“أحلى الأوقات”.. أن تعيش الموجود لا المفروض

تأتى أزمات الشباب النفسية خاصة فى أواخر العشرينات وأوائل ومنتصف الثلاثينات من العمر بسبب انتهاء مرحلة البحث عن الذات وتحقيقها دون ان يحدث هذا ، فمن لا يستطيع ان يجد نفسه او يحققها فى الحياة يدخل فى هذه الأزمة ويسأل عن معنى حياته او جدوتها وهل هو سيظل يبحث عن السعادة طوال حياته ؟ او بالأكثر كيف تُعاش هذه الحياة أصلاً ليبدأ الحنين الى مرحلة الطفولة التى تعتبر بالنسبة له أحلى الأوقات حيث اللامسئولية والمرح واللعب وإحتضان الأب والأم له.

يزيد هذا الشعور حينما يفقد أحد او كلا الأبوين أو ينتقل للعيش فى حى آخر او مدينة او دولة اخرى لتزيد المعاناة واحساس الفقد بأن أحلى الاوقات قد فُقدت الى الأبد دون القدرة على العودة إليها او على الاقل تعويضها فى الحاضر .
حول هذه الازمة وهذه الاسئلة تدور احداث فيلم “أحلى الأوقات” الذي كتبت له القصة واخرجته فى أولى تجاربها السينمائية المخرجة “هالة خليل” ، وسيناريو وحوار “وسام سليمان” .


الفيلم يدور حول شخصية “سلمى” التى فقدت والدتها فى حادث بالصدفة التى تجئ على أهون الاسباب، والتى تعانى من تغيير حياتها بإنتقال والدتها بعد انفصالها عن والدها وزواجها من رجل اخر الى حى مختلف وحياة بعيدة تماماً عن الحياة التى نشأت فيها، وبُعدها عن اصدقاء طفولتها السعيدة او عن أحلى أوقات قضتها وهى صغيرة، يوميات حياة هذه الشخصية وأزمتها وبحثها عن السعادة فى الماضى وفى حياة لم تعد موجودة هى الاساس فى معالجة الفيلم، والذى يزيد من حدة هذه الأزمة هو فقدان والدتها التى تعتبر العامل المشترك الوحيد ما بين الحياتين والتى كانت ايضاً توفر بيئة صالحة للعيش لإبنتها وتقف حاجزا بينها وبين شعورها بالإختلاف والغربة فى حياتها الجديدة .

وجدت “سلمى” نفسها فجأة بمفردها فى بيئة لا تشعر بالإنتماء لها فتضطر الى الاستسلام للحنين بداخلها الى حياتها الاولى وتبدأ فى رحلة بحث عن اصدقائها القُدامى (أصدقاء الطفولة) فى الحى الذى ولدت به (حى شبرا).

ويأتى اختيار المؤلفة والمخرجة لهذا الحى تحديدا بما يتميز به من حميمية ودفئ لا يوجدا فى حى اخر من احياء القاهرة فكأن هذا السبب يضاعف من معاناة البطلة لفقد كل هذا معاً.

وعندما تعثر “سلمى” على صديقاتها ( “ضحى” و”يسرية” ) كأنها كالغريق الذى وجد طوق النجاة او الجسر الذى يربطها مجدداً بحياتها الجميلة او أحلى أوقاتها، وتبدأ فى إستعادة توازنها النفسى وتبدأ ايضاً فى رؤية ما لم تكن تراه فى حياتها اليومية وهو (الحب) الذى كان بجوارها طوال الوقت متمثلاً فى جارها مُصمم العرائس الذى كان مُعجب بها حتى منذ فترة، بل أكثر من ذلك كان على تواصل وود بوالدتها ويأخذ منها بعض إكسسوراتها لتساعده فى تصميم عرائسه.
وهنا لابد من الإشارة الى المؤلفة التى قصدت بهذه التفصيلة فى القصة تحديداً بأن السعادة والحب دائماً ما يكونا بالقرب منا وأمام أعيننا ولكن حُزننا وتفكيرنا فى الماضى يقف حاجزاً بيننا وبينهما ، فلا نرى السعادة المتاحة الموجودة فى اللحظة الحالية لتفكيرنا وإعتقدنا بأنها كانت فى الماضى ولن تعود.

ومع عثور البطلة على صديقاتها وبحثهما سوياً على الشخص الذى يرسل الخطابات لها تحدث العديد من اللقاءات والخروجات والمواقف الطريفة والكوميدية ايضاً التى تُعيد أحلى الأوقات بل تصنع أحلى الأوقات الجديدة الأن وفى اللحظة الحاضرة وليس فى الماضى الذى ذهب ولن يعود.
وعندما تجد “سلمى” صديقاتها تجدهم لديهم العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والزوجية اكثر من مشاكلها هى شخصياً أو مُشكلتها الوحيدة ولكن بالرغم من كل هذا تجدهم  سُعداء ومُتعايشين تماماً مع حياتهم ومشاكلهم ، والابتسامة بل الضحك لا يفارق وجوههم على عكس “سلمى” التى لم ترجع لها ضحكتها إلا بعد عثورها عليهم
القصة مليئة بالتفاصيل التى تؤكد رؤية المؤلفة والمخرجة “هالة خليل” لموضوعها السينمائى الأول وتؤكد على رسالة الفيلم كله، فأثناء رحلة بحث الصديقات الثلاثة نتعرف على شخصية المدرس “عبد السلام” الذى يعيش نفس أزمة البطلة ولكن فى مرحلة متقدمة من العمر اكثر منها فهو لم يفهم رسالة الحياة ولم يفهم الرسالة التى فهمتها بطلتنا “سلمى”، فهو مازال متعلقا بالماضى وأحلى الاوقات التى عاشها وهو شاب فى مُقتبل العمر حينما كان مدرس بدأ مشواره المهنى.

 وكانت مدرسة الصديقات الثلاث هى أول مدرسة بنات يقوم بالتدريس بها لتقع عيناه على البطلة وهى فى مرحلة المراهقة تلميذة فى أول فصل يدخله ليقع فى غرامها من أول نظرة، وبعد إنتقالها من المدرسة يحاول الاتصال بها ولكنه يفشل فيعيش عمره كله على ذكرى أحلى الأوقات فى الماضى حينما رأها ولا يستطيع أن يفارق هذه اللحظة او يتخطاها وربط سعادته بها حتى إنه عندما يرى البطلة بعد كل هذه السنوات وقد أصبحت أنثى ناضجة وجميلة على حد تعبيره يصطدم بأنها ليس الصورة التى أحبها وتعلق بها وعاش معها كل تلك السنوات فى خياله حتى مضى شبابه يبحث عن السعادة المفقودة .


وهنا يصرح حوار الفيلم برسالة ومضمون الفيلم كله على لسان شخصية “عبد السلام” للبطلة: (بأن لا تفعل مثله وتتعلق بأشياء فى الماضى لم تعد موجودة) .
تؤكد قصة الفيلم على هذا المعنى أكثر من مرة بأشكال متعددة ويدعمها فى هذا السيناريو والحوار، فنجد نفس المعنى بشكل اخر حينما تعثر البطلة على والدها الذى كانت تعتبر مجرد رؤياه سيحقق لها السعادة الكاملة والمفتقدة من الماضى، ولكنها تصطدم بالصورة الذهنية التى رسمتها له عندما لا تجدها فى لقاؤه، فهو لم يبحث عنها كثيراً فى الماضى بمجرد انه إطمأن أنها تعيش فى مستوى اجتماعى جيد مع والدتها وزوجها ، وذهب هو الاخر ليبحث عن سعادته فى زيجاته المتتالية وإنجابه لأبناء تفرقوا مع أمهاتهم بعد انفصاله عنهم حتى أصبحوا لا يعرفوا بعضهم البعض.


ومثال اخر للبطلة عن نفس المعنى حينما تعمقت علاقتها بجارها مصمم العرائس الذى يحبها وتعرف انه تَخرج من كلية الهندسة ليُصبح مصمم عرائس وليس مهندساً ويقول لها إن أهم من القرار الذى يأخذه الشخص ، هو أن يجد السعادة فى قراره هذا. 
ومثال أخير لنفس معنى الفيلم تجده “سلمى” حينما تعرف أن من يُرسل لها الخطابات هو زوج أمها لأنه يحبها ويعتبرها كأبنته ويعوض بحبه لها عن حبه لإبنه الطفل الصغير الذى توفى ، ويحاول أن يعلمها درساً هو أهم دروس الحياة كلها “وهو أن لا توقف حياتها لوفاة والدتها وفقدها لسنوات طفولتها وبيئتها التى تغيرت وأن تبحث عن أمل جديد وتحقق سعادة جديدة ومختلفة فى الحاضر” كما فعل هو حينما توفى طفله وعاش فترة تخبط الى أن وجد الحب والسعادة الجديدة مع والدتها ومعها فى حياتهما التى كانت مليئة بأحلى الأوقات.
نجحت المخرجة “هالة خليل” فى أولى تجاربها الإخراجية وساعدها فى ذلك أنها صاحبة قصة الفيلم مع وجود سيناريست من نفس جيلها وهى “وسام سليمان” التي تفهمت القصة المكتوبة لتُبدع سيناريو وحوار مُتناغم مع القصة ويدعمها.
يحسب للمخرجة تصويرها مشاهد كثيرة خارجية فى شوارع شبرا خصوصاً وحى المعادى، مما أضفى مصداقية وواقعية شديدة للاحداث حتى تشعر وأنت تشاهد الفيلم بأنها قصة أشخاص تعرفهم جيداً فى حياتك إن لم تكن هذه هى حياتك أصلاً.
تأثرت المخرجة والسيناريست ايضاً بمدرسة المخرج الكبير “محمد خان” فى نقل مشاهد الفيلم الى الشارع المصرى مما يُضفى جمالا وواقعية على الأفلام. 


يخطئ من يعتقد بأن فيلم أحلى الأوقات هو فيلم نسائى، بالرغم من ان مجموعة الفنانين والفنيين أغلبهم من النساء، إلا أنه يعتبر فيلما اجتماعىا نفسىا يناقش قضية اجتماعية عامة لا تخص الفتيات فقط ،
ولكن يعطى الثقة الكاملة من جهة المنتجين  لجيل من السينمائيات يستطيعوا تقديم اقوى الافلام التى لا تقل عن مثيلاتها ممن صنعها السينمائيين الرجال.
فيلم “أحلى الأوقات” رسالة سينمائية شديدة الرُقى والخصوصية لنا نحن أن نعيش الحياة ونخلق سعادتنا فى اللحظة الحاضرة، وأن نرى السعادة التى بجانبنا والتى لا نستطيع أن نراها طالما كنا مُستمرين ننظر الى الوراء، نستعيد الماضى والحنين الي الذِكرى الجميلة دون أن نَسجن أنفُسنا فيها ، وأن نُحقق ونعيش الأن هِنا و دلوقتى أحلى الأوقات.



Visited 59 times, 1 visit(s) today