يوميات مهرجان فينيسيا (8) الكشف عما وراء تحفة فيلليني

أمير العمري

ما أدت إليه الحركات النسائية الغاضبة التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة مثل حركة “أنا أيضا” Mee too هي أنها كرست فكرة خاطئة تماما وسطحية بل وأراها أيضا مدمرة للمهرجانات السينمائي، وهي فكرة ضرورة تخصيصنسبة بارزة من الأفلام التي أخرجتها نساء. وهو نوع من التعصب المضاد الذي أدى في الواقع العملي، إلى وجود عدد كبير من الأفلام “الرديئة”. وهو ما تبدى بوضوح في أفلام مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الـ 77.

من أكثر الأفلام دلالة على هذا الخذلان على سبيل المثال، الفيلم الفرنسي “العشاق” للمخرجة نيكول جارسيا. هذا عمل آخر مكرر في السينما الفرنسية بوجه خاص عن العلاقة العاطفية الملتهبة التي لا تخبو بين شاب وفتاة، الشاب موزع مخدرات، والفتاة تؤهل نفسها للعمل في هجمة نزلاء الفنادق، أي أن كلاهما من المهمشين: الفتاة ستنجو من المستنقع عندما تتزوج من رجل أعمال يأخذها الى العالم في رحلات أعمال ومتعة، في جزر الموريشيوس وجنيف وغيرها من الأماكن السياحية، لكن قلبها لايزال هناك مع ذلك الشاب الذي يتورط في جريمة قتل ويهرب ويتخلى عنها بمنتهى النذالة. وسيظل هذا الشاب يعود إليها، حتى في أقاصي الأرض، كما تعود إليه وتخون زوجها معه، والمصادفات القدرية كثيرة جدا في هذا السيناريو المفتعل الذي ينتحل اسم فيلم فرنسي آخر للوي مال من عام 1958، كان في الحقيقة شديد الاختلاف عن فيلمنا هذا المترهل الذي يمتليء بالمفارقات المصطنعة والتواءات الحبكة المتوقعة التي تنتهي نهاية معروفة سلفا.

الأفلام الإيطالية الثلاثة أو الأربعة (باستثناء فيلم مس ماركس) في المسابقة ضعيفة المستوى، ولا تثير موضوعاتها أي اهتمام رغم أن أحدها وهو الفيلم التسجيلي الوحيد في المسابقة بعنوان “نوتورنو” (أو “الليل”) للمخرج جيافرانكو روسي، يتناول موضوعا يدور في المنطقة الحدودية بين سورية والعراق وتركيا: ويقدم شهادات عما فعله تنظيم داعش بالأيزيديين والأكراد وغيرهم، ولكن من خلال أسلوب مصطنع لا يثير سوى الشعور بالملل، فهو يفشل في سبر أغوار الموضوع، أو تقديم جديد يكشف عما خفي أمره علينا، بل ويمكنني القول دون أي مبالغة أن غيره سواء من الأفلام التسجيلية أو حتى من نوع الريبورتاج التليفزيوني، قدم تلك الأحداث بشكل أكثر إشباعا.

من فيلم “الليل”

هذا طبعا رغم الضجة الإعلامية الهائلة التي أحيط بها هذا الفيلم الذي استقبله النقاد بصيحات الاستهجان ومع ذلك لن أندهش إذا ما حصل على إحدى جوائز المهرجان، فهذا المخرج يضعون عليه آمالا كبيرة في إيطاليا منذ فوز فيلمه “نار في البحر” بجائزة مهرجان برلين، وكان عن اللاجئين في جزيرة لامبيدوزا، لكنه كان أفضل كثيرا من هذا الفيلم الذي قيل إن مخرجه قضى ثلاث سنوات في تصويره!

فيلم “الأخوات ماكالوسو” للمخرجة الإيطالية إيما دانتي، المستند الى رواية أدبية يعرفها الايطاليون، عمل باهت لا يقدم رؤية ما حول أي قضية، بل مجرد سرد متخم بالحوارات والمشاجرات بين أربعة شقيقات، يشعرن بالألم بسبب ما وقع في الماضي عندما قتلت شقيقتهن الخامسة بسبب اهمال احداهن. ثرثرة إيطالية، وموضوع منزلي، محلي تماما لا يتجاوز حكايته الى تقديم فلسفة ما أو نظرة اجتماعية أكثر عمقا بل حتى الشخصيات بدت كلها كريهة- شكلا ومضمونا وسلوكا- على نحو يدعو للقرف!

لكني استمتعت بالفيلم التسجيلي “الحقيقة وراء لا دولشي فيتا” للمخرج جيوسيبي بيدرسولي. هذا الفيلم يروي للمرة الأولى بالوثائق ومعظمها رسائل متبادلة بخط اليد وعقود موقعة وتسجيلات، قصة إنتاج فيلم “الحياة اللذيذة” (لا دولشي فيتا) لفيديريكو فيلليني.. كيف بدأت، وكيف سارت، والخلافات الشديدة التي اندلعت بين أطراف الإنتاج، ثم بين منتجي الفيلم ومخرجه فيلليني.

لقطة من “لا دولشي فيتا”

يروي الفيلم القصة من وجهة نظر المنتج الإيطالي جيوسيبي أماتو (المعروف باسم بيبينو)، فهو بطل القصة وليس فيلليني، وهو في الحقيقة أحد أهم المنتجين في تاريخ السينما الإيطالية، وكان أيضا قد عمل كممثل في السينما الصامتة ثم كمخرج ومنتج، وهو الذي كان وراء تشجيع فيتوريو دي سيكا على أن يصبح مخرجا بعد أن كان ممثلا فقط، وفي الفيلم نرى دي سيكا يتحدث معه ويتذكر كلاهما كيف سارت علاقتهما. وكان “بيبينو” بحسه السينمائي الخاص الوحيد الذي أبدى حماسا لإنتاج فيلم فيلليني الطموح بعد أن رفضه عدد كبير من المنتجين الذين عرض عليهم السيناريو، وتشككوا في إمكانية أن يحقق أي نجاح بسبب غرابة موضوعه وبنائه.

كان المنتج الإيطالي الكبير دينو دي لورانتيس قد تعاقد مع فيلليني للعمل لحسابه لمدة 4 سنوات وكان السيناريو بالتالي من ملكيته، لكنه لم يتحمس لإنتاجه بسبب ميزانيته الكبيرة، كما اختلف بشدة مع فيلليني الي رفض الاستعانة بنجم من السينما الأمريكية، ولاحت الفرصة له عندما اقتنع المنتج أنجلو ريزولي بإنتاجه فعرض على دي لورانتيس التنازل له عن فيلم “الحرب الكبرى” مقابل الحصول على “الحياة اللذيذة”. لكن ريزولي اشترط عدم تجاوز 400 مليون ليرة كميزانية للفيلم.

ما سيحدث بعد ذلك ونتابعه من خلال الممثل الذي يقوم بدور بيبينو، وكذلك من الرسال المتبادلة، أن فيلليني سيمض بكل جنونه، ويتجاوز أيام التصوير والميزانية التي ستقفز تدريجيا لتنتهي الى 800 مليون ليرة وهي أكبر ميزانية في تاريخ السينما الإيطالية في ذلك الوقت. وستنشأ خلافات عنيفة بين ريزولي وبيبينو، فالأول يحمل الثاني مسؤولية تشجيع فيلليني على المضي قدما في مشروعه المجنون، رغم أن الثاني حذر فيلليني كثير. وجراء الضغوط سيصاب بيبينو بنوبة قلبية تلو أخرى، وستقضي عليه التجربة تماما بعد أن يرفض ريزولي أن يدفع له حصته كاملة من الإنتاج، ولكنه كان واثقا من نجاح الفيلم، وهو ما سيحدث بالفعل بشكل كبير ويحقق أكبر أرباح يحققها أي فيلم من أفلام فيلليني. لكن بيبينو سيموت متأثرا بمتاعبه الصحية عام 1964.

المنتج السينمائي الايطالي جيوسيبي أماتو

يظهر في الفيلم مارشيللو ماستروياني يتحدث عن الفيلم وعن تجربته في العمل مع فيلليني، كما تظهر الممثلة الإيطالية التي عملت مع فيلليني في فيلمين هما “جوليتا والأرواح” و”8 ونصف”، كما يستخدم المخرج مواد الأرشيف لمقابلات مع فيلليني، ويعرض أجزاء نادرة من التصوير في الديكورات التي شيدت خصيصا للفيلم في مدينة السينما الإيطالية خاصة ديكور شارع فيا فينتو الشهير في روما الذي هو قلب أحداث الفيلم.

من عالم فيلليني إلى عالم المستقبل القريب في المكسيك كما في الفيلم المكسيكي “النظام الجديد” للمخرج مايكل فرانكو، وهو أحد أفضل أفلام المسابقة الرسمية. والحقيقة أن الفيلم لا يقول لنا ان ما نشاهده أحداث متخيلة قد تقع في المستقبل بل يقدمها كما لو كانت تحدث اليوم. وهو يبدو كما لو كان نبوءة لما يمكن أن يحدث في مصر في أي وقت قريب، حيث يهاجم المهمشون والفقراء من الطبقات الدنيا، طبقة الأثرياء ويقتحمون قصورهم الفاخرة ويستولون على كل ما فيها ويقتلون أصحابها في مجزرة بشعة. ولكن هناك أيضا قوة أساسية في السلطة تقف وراء هذا العنف. لكن هذا موضوع المقال القادم فالفيلم عمل كبير يستحق مقالا مستقلا.

Visited 48 times, 1 visit(s) today