R.M.N. أو “تصوير بالرنين المغناطيسي”
فيبي صبري
صباح أزرق بارد، منازل قروية فقيرة، صوت نباح الكلاب الذي لا ينقطع في مشاهد القرية كافة، وطفل يسير وحيدًا في غابة حاملًا حقيبته المدرسية، يرى الطفل شيئًا يرعبه خارج الكادر فيعود أدراجه مهرولًا، ويبدأ الفيلم.
يُستخدم الأطفال والكلاب في أفلام الرعب عادةً لتحذيرنا من الخطر الذي لا ندركه بحواسنا المحدودة، باعتبارهم وسائط أكثر حساسيةً. وفي فيلمه الجديد الذي يحمل عنوانا غريبا هو R.M.N يلجأ كريستيان مونجيو ـ المخرج والكاتب الروماني ـ إلى الخرس الهستيري الذي أصاب الطفل رودي، وصوت الكلاب الذي يطاردنا رأيناها أو لم نرها، كأعراض للمرض الراسخ الذي يريد فحصه عن طريق “الرنين المغناطيسي” R.M.N.
نتعرف إلى والد الطفل، ماتياس الجزار، الذي يسافر من قريته في ترانسلفانيا إلى ألمانيا للعمل في مصنع للحوم، شأنه شأن غالبية سكان القرية الذين يهربون منها للعمل بمقابل مجزٍ في أوروبا الغربية. ماتياس كائن غريزي؛ يملك بنية قوية، ذو وجه متجهم بشارب غير مشذب وعينين زجاجيتين لا تظهران مشاعر صاحبهما أو أفكاره، وهو لا يطمح سوى للبقاء على قيد الحياة في أدنى مستوياته. في المشاهد الأولى من الفيلم نراه وهو يعتدي بالضرب دون تفكير، على زميله الألماني في العمل بالمصنع في ألمانيا، لمجرد أن وصفه الأخير بأنه أحد “الغجر القذرين الكسالى”.
ذلك العنف التلقائي ليس مرتكزًا على غلظة ماتياس وحدها، بل هو نتاج تاريخ من العلاقات المعقدة والكراهية المتبادلة بين أعراقٍ أُجبرت على العيش معًا لكنها فشلت في الاندماج عبر العصور.
سيهرب ماتياس ويعود إلى قريته، وهي قرية حدودية ينظر فيها الروماني إلى الهنجاري نظرة الدخيل المتطفل، ويحتقر كلاهما الغجر الذين “نجحوا في طردهم” وصار اسمهم مسبة تستوجب الغضب، ويفتخر المحظوظ منهم بالانتماء ولو من ناحية واحدة إلى الألمان، مع أنهم يحملون ضغينة مبطنة تجاه دول أوروبا الغربية التي تخلت عنهم لروسيا الشيوعية، وتمتعت وحدها بالتقدم والرفاه الاقتصادي.
يعود ماتياس إلى قريته في إجازة عيد الميلاد، إلى زوجته غير المرحبة وفراشه على الأريكة، وابنه الذي يرفض الكلام وإطلاعهم على ما رآه في الغابة، وأبيه الذي يعاني مرضًا في الدماغ يجعله بحاجة لتصوير المخ بالرنين المغناطيسي. من حديث آنا زوجته نعرف أنه صاحب تاريخ في العنف. “يمكنك العودة إلى حبيبتك” جملة تشي بعلاقة قريبة لم تُغتفر وزواج لا يحتفظ من شروطه سوى بمظهره أمام الناس. لكن ماتياس يصر على وجود فاعل في حياة ابنه، يتمسك به كمنجز وحيد في حياة خالية مما يدعو إلى الفخر، ويحمل له عاطفة صادقة تظهر في محاولاته لتأسيس صلة وطيدة، رجولية الطابع، به.
الشخصية نقيضة ماتياس هي “تشيلا”، مديرة المخبز الآلي في القرية، أو الوجه المتحضر لإنسان الحداثة؛ فهي نباتية، ودود، تتدرب على آلة التشيللو بمنزلها الأنيق، وتعزف مع فريق البلدة في اهتمامٍ منها بالنشاط المجتمعي.
الموسيقى الوحيدة في الفيلم هي تلك التي تعزفها تشيلا أو تستمع إليها أو ترقص عليها. وعندما تستقدم ثلاثة عمال من سريلانكا للعمل بالمخبز تحترم ثقافتهم بحب يخلو من التنازل، وتتعلم كلمات بلغتهم لتقترب منهم ومن عائلاتهم. تبدو العلاقة العاطفية بينها وبين ماتياس غير مفهومة، ويزداد غموضها حين تسأله إن كان يحبها فيجيبها بصراحة إنه يحب ممارسة الجنس معها. التنافر بين شخصيتيهما ورؤيتهما للعالم ومحاولتها تشذيب حوافه يذكرنا بالعلاقة بين إنكيدو ـ الرجل المتوحش الذي ربته الحيوانات ـ وشامات التي أُرسلت إليه لترده إلى إنسانيته في ملحمة جلجامش.
يصطحب ماتياس ابنه رودي في الغابات عله يعرف ما أثار فزعه وجعله يتوقف عن الكلام، يعرفه بأسلافه الذين أتوا إلى رومانيا من لوكسمبورج قبل سبعمائة عام ويؤهله للحياة في البراري القاسية.
“من أجل البقاء أنت في حاجة إلى تعلم القتال.. عليك ألا تتحلى بالشفقة. فهل تحلى غزاة المنطقة بالشفقة؟ هذه هي الحياة. إذا تحليت بالشفقة ستموت أولًا، وأريدك أن تكون آخر من يموت”.
هذا المبدأ الواضح هو مفتاح ذلك المجتمع الذي يحتفظ في أعماقه بأخلاق القبيلة البدائية؛ حيث الشفقة والتعاون يطبقان على أفراد قبيلتي أولًا، ثم على من يشبهوننا، ولسنا ملزمين بهما مطلقًا مع الغرباء، مصدر الخطر حتى يثبت العكس. وفي أزمنة القحط وقلة الموارد يتحول الغرباء إلى سببٍ لكل بلاء ونموذج لكل نقيصة. لذلك تنتفض البلدة الخالية من فرص العمل حين يأتي ثلاثة عمال من سريلانكا لشغل الوظائف التي رفضوها بالفعل في المخبز الآلي.
تتحد الإثنيات المتنافرة لاستهداف الوافدين لكل الأسباب المنحطة وغير المنطقية، ويظهر جبن الأفراد وخواء المؤسسات في آنٍ واحد. الكاهن مثلًا يعترض حين يطرد الأهالي العمال من الكنيسة بجملة “لكنهم أبناء الله أيضًا!”، فيجيبونه: “قد يكونون أبناءً لله، لكن في ديارهم”. تتلاشى مقاومة الكاهن حين يجد التيار العام مناوئًا ويتحول بسهولة لتبني وجهة نظرهم العنصرية، يخاطب صاحبة المخبز طالبًا منها طردهم لأن “أهل القرية لا يريدون الخبز الذي يصنعونه”. ويجد ذلك الخطاب من يخترع له مبررا “علميا”، مثل الطبيب الذي يتحدث عن “الفيروسات المختلفة” التي تأتي من تلك البلاد البعيدة.
قوة الجموع تلك تقود ماتياس معها، رغم محاولته ـ علـي استحياء وخفيةً ـ مؤازرة حبيبته تشيلا في معركتها للاحتفاظ بالعمال، لكنها لا تفوق في نظره أهمية الانسجام مع الجمع- القطيع، فيتخلى عنها ساعة التصويت وينتهي بالتالي ما بينهما.
يُنظم اجتماع للأهالي بقيادة رئيس البلدية والكاهن، وفي غرفة الاجتماعات نسمع صوتهما طوال الوقت دون أن نراهما، نرى الجمهور متحدثًا بكل ما سبق قوله من حجج ضد بقاء الأجانب في البلدة، بكاميرا ثابتة كل مدة الاجتماع، تعكس وجهة النظر الراسخة وتشعرك بقيدٍ منفر ترغب في التحرر منه. لدى كل واحد منهم ما يهدده وينغص سلامه ويحتاج للانتصار عليه ولو بالمنابذة اللفظية؛ عنصرية الغرب ضد أوروبا الشرقية، الخوف من الإرهاب والغزو الثقافي، الغبن الاقتصادي الذي يسببه الاتحاد الأوروبي للدول الشيوعية السابقة ويجعل مصيرها ضبابيًا، والاحتقان العنصري الذي تعاني منه المجتمعات فقيرة التعليم، متعددة الأصول العرقية.
يصرح رودي لأمه أخيرًا بما رأى في الغابة؛ إذ يرسم لها رجلًا مشنوقًا. هل رآه حقًا؟ أين ذهبت الجثة إذن؟ فيما بعد، عند نهاية اجتماع البلدة وعقب التصويت الذي ينهي وجود العمال في القرية، يُستدعى ماتياس بشكلٍ طارئ لأن والده المريض قد شنق نفسه في الغابة! هناك يتكلم رودي للمرة الأولى ليخبر أباه أنه يحبه، ربما ليواسيه وربما ليعتذر عن رؤيته التنبؤية.
الدببة هي رمز القرية، وزي الدببة يُتخذ تميمةً في المباريات والمناسبات الاحتفالية، لكنه يستخدم أيضًا للتخفي عند ارتكاب الجرائم ـ جنبًا إلى جنب مع غطاء رأس الكوكلوكس كلان ـ كإلقاء النيران على منزل العمال ليلًا. حين يذهب ماتياس إلى منزل تشيلا بعد انفصالهما حاملًا سلاحه، تظنه يريد إطلاق النار عليها انتقامًا، بينما كان يبعد أحد المتخفين في زي الدب المتماهي مع الظلام، ليتضح أن البيت، والقرية كلها في الحقيقة، محاطان بأعدادٍ من تلك المسوخ. يعطيها ماتياس ظهره يائسًا وينظر إلى البيوت المضيئة بعيدًا كأنه يتساءل: هل هناك من مهرب؟