3 أفلام في حب الباشا: زكي رستم

في فيلم "الفتوة" في فيلم "الفتوة"

** حب ودموع **
الريس متولي شرير ثري مسكون بالشهوة العارمة التي تحدد مساره وإيقاع حركته ومواقفه الحادة، فلا شيء يفكر فيه وينشغل به إلا الزواج من فاطمة، فاتن حمامة، وهي فتاة جميلة في سن ابنته. أداته في الوصول إليها هي الضغط على أبيها السكير المفلس الريس محمود، مختار عثمان، المدين له بألف جنيه، المبلغ الباهظ الذي يعتبره متولي مهرا للعروس التي تخاطبه بالعم، والنداء مبرر بالفارق الكبير في العمر.

يبدع زكي رستم في تجسيد شخصية العاشق الحسي الفج الذي يشتهي ولا يخفي اللهفة البعيدة عن المشاعر الإنسانية، وفي صوته عند مخاطبة الأب الضعيف المتخاذل الخانع ما يعبر عن الرغبة الطاغية التي لا يملك أن يداريها، وتفضحها النبرة الموغلة في الشهوة الحسية: “فاطمة كبرت يا ريس.. مش آن الأوان بقى وتقول لها”.

لا يراها صغيرة كما يزعم الأب لتأجيل مصارحة ابنته بالاتفاق الذي تجهله، فهي وفق التعبير الفج لمتولي :”طابت واستوت”.

الحديث عن الحب بالمعنى الإنساني الصحي الصحيح، الذي يتجاوز الشهوة الجسدية ولا يقتصر عليها، ليس مطروحا، ذلك أن الأمر عند الريس متولي حسي خالص، لا يختلف في شيء عن طعام شهي يتطلع إلى التهامه :”البطيخة مستوية قوي يا ريس.. خشاف.. خشاف والنبي”.

لا تعرف فاطمة شيئا عن الخطوبة السرية المريبة التي يتورط فيها الأب للوفاء بدينه الثقيل، ومن هنا تنظر إلى متولي كبير السن كأنه العم صديق الأب، وتتحطم محاولاته للتقرب منها وإظهار عواطفه على صخرة رؤيتها هذه:

“- أنا اشتريت مركب جديدة.. حزري سميتها إيه؟
– لازم أم حسني..
– حسني إيه وبتاع إيه..
– على اسم مراتك
– سميتها فاطمة”.

غاية ما يقوى عليه لإظهار رقته أن يطلق اسم فاطمة على المركب، وليس مستغربا أن يتخلى متولي بسهولة عن زوجته وأسرته، فالبطولة عنده للشهوة التي تحركه وتقوده.

حب ودموع

يجمع زكي رستم في أدائه المتميز بين القسوة المفرطة الأصيلة والرقة المؤقتة المصنوعة، ولكل وجه من هذين موضعه. الحديث عن فاطمة، في غيابها وحضورها على حد سواء، يقترن بنوع من الحب الأقرب إلى لذة الامتلاك والاقتناء، لكن نغمة العنف والتهديد والابتزاز هي الغالبة والأعظم حضورا. لا يقبل المراوغة والمماطلة والتسويف، ويلجأ إلى الضغط والتلويح بالنتائج الوخيمة التي تترتب على عرقلة مسعاه لإتمام الزيجة :”أنا دافع مهرها مقدم.. ألف جنيه.. ألف.. إن ما جوزتهاليش.. انت عارف وأنا عارف”.

الزواج صفقة لا اعتبار فيها لموافقة العروس، والتفوق المادي يتيح التحكم وفرض الشروط والتهديد غليظ اللغة الذي يواجه به فاطمة وأباها معا :”خطيبتي.. دافع مهرها ألف جنيه.. والورقة عندي.. وانت ماضيها بإيدك.. ولا نسيت”.

صوت زكي رستم بالغ القوة في التعبير الدال عن شخصية متولي، المسلح بغطرسة الثروة وطوفان الشهوة العاتية. في مواجهة الأب الضئيل الأعرج والفتاة الوديعة الهشة، يتعملق الممثل الكبير كأنه قادر على التهامهما والإطاحة بهما. غيرته عندما يراها بصحبة الضابط البحري أحمد عزت، أحمد رمزي، لا تنبع من حب بطبيعة الحال، لكنها صدمة من يخشى انتزاع ملكيته مدفوعة الثمن. تعود فاطمة لتزف إلى أبيها خبر نية الحبيب أن يتقدم لخطبتها، وعندما ترى متولي تخاطبه في عفوية :”عم متولي.. عقبال بنتك يا عم متولي”.

يتفاعل وجه زكي رستم مع كلماتها بما يغني عن التعليق، ويقول بصمته الغاضب المتوتر كل ما يمكن أن تبوح به مفردات اللغة، ثم يستعيد قوته وقسوته مؤكدا أنه سيتزوجها قهرا دون نظر إلى ارتباطها العاطفي الذي لا يعني له شيئا :”أنا قاري فاتحتك من سنة.. مبروك.. بكره أجيبلك الشبكة”.

لأنه يعي أبعاد الشخصية وطبيعة موازين القوى التي تحكم علاقته مع الأب وابنته، يتحرك زكي رستم من موقع القوي الآمر الناهي صاحب النفوذ والكلمة العليا التي لا تُرد، وليس أسهل عنده من التحول السريع المباغت عند اكتشاف محاولة خداعه. يناديه الأب الواقف على عتبات التمرد باسمه مجردا: “متولي”، وعندئذ ينتفض في عنف يزيح الرقة الكاذبة التي يلبس قناعها :”متولي كده حاف.. من غير ريس.. والله عال.. صوتك على عليا يا نصاب يا حرامي يا نوري.. أنا ها أعرف إزاي أأدبك وأأدبها.. كتب الكتاب الليلة.. إن ما اتجوزتهاش يكون في معلومك إني ها أبلغ النيابة”.

الشر أصيل غالب عند متولي، وفي دراسته للشخصية ذات البعد الواحد يدرك زكي رستم أنه مطالب بالقسوة الدائمة وافتعال الرقة والحنان بشكل استثنائي مصنوع. هكذا يتحرك في المواقف جميعا، والذروة مع هروب فاطمة قبل لحظات من عقد القران، ما يمثل ضربة موجعة لكبرياء متولي ومكانته. يتمثل الرد التلقائي السريع في صفعة فوق خد الأب للتنفيس عن الغل، والمعركة التي تدور بين الرجلين تخلو من التكافؤ والندية، وينبغي أن تُحسم للأقوى بطبيعة الحال، لكنها تنتهي بقتل متولي، عبر زجاجة الخمر التي تتحول من علامة إدمان وضعف إلى أداة تحرر وخلاص.

** رصيف نمرة 5 **
المخدرات بأنواعها المختلفة، الحشيش والكوكايين والهيروين، على صعيدي الإدمان والتجارة، تمثل جزءا من نسيج الحياة المصرية، وفي هذا الإطار يتواجد تجار المخدرات الذين يلبون احتياجا حقيقيا لقطاع لا يُستهان به من المصريين، ويحققون بنشاطهم التجاري هذا أرباحا طائلة تتوافق مع حجم المخاطر التي يتعرضون لها من ناحية وحقيقة الطلب الكبير على السلعة التي يمتهنون بيعها من ناحية أخرى.

كبار التجار لا يسقطون بسهولة في قبضة الشرطة، ذلك أنهم يتسلحون بالذكاء وبراعة التخطيط والاعتماد على تنظيم محكم البناء، ويظهرون عادة متخفين تحت مظلة أعمال أخرى شرعية مشروعة بعيدة عن الشبهات، وقد يشتهرون أيضا بالصلاح والتقوى والعمل الاجتماعي الخيري. المعلم بيومي واحد من هؤلاء، يحظى في المجتمع السكندري بالاحترام والتبجيل، وعمله في الميناء هو الواجهة التي يعرفه الناس من خلالها، أما تدينه فيضفي عليه سمعة طيبة بلا شوائب. عند مقتل شقيقه في عملية تهريب يتم إحباطها بمعرفة قوات خفر السواحل، لا يتردد الرجل الداهية ذو الشخصية المزدوجة في صب اللعنات: “الله يجحمه مطرح ما راح”، ويجاهر بالتبرؤ منه رافضا استلام جثته لدفنها، فهو يرى في تهريب المخدرات عملا مشينا مرذولا: “الله يخرب بيت دا كار.. وبيت اللي بيتاجروا فيه”.

المعلم بيومي زعيم العصابة التي تتعرض للمطاردة الأمنية الشرسة، ويتفنن بذكائه الخارق في ابتكار أساليب غير تقليدية للتحايل والإفلات، تنم عن البراعة والقدرة على الإبداع. ليس أدل على نجاحه في الخداع من ابتعاد الشبهات عنه، ويقين المحيطين به والمتعاملين معه أنه متدين ورع كما يتجلى في المسبحة التي لا تفارق يده، والصلاة التي يواظب عليها.

الوجه المثالي الطيب لزكي رستم، في الدقائق الأولى من أحداث الفيلم، مقنع في تجسيد شخصية الرجل الطيب الصالح الملتزم، ثم يظهر الوجه النقيض في اللقاء مع أقرب معاونيه عرفان، محمود المليجي. المشترك بين الوجهين المتناقضين هو الصدق النابع من سلاسة وعفوية الأداء، والحضور المتوهج الذي تستحيل مقاومته، فضلا عن روح المرح بلا تصنع أو ادعاء. يزن البضاعة الثمينة التي يحملها الحمام، وسيلة التهريب غير التقليدية، ويقول لمساعده: “الناس اللي بنشتغل معاهم دول أشراف تمام.. ميزانهم ما يقلش خردلة!”.

رصيف نمرة 5

يتكلم جادا لا هازلا، فهو يرى عمله في تهريب وتجارة المخدرات مهنة مثل غيرها من المهن، وإشادته بأمانة من يتعامل معهم عفوية تخلو من التهكم. في الحوار نفسه، يكشف عن المكاسب المادية الطائلة للتجارة المحرمة: “إن ما كانوش يكسبوا مكسب حراق إيه اللي يخليهم يجازفوا.. الشوية دول ورقة بمدنة.. يعني كل ست اجواز حمام شايلين في رجليهم عشر تلاف جني”.

لعل في الربحية العالية، بالنظر إلى ما تعنيه آلاف الجنيهات في خمسينيات القرن العشرين، ما يفسر حرص المعلم بيومي على النجاح والإطاحة بكل من يعترض طريقه، ومن هنا سعيه إلى قتل الجندي الشريف خميس، فريد شوقي، لكن الصدفة تجعل من زوجة خميس، ملك الجمل، ضحية للجريمة التي يسارع القاتل نفسه بتقديم واجب العزاء، مبالغا في استنكاره للسلوك الإجرامي الذي ينتهجه المهربون: “مش كفاية السم الهاري اللي بيهربوه ويبيعوه.. كمان قتالين قتلا!”.

لأنه يتعايش مع شخصيتين متناقضتين متنافرتين، يتحرك بينهما مثل بندول الساعة، تتألق عينا زكي رستم في الكشف عن ازدواجيته هذه، ولعل قمة التعبير بالعينين تتحقق في المشهد الذي يسأل فيه الريس خميس، الذي يفلت من الموت على يديه بمعجزة قدرية :”انت بس سبت سريرك ورحت فين بس”.

لا شيء في مضمون عبارته ونبرة صوته ينم عن حقيقة مشاعر الغيظ والاستياء والحسرة التي تعتمل في أعماقه، لكن في نظرات عينيه ما يعبر عن المخبوء المستور الذي لا يمكن كتمانه ويستحيل التصريح به في الوقت نفسه!

تتعدد جرائم المعلم بيومي، ويتسم أداء الممثل الفذ في مواقف الشر، تخطيطا وتنفيذا، بقدر لافت من الثبات الانفعالي وجدية من يؤدي عملا. ليس شريرا تقليديا يعتمد على النمطية، علامة الكسل المزمن، ممن يفرضون على المتلقي أن يكره وينفر ويزدري، بل هو مخلص في إقناع من يراه أنه يمارس تجارة لا تختلف في أدواتها عن غيرها من الأعمال التجارية.

إذا كانت المسبحة التي لا تفارق يده هي العلامة الأبرز في التدليل على الورع والتقوى، فإنها تتحول إلى دليل الإدانة بعد قتله للخرساء بهانة، نعيمة وصفي، الشاهد الوحيد على جريمة قتل زوجة خميس. تنفرط حبات المسبحة ويستقر بعضها في يد القتيلة، وعندئذ يصدق خميس ما يقوله ابنه نقلا عن بهانة، التي تتهم بيومي قبل ساعات من قتلها: “دا راجل يعرف ربنا.. دا بيصلي فرض بفرض.. ما بيسبش السبحة أبدا من ايده.. أنا أعرفه من عشر سنين”.

الإنكار المستنكر للاتهام يتحول إلى التصديق، والمشهد الأخير الذي يبدأ بلقاء في المسجد بين زكي رستم وفريد شوقي، من المشاهد الأكثر شهرة وشعبية في تاريخ الممثلين الكبيرين. يفشل بيومي في استكمال مسلسل الخداع، ويصل إلى محطة النهاية:

“- أمال سبحتك فين يا معلم؟
– والله يا ابني نسيتها في البيت.. ليه؟
– لا ولا حاجة.. أصلي لميتهالك”.

لا شك أن شخصية المعلم بيومي، من المنظور الأخلاقي الديني، تستحق الرفض والإدانة، فلا أحد من الأسوياء الصالحين يتعاطف مع تاجر مخدرات شرس، لا يتورع عن ارتكاب جرائم القتل للتخلص من خصومه ومعاونيه على حد سواء، لكن زكي رستم يفرض بموهبته الاستثنائية بعدا جديدا، تمتزج فيه الكراهية بالإعجاب، ذلك أن روعة الشر التي تتجسد في أدائه تدفع المشاهد إلى الإعجاب ببراعته التي تتجلى في كل المشاهد التي يظهر فيها ويطغى بحضوره المتوهج.

** الفتوة **
جشع كبار التجار واحتكارهم للأنواع المختلفة من السلع الضرورية الحيوية، ما يعني التحكم المطلق في الأسعار وتحقيق الأرباح الفاحشة، لا يقتصر على زمن الحرب حيث تروج “السوق السوداء”، ذلك أن ظاهرة الاستغلال ممتدة وتقترن بآليات النظام الرأسمالي في ظل أنظمة فاسدة، يتحالف قادتها ورموزها من السياسيين مع كبار المحتكرين، وتدفع الكتلة الشعبية العريضة، من الفقراء ومتوسطي الحال، ثمن الخلل وتداعياته الكارثية.

المعلم الطاغية الشرس أبو زيد، المسكون بطاقة هائلة من الشر والشراهة، يسيطر منفردا على سوق الخضر والفاكهة، ولأنه المحتكر بلا منافسة تحقق بعض التوازن، فإنه يتحكم في المعروض، ويفرض الأسعار التي تحقق أكبر قدر من الربح دون انشغال بالمستهلك وإمكاناته المتواضعة. البطولة عنده للمصلحة الذاتية، المدعومة بشبكة من العلاقات الأخطبوطية الوثيقة مع صانعي السياسة العامة للنظام المصري قبل ثورة يوليو 1952.

الصعيدي مدقع الفقر هريدي، فريد شوقي، يهاجر من الصعيد إلى العاصمة بحثا عن عمل، وبعد تجارب قاسية مريرة يتوهم أنه قادر على أن يخوض معركة ضد أبو زيد واحتكاره، متحالفا مع بعض صغار المعلمين في السوق، ولأنه لا ندية أو تكافؤ في الصراع، تناله الهزيمة الساحقة فيتظاهر بالخضوع والإذعان، وسرعان ما ترتفع قيمته وتعلو مكانته بعد تدخله لإنقاذ المعلم الكبير من محاولة القتل التي يتعرض لها من المجذوب، محمود السباع، وهو واحد من ضحايا الطاغية، وما أكثر ضحاياه:

“- شايف المجذوب ده.. دا كان تاجر في السوق له شنة ورنة.
– وقف في وش أبو زيد؟.
– مسحه ولحس عقله وخرب بيته”.

من فيلم “الفتوة”

ما أكثر ضحايا أبو زيد، وما أصعب المواجهة الصريحة المباشرة مع محتكر قوي واسع النفوذ. من وحي ما يقوله شاعر الربابة في القهوة :”ما فيش مانع تقوله انت صديقي”، تقترح حسنية، تحية كاريوكا، أن يتقرب هريدي من المعلم الجبار ليخترق حصونه ويعرف أسراره وخباياه :”هي دي الطريقة الوحيدة اللي نقدر نقف بيها قدام أبو زيد”.

الدنيا بنت الحيلة، والقوة لا تكمن في العضلات وحدها، فهي أيضا في العقل والتخطيط الماكر. الموقع الجديد لهريدي يمكنه من إلحاق الأذى بأبو زيد وإفساد الكثير من صفقاته، ثم تُكتشف الخديعة، ويشرع المعلم المحتكر في الانتقام المروع، ولا ينجو هريدي من الموت في ثلاجة التبريد إلا بمعجزة، وعندئذ تبدأ مرحلة جديدة من الصراع العلني المباشر.

أبو زيد تاجر عملاق يسيطر على صغار التجار ويتحكم في أعمالهم وأرزاقهم، والسمة الأبرز في شخصيته، التي يعيها زكي رستم جيدا ويترجمها إلى أداء متمكن، تتمثل في الغياب الكامل للمشاعر الإنسانية واللامبالاة بمعاناة ومتاعب الآخرين. الهدف الأسمى عنده هو السيطرة المطلقة والاستحواذ المنفرد وتحقيق الأرباح الفاحشة باستنزاف المستهلكين دون رحمة :”سمعت عن حد مات عشان ما كلش طماطم؟”.

يشكو له واحد من التجار، عبد العليم خطاب، تخوفه من النتائج الوخيمة التي تترتب على المبالغة في رفع الأسعار: “بالطريقة دي الخلق ها تموت م الجوع”، فيرد عليه ساخرا في غطرسة متعجرفة: “الدنيا زحمة قوي.. خليها تخف!”، ولا تقتصر قسوته على المستهلكين وحدهم، ذلك أنها تمتد أيضا إلى التجار الذين يتعاملون معه: “اللي ما يقدرش يشتغل معلم.. يشتغل سريح!”.

لا موضع للرحمة والشفقة في ظل الاحتكار الشرس، ويستوعب رستم ملامح الشخصية بما ينعكس على أسلوب أدائه، حيث التسلح الواعي بالسخرية اللاذعة والجفاف المتجهم المعبر عن رؤية نفعية صارمة، يترجمها صوت الممثل الكبير في كلمات تبلور القانون الذي يحكمه: “اللي معاه فلوس يشتري وياكل على كيفه.. واللي ما ممعهوش يتلهي على عينه ويسكت”.

بفضل علاقاته المتشعبة وقدرته غير المحدودة على شراء الذمم والضمائر بالهدايا والرشاوى، يملك أبو زيد نفوذا هائلا يمكنه من نقل ضابط السوق الشريف المعتز بكرامته، كمال يسن، إلى سوهاج، وتعينه دائرة الفساد التي يتحرك في إطارها على شراء محاصيل الحدائق بالثمن البخس، ما يعني تحكمه في المعروض وسهولة فرض الأسعار وفق هواه وبما يحقق مصالحه.
لا تخلو معاركه مع هريدي وحلفائه من خسائر فادحة، تقف به على حافة دخول السجن، لكنه ينجو ويعود لينتقم ويثأر من غريمه اللدود، وصولا إلى المعركة الحاسمة التي ينتهي بها الفيلم، وتشهد سقوط أبو زيد وهريدي معا، واقتراب النظام كله من السقوط، وعلامة ذلك سقوط صورة الملك؛ رأس النظام ورأسه.

يمكن القول إن العملاق زكي رستم لا يحتكر السوق وحده، بل إنه أيضا يستأثر بالكاميرا كأنه صديقها الحميم، ويحتكرها بحضوره الطاغي كأنها لا ترى أحدا سواه. لا يملك من يشاهد الفيلم إلا أن يجزم بأنه معلم من سلالة معلمين، مولود في سوق روض الفرج ويحترف ممارسة المهنة على مدى عمره. مع تعدد وتنوع انفعالات وجهه تفاعلا مع المواقف المختلفة التي يواجهها، يبقى الانتماء راسخا لشخصية المعلم عظيم الحضور، مستثمرا نظرات عينيه لتدعيم الرؤية التي يعبر عنها. كيف ينظر إلى ضابط الشرطة الملتزم، المتمرد على التبعية والاستسلام لإرادته؟

 نظرات محملة بالغيظ والضيق والاستنكار كأنه يطلق عليه الرصاص بعينيه، ومع المجذوب المزعج تزدحم عينا زكي رستم بالاشمئزاز والتأفف والازدراء، ومع ثريا هانم، زوزو شكيب، التي تدعمه بنفوذها وخدماتها مدفوعة الأجر، تكتسب العينان رقة الخضوع المعبر عن التبعية، أما الذروة في توظيف العينين فتتجسد في تحولات علاقته مع هريدي، من الإهمال واللامبالاة والتعالي، إلى الإعجاب والامتنان وما يشبه الحب، وصولا إلى نيران الغضب الجنوني عند اكتشاف ألاعيبه وخداعه.

في المعركة الأخيرة مع هريدي، يحلق زكي رستم بعيدا ويندمج في عالم الشخصية التي يجسدها كأنه لا يمثل، ويشعر المشاهد أن قسوة الغل التي يراها حقيقية صادقة لا ذرة فيها من الافتعال، فهو يكره من يعاركه، ويندفع للتدمير والانتقام كأنه في مواجهة خارج ساحة التمثيل.

Visited 99 times, 1 visit(s) today