يوميات مهرجان كان 76 (1): افتتاح لطيف لكن لا شيء يبقى في الذاكرة

أمير العمري- كان

أن تفتتح الدورة الـ76 من مهرجان كان السينمائي الذي يعدنا هذا العام بمجموعة من أفلام كبار المخرجين، لهو أمر لا غبار عليه، فالسينما الفرنسية سينما عريقة قدمت لنا الكثير من المواهب والعبقريات السينمائية والأفلام البديعة.. وإن كنت أعتقد أن اختيار الفيلم على الرغم من المشاكل التي ثارت في وجه مخرجته التي تسمي نفسها “مايوين” Maïwenn فقط، من دون كنية، جاء أساسا بسبب وجود النجم الأمريكي الكبير جوني ديب في بطولته، أمام مياوين نفسها في المرأة التي يحمل الفيلم اسمها، هذه المرة بكنية ولكن لهذه الكنية قصة داخل الفيلم!

يروي فيلم “جان دي باري” Jeanne du Barry في سياق تقليدي ومن خلال إمكانيات إنتاجية ضخمة، قصة فتاة من الطبقة الدنياـ جاءت إلى الحياة من خلال علاقة غير شرعية بين قس وطاهية، وتلقت تعليما في أحد الأديرة، ثم خرجت إلى الحياة بعد أن وجدوا أنها لا تصلح لحياة الدير بسبب ميلها للقراءة في كتب تصف حياة الفسق والفجور. ولكن بفضل خدمة أمها في منازل الطبقة الراقية، تعلمت وعشقت القراءة، وأصبحت مطلعة على تقاليد الطبقة العليا في المجتمع ولكن من خلال نظرة متمردة ساخرة، ثم التقطها “دي باري” وهو أحد نبلاء عصر ما قبل الثورة الفرنسية، وعقد معها اتفاقا، أن يقدمها لأصدقائه من النبلاء لكي تعاشرهم معاشرة جنسية مقابل أن يحصل هو على قسط من “المكافآت” المالية والعينية، أي أنه أصبح القواد الخاص بها والذي سيجعل الملك لويس الخامس عشر نفسه يقع في شباكها ويغرم بها ويتخذها عشيقة له، وتصبح علاقته به معلنة في أوساط البلاط بعد وفاة زوجته، ويعتبرها رجال الحاشية والكنيسة “فضيحة”.

خلال حياتها مع دي باري وهو أرمل، ارتبطت جان بابنه الصغير “أدولف” وقامت بتعليمه القراءة وفتحت عينيه على الشعر والأدب، وهي علاقة ستظل باستمرار وثيقة بعد أن يكبر. ولكن دخول جان إلى فرساي لم يكن سهلا، بسبب ماضيها الشائن كعاهرة محترفة معروفة وأصولها الوضيعة، وقد جرى العرف على أن تكون عشيقة الملك امرأة متزوجة. وللتغلب على هذه المشكلة كان لابد أن تتزوج جان، واختار لها الملك دي باري نفسه الذي اكتسبت منه اسمها، كما قاموا بتزوير شهادة ميلاد لها تنفي عنها أصلها الوضيع، وتجعلها أصغر بثلاث سنوات من عمرها الحقيقي.

يقوم جوني ديب، بدور الملك لويس الخامس عشر، في فيلم فرنسي تماما، وموضوع فرنسي، ووسط ممثلين فرنسيين. وهي أول عودة له إلى شاشة السينما منذ أن تفجرت قضيته مع رفيقته السابقة الممثلة أمبر هيرد قبل ثلاث سنوات. يفترض أن يجسد موضوع الفيلم، أولا حالة التفسخ التي كانت سائدة في أواخر عهد لويس الخامس عشر ثم تولي ابنه الملك من بعده، وثانيا التفاوت الطبقي الكبير بين الطبقة الأرستقراطية التي تعيش في بذخ والطبقات الفقيرة، وثالثا، أن نرى كيف أصبحت “جان” أداة للهزؤ والسخرية بالطبقة الأرستقراطية، وكيف تلاعبت بها أو أخضعت وأذلت كبار رجالاتها، لكن جان التي نراها في الفيلم، تنغمس تماما مع الطبقة التي تسخر منها، تتماثل معها وترحب بالصعود في داخلها دون أن تصطدم بها أبدا.

بعد زواج وريث العهد الذي سيصبح لويس السادس عشر من الفتاة النمساوية الصغيرة السن، ماري أنطوانيت، يشحن نساء الحاشية وخصوصا بنات الملك الثلاث، ماري ضد جان، ويكشفون لها حقيقة أصولها الوضيعة بل وكونها أصلا عاهرة محترفة، فتتخذ منها ماري أنطوانيت موقف المقاطعة، لا تخاطبها ولا تستمع إليها ولا تتحدث معها. ولكن الفيلم يركز على فكرة أن غضب ماري من جان يرجع الى أنها ارتدت فستانا أبيض في حفل استقبالها في فرساي (!)، كما أن ارتداء جان فيما بعد لملابس شبيهة بملابس الرجال أثار دهشة نساء الحاشية ويقول الفيلم إنهن قل\نها وهو ما لا يظهر في الفيلم. وفي المرة الوحيدة التي ستخاطبها فيها تهرع غير مصدقة “لقد حدثتني.. لقد خاطبتني”!!

العلاقة بين جان والملك، علاقة يفترض أن تكون صاخبة في الفراش، ولكن لا يوجد مشهد لقاء جنسي واحد في الفيلم، وعندما نراهما معا في الفراش نراهما جالسين يتناولان طعام الإفطار (!).

وبينما تبدو شخصية الملك لويس الخامس عشر شخصية غامضة، باردة الى درجة كبيرة، في تناقض مع صورة الملك العابث اللاهي، ويبدو أداء جوني ديب تائها، كأنه يرتدي ثيابا ليس له، تبرز كثيرا الشخصية وصيف الملك، “لا بورد” كما أداها الممثل الفرنسي بنجامين لافرنيه، وتصبح هي مفتاح الفيلم، فهو الشخصية الأكثر قوة وهيمنة، صحيح أنه يعرف كيف ينحني ويطيع، إلا أنه يعرف أيضا كيف يكون صارما في تطبيق قواعد السلوك في “فرساي”، بل ويكون حاضرا باستمرار وراء الأحداث بل وحتى داخل مخدع الملك حتى في أكثر اللحظات خصوصية (من دون ممارسة جنسية بالطبع!)..

من أكثر مشاهد الفيلم طرافة مشهد خضوع جان لطبيب الملك لكي يجري عليها بعض الفحوص التي ترمي للتأكد من عدم وجود أي مرض جنسي لديها، وبالتالي تشمم وفحص مهبلها باستخدام أدوات طبية بدائية تثير القشعريرة، لكنها تقبل وترضخ ولا تتمرد فهي في الفيلم تبدو كما يصفها الملك نفسه ذات مرة، أكثر اهتماما بالذهب من اهتمامها بالملك، كإنسان يصارحها مرة بعد أخرى، بحبه لها، لكنها لا تعرب له عن حبها سوى بعد أن يكون ممددا ينتظر نهايته على فراش الموت بعد اصابته بمرض الجدري.

من الطبيعي أن تصبح جان دي باري في أنظار الطبقة الثورية الفرنسية، خائنة لطبقتها، فهي كذلك بالفعل، فقد أرادت الاستماع بكل ما يمكنها مقابل توظيف جسدها ومهارتها الجنسية التي نسمع الكثير عنها في الفيلم دون أن نرى منها شيئا. والملك يهديها هدية عبارة عن صبي أسود يدعى ” زامور”، تتبناه وتربيه وتدافع عنه ضد كل من يوجهون الاهانات له ويعتبرونه عبدا، لكن من الطبيعي أن نعرف أنه سيتخلى عنها بعد اندلاع الثورة إلى أن تلقى مصيرها تحت سكين المقصلة شأن لويس السادس عشر وماري أنطوانيت. وهي معلومات تأتي على لسان الراوي في الفيلم الذي يتوقف قبل الثورة الفرنسية.

من أكثر نقاط الفيلم ضعفا في رأيي الشخصي، إصرار المخرجة “مايوين” على القيام بدور “جان دي باري” بنفسها. ولا شك أنها حاولت واجتهدت واندمجت في الدور وجعلت الكاميرا تركز عليها كثيرا، وانفجرت في الضحك مرات ومرات وأظهرت تمردها المبكر وميلها للمشاكسة (ولا شيء أبدا عن حياتها الجنسية حتى كمحترفة!!)، إلا أن مايوين لا تتمتع بأي قسط من الجاذبية الجنسية التي يمكن أن تجعل لويس السادس عشر يجعلها عشيقته لسنوات طويلة ويدافع عنها ويقف في وجه بناته من أجلها، ويظل متمسكا بها رغم ما يمثله ذلك من تحد للكنيسة نفسها.

يضفي الفيلم مسحة من النبل على لويس السادس عشر، ويتعاطف معه ومعاتياره باعتباره رجلا يعاني من الوحدة بعد وفاة الملكة، كما يتعاطف الفيلم بوضوح مع شخصية جان الجامحة، وباتالي يتخذ موقفا رجعيا من أحداث التاريخ على نحو يذكرنا بموقف إريك رومير في فيلمه الشهير “الدوق والليدي” (2001) الذي كان يتخذ موقفا منحازا للأرستقراطية إبان الثوة الفرنسية.

ونحن لا نتفق مع الفكرة التي يروج لها نساء حركة “الفيمينزم” ومن يدور في فلكهن من أن كل النساء جميلات. هذا قول عموما انشائي لا قيمة له، فكما أن هناك رجل وسيم ورجل دميم وآخر مقبول او متوسط أو جذاب أو غير جذاب، هناك امرأة جميلة وأخرى قبيحة وثالثة منفرة ورابعة جذابة وخامسة متوسطة الجمال.. وهكذا.. فهناك مقاييس (ليست ثابتة بالرورة لكنها موجودة) لكل شيء، والقول على سبيل المجاملة أن كل النساء جميلات هو أقرب إلى نكتة، تساوي بين الجمال والقبح!

مايوين

مايوين لا تتمتع باي درجة من درجات الجمال حتى بمقاييسه التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر: فعيناها ضيقتان بدرجة مزعجة، وأسنانها بارزة بشكل منفر، وأنفها طويل، وجسدها ضعيف هزيل لا يفيض بالانوثة، لا يظهر منه ما يمكن أن يثير أي رجل جنسيا، ناهيك عن أن يستولي على مشاعر ملك مجرب عاشر عشرات العشيقات وجميلات فرنسا. ولذلك لا تبدو مايوين مقنعة في الدور بل وكبيرة أيضا عليه من ناحية السن (عمرها الحقيقي 47 سنة).

في الفيلم مشاهد كثيرة مبهرة مثل المشاهد التي صورت داخل قصر فرساي الحقيقي، واهتمام كبير بالدقة في تصميم ملابس الفترة، وتصفيفات الشعر والباروكات والإكسسورات المدهشة، والموسيقى ذات الطابع الكلاسيكي، وكلها مما تجيده صناعة عمرها أكثر من قرن وربع قرن الآن، وقد توفرت عناصر الاتقان الحرفي أيضا بفضل الإنتاج المتعدد الأذرع.

ولكنني لا أفهم ما الذي تفيده مشاركة مهرجان البحر الأحمر السعودي من تمويل فيلم فرنسي من هذا النوع؟ هل هي رغبة في التواجد على ساحة السينما في العالم الخارجي مثلا، والوصول طبقا للفكرة الساذجة السائدة في العالم العربي عموما، حول ما يسمونه “العالمية”؟

هل دور مؤسسات دعم السينما في البلدان النفطية الغنية مثل الامارات والسعودية وقطر، يتمثل في دعم السينما الأمريكية والفرنسية والبريطانية؟ أم أن دورها الحقيقي والأساسي هو دعم الفيلم العربي الفني الطموح الذي يريد أن يفرض نفسه أيضا على الساحة “العالمية”!

طبعا مايون تواجه تهاما لم تنكره، بالاعتداء على صحفي فرنسي، جذبته من شعره وبصقت في وجهه أمام الحاضرين في أحد مطاعم باريس ولم تكشف حتى الآن عن السبب، وكانت هناك اعتراضات كثيرة من جانب الصحافة الفرنسية على اشراك فيلمها في المهرجان. لكن هذه قضية أخرى ربما تنظرها المحاكم الفرنسية قريبا.

Visited 8 times, 1 visit(s) today