوية ومؤثرة، والشخصية أيضا مركبة، يبدو موسى مثل أب حنون، بسيط وحسن النية، وهو أيضا موظف معتبر يعرف القواعد والخطوات الروتينية، لعله أيضا حائر ولا يفهم، مثل يحيى نفسه، وهناك عزت أبو عيف في مشاهد قليلة مدهشة، بتلوين في النظرات وتعبيرات الوجه، وبنظرات غامضة للغاية، دور من أفضل ما قدم في السينما، على كثرة أعماله.
الشخصيات النسائية كانت كذلك لامعة الأداء والحضور: صفوة التي أثبتت أنها ممثلة جيدة، وليست راقصة فقط، وزينة التي كانت ممتازة في أول أدوارها السينمائية، وفرح أو فيدرا التي قدمت ظهورا استثنائيا لممثلة في دورها الأول، الشخصية هامة للغاية، ولو فشلت في أدائها، لانهار جزء هام من عالم الفيلم، ولا أعرف لماذا لم تكمل فرح مشوارها التمثيلى بمثل هذه القوة التي بدأت بها؟
“أرض الخوف” فيه إجابة واحدة هي الحب، مقابل أسئلة كثيرة معلّقة ومقلقة عن المصير الغامض، وتناقضات الإنسان، ومهمته المقدسة التي صارت مدنسة، عن الخارج والداخل، عن الشر والاختيار والإرادة، وعن كائن يستحق التعاطف والرثاء في كل الأحوال، لأنه في متاهة وجودية صعبة، تكفيه المحاولة، وتكفيه المهام الفاشلة، والخطابات التي لا تصل أبدا.
يبدأ الفيلم بالعام 1968، مجتمع يتظاهر شبابه رغم الهزيمة، ثم ينتقل بنا الى عامي 1981 و1982، حيث المجتمع الذي تصله البودرة، وتنتظره الغيبوبة القادمة، وبين ضربة عصا البلياردو، التي تحرك كل الكرات بضربة واحدة، ووقفة يحيى المحاصر الذي ينتظر الموت في أي لحظة، والذي يريد أن يعود الى أرض الخوف، ولكنه غير قادر على العودة اليها، ولا الى أرض الأمان.
بين المشهدين، يبدو لي أن خطا يحيى التراجيدي في أنه لم يقدّر صعوبة المهمة، ولم يعرف نفسه، فلما عرفها أفزعته بتناقضاتها، ولكنه لا يبدو نادما على ضرب كرة البلياردو، التي حركت كل الكرات، والتي فتحت عليه كل أبواب الجحيم.
أما المشكلة الأكبر، فهي أن أسئلة يحيى تنتقل في النهاية الي الصالة، فتؤرق الباحثين عما وراء الحكاية، وتجعلهم يتمنون ألا يكونوا قد عرفوا أبعد من الحكاية، ليتهم كانوا مثل الذين خرجوا من الفيلم وهم يحكون عن فيلم أكشن يدور في عالم المخدرات، ثم يعودون ليناموا في وداعة من فرغوا لتوهم من يوم الحساب، وفي اليوم التالي يستيقظون ليلهون في براءة وسعادة مثل يونس الصغير، ذلك البريء الجديد، الذي لا يعرف ما ينتظره في أرض الخوف.