يوميات مهرجان فينيسيا (7) زمن “الرفاق الأعزاء”
أمير العمري
يدور فيلم “الرفاق الأعزاء”” Dear Comradesللمخرج الروسي المرموق أندريه كونتشالوفسكي، في الماضي، لكنه يقبض على العقل وسيطر على الحواس كما لو كان يدور في الزمن الحاضر. إنه الفيلم الأفضل بين أفلام مسابقة الدورة الـ 77 من مهرجان فينيسيا السينمائي، رغم أنه لايتمتع بسحر الحداثة بل يبدو مخلصا لتقاليد سينما الماضي: فصوره بالأبيض والأسود، مع بعض الحبيبات المقصود ظهورها على سطح الصورة، ومصور بالمقاييس الأكاديمية أو المنسوب القديم 1.33 إلى 1، لكي يوحي بأجواء وطبيعة وروح الفترة التي يتوقف عندها، وهي تحديدا اليومين الأول والثاني من شهر يونيو 1962.
ما الذي حدث في هذين اليومين، وما مغزى ما حدث، ولماذا اختار كونتشالوفسكي وهو في الثالثة والثمانين من عمره اليوم العودة إلى تلك الفترة، عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره، وكان في تلك السنة تحديدا، شريكا في كتابة سيناريو أفضل أفلام تاركوفسكي، “أندريه روبليف”؟
كونتشالوفسكي يهدي فيلمه إلى والديه، اللذين ينتميان قلبا وقالبا إلى تلك الفترة الملتبسة في تاريخ الاتحاد السوفيتي. لقد كانا شديدي الإخلاص للنظام، وضعا ثقتهما فيه، ولكنه خيب آمالهما. في ذلك الوقت، كانت قد انقضت عدة سنوات على المؤتمر العشرين الشهير للحزب الشيوعي الذي كشف خلاله خروتشوف تفاصيل مرعبة عن الانتهاكات والمجازر التي وقعت في عهد ستالين. لكن المفارقة أن خروتشوف الذي كان على قمة السلطة في 1962، سيواجه وضعا يجعله يتخذ أيضا قرارا يؤدي الى وقوع مذبحة من نوع آخر جرت فصولها في مدينة نفوشيركاسك Novocherkassk في اقليم القوزاق ضمن حوض نهر الدون. وما وقع هناك تم التغطية عليه طويلا، وربما يكون أكثر خطورة من الناحية الرمزية مما جرى في عهد ستالين، لأنه وضع للمرة الأولى الطبقة العاملة التي يحكم الحزب الشيوعي باسمها، في مواجهة مباشرة مع بيروقراطية الحزب.
في 1 يونيو أعلنت وسائل الإعلام عن رفع أسعار المواد الغذائية والوقود والخبز والطعام، واختفت السلع الرئيسية من الأسواق. وأصبح “الرفاق” فقط القريبون من مقاعد السلطة، هم الذين يمكنهم الحصول على ما يريدون من “الباب الخلفي”.
قام عمال أكبر المصانع بإعلان الاضراب. أغلقوا المصنع على أنفسهم وتوقفوا عن العمل. وسرعان ما انضم إليهم العمال في مصانع أخرى. وقرر الجميع الزحف عل المدينة، وحاصروا مقر الحزب أثناء اجتماع القيادات الكبرى لمناقشة الوضع، وأخذوا يقذفون المقر بالأحجار، يحطمون زجاج النوافذ، ونجح بعضهم في اقتحام المبنى مما أرغم كبار القادة ومنهم موفد على اعلى مستوى من القادة في موسكو، على الفرار بطريقة مهينة.
ويجسد كونتشالوفسكي التناقض بين رجال النخبة الذين يتناولون الكونياك الأوكراني ويلتهمون الكافيار، وبين العمال الفقراء الذين أصبحوا لا يجدون ما يأكلونه. كما يجسد التناقض العقائدي بين الطرفين، فالعمال الثائرون يحملون الأعلام الحمراء وصور لينين وستالين، أي أنهم أكثر ولاء للنظام الشيوعي من المسؤولين الحاليين، أتباع سياسة الانفتاح التي يقودها خروتشوف. وهذه هي المفارقة.
ماذا ستفعل السلطات؟ اجتماع تلو اجتماع، وخطابات والجميع يرتعدون خوفا، لا أحد يريد أن يتحمل المسؤولية، لا أحد يريد أن يواجه القيادات بالحقيقة، أن العمال لا يستطيعون تحمل هذا العسف خاصة وأن أجورهم تم خفضها مؤخرا، والأحوال تنذر بمزيد من التدهور. لكن التعليمات ستصدر للجيش بالتدخل وقمع الانتفاضة العمالية بالقوة. أما القائد المحلي للجيش فسيرفض. الجيش السوفيتي ليس من مهامه التدخل وقمع الشعب السوفيتي، بل مهمته هي حمايته، والدفاع عن حدود الدولة السوفيتية. هذا ما يقوله. لكن الوزير الحزبي يقول له أليس هؤلاء أعداء للدولة السوفيتية؟ ألم تر ما جرى في المجر عام 1956؟ ألم يكن هناك أيضا “جماهير” قامت بالتخريب بتحريض من المخابرات الأمريكية وأعداء الاتحاد السوفيتي؟
مع الشد والجذب، ومع رغبة خروتشوف الذي جن جنونه في موسكو، ومع فشل القيادات المحلية في مواجهة الجماهير الغاضبة- كما نرى- حيث تم قذفهم بالحجارة، صدرت تعليمات سرية لرجال الكي جي بي بإرسال فريق من القناصة، اتخذوا أماكن سرية لهم وأطلقوا النار فوقعت المذبحة.
هذا ما نشاهده في تصاعد سلس للأحداث، يبدأ في هدوء، ويصل إلى ذروة الصخب والعنف من دون أن تغيب روح السخرية والمرح من عبثية المشهد بأسره.. ففي المشاهد الأولى نرى خلالها المسؤولين وهم يهرولون ويتسللون كالفئران من أقبية وأنفاق تحت الأرض، يتعثرون ويصطدمون ببعضهم البعض، ويرتعدون من مواجهة الجماهير التي يزعمون أنهم يمثلونها.
ولكن براعة كونتشالوفسكي ورفيقته في كتابة السيناريو “إيلينا كيسليفا”، تجعل الفيلم ينتقل من العام إلى الخاص من خلال شخصية “ليودا” التي تقوم بدورها ببراعة كبيرة، الممثلة جوليا فستوسكايا زوجة كونتشالوفسكي. إننا نراها من البداية كشخصية حزبية في القيادة الحزبية المحلية، شديدة التزمت والولاء للحزب وللدولة. هي فقط تبدي لوالدها العجوز الذي ينتمي لجيل الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية، امتعاضها الشديد من سياسة خروتشوف، فهي تحن الى عصر ستالين (لو كان بيننا لكنا فعلا قد حافظنا على الشيوعية.. ستالين كان الوحيد القادر على جمع الصفوف.. بعد ستالين لم نعد كما كنا. لقد كانت الأسعار تنخفض كل سنة في عصر ستالين، وتم خفضها بعد الحرب العالمية الثانية، فكيف ترتفع الآن). إلا أن هذا الكلام يدور فقط بين الجدران، فهي لا تجرؤ ولا يجرؤ أحد على التصريح بمثل هذه الآراء. إنها نموذج للإيمان الكامل المطلق بالنظام. بل هي أكثر تشددا وراديكالية.
“ليودا” تتشدد في تعاملها مع ابنتها المراهقة (في السابعة عشرة من عمرها)، لكنها في الوقت نفسه، تقيم علاقة جنسية مع رئيسها في الحزب (الذي يصفها أكثر من مرة بالمرأة المجنونة). تتحمل جنون والدها المسن الذي يبدو أكثر قدرة على انتقاد النظام منها. فعندما يسمع أنباء الاحتجاجات يكون تعليقه (لتحترق المدينة كلها). فهو قد عاش زمن الحرب الأهلية بين الحمر والبيض، الموالين للنظام السوفيتي والمعادين له. وهو يذكر ابنته بالتجاوزات البشعة التي ارتكبها الجيش الأحمر. لكنها تقول إن ما حدث كان ردا على ما ارتكبه القوزاق وقوات الثورة المضادة. وعندما تذكر والدها العجوز بأن تشوخراي وصف في روايته (تقصد رواية الدون الهاديء) الأحداث بدقة، يشكك هو في رواية تشوخراي ويسخر منها.
يخرج الرجل العجوز ملابسه العسكرية من زمن القيصر، من زمن الحرب الأولى التي شارك فيها، ويرتديها ويضع الشارات على كتفه. وهو ما يخيف ابنته فتحذره من أن سلوكه هذا قد يجلب لهم المتاعب، “فلا أحد يريد أن يتذكر تلك الأيام”!
ليودا تطالب المسؤولين في الاجتماع الذي يعقدونه لمناقشة الأزمة بقمع الانتفاضة بكل قوة، وتلقي خطبة حماسية تلفت إليها أنظار كبار المسؤولين، الذين يبدون إعجابهم بولائها وحكمتها وبعد أن كانوا يميلون إلى مخاطبة العمال الثائرين ومحاولة اقناعهم بشكل ودي، قرروا الآن أن أفضل السبل هو استخدام القوة خاصة وأن خروتشوف يطالب بعمل سريع.
ترسل قوات الجيش والدبابات وتغلق الطرق تحاصر المدينة ويتم اعلان حظر التجوال.. ولكن مشكلة ليودا أن ابنتها “سفيتكا” تقف مع الجانب الآخر، مع الثوار، فهي إحدى العاملات في المصنع الذي أعلن الاضراب.. وفي خضم أعمال العنف والقتل، تختفي “سفيتكا”. برود ليودا يتحول الى قلق ثم اضطراب شديد وهي تشهد بعينها كيف يجري التعامل بشراسة مع العمال، بل وتكتشف أيضا تسلل قناصة الكي جي بي KGB الى الأسطح لقنص المتظاهرين. تتحصن ليدا داخل صالون للتجميل.. من خلال الزجاج نرى الجثث تتراكم في الخارج. تحاول مساعدة امرأة جرحت، وبينما تمد يدها بالمساعدة تسقط المرأة بعيار ناري مباشر.
ينقلون الجثث ويقومون بدفنها خارج المدينة في مقابر الأهالي. تصبح مهمة ليودا الآن العثور على “سفيتكا”. هنا تتحول من مسؤولة حزبية متعصبة، إلى أم ملتاعة مرتعدة اهتزت ثقتها في النظام الذي حاربت من أجله تحت اسم الزعيم ستالين. وبعد أن كانت قد وعدت ضابط الكي جي بي الذي ذهب لتفتيش حجرة ابنتها، بأن تقوم بتسليمها بنفسها الى السلطات (وغالبا كانت ستفعل) أصبحت تشعر بالفزع الشديد الآن من أن تكون ابنتها قد قتلت مع من قتلوا. إنها تطرق الأبواب، تسأل أصدقاءها، ولكن لا أحد يريد أن يتحدث فقد أرغم الجميع على توقيع تعهد بعدم الافشاء بأي معلومات عما حدث. فالسلطة تريد محو هذه المجرزة من التاريخ فكيف يمكنها أن تبرر خاصة، امام العالم الخارجي، الصدام بين حزب الطبقة العاملة والطبقة العاملة نفسها؟
يصور الفيلم نمو العلاقة الإنسانية بين الضابط وليودا. فهناك معرفة قديمة فيما بينهما. يصحبها الضابط الذي يواجه هو نفسه مشكلة مع قوات الجيش التي تفرض سيطرتها على المنطقة. لكنه يتحايل ليخترق الحصار مع ليودا، يوقظان جنديا كان مسؤولا عن دفن جثث الضحايا ويأخذانه الى المقابر، ويهدده الضابط بالسلاح حتى يعترف بمكان الدفن.. نعم كانت هناك فتاة تنطبق عليها أوصاف سفيتكا.. تنهار ليوديا وتنهار كل قناعاتها في لحظات الرعب الرهيبة، بالنظام وكل ما يمثله وتكفر بكل الأكاذيب التي لقنت إياها منذ الصغر هي التي قامت بدور بارز في الحرب العالمية الثانية، ووقتها قابلت الرجل الذي ستنجب منه ابنتها وسيلقى هو مصيره في القتال وينال لقب بطل الاتحاد السوفيتي.
البناء السينمائي يسير في سلاسة من بداية الأحداث، ينتقل بنعومة ودقة شديدة محسوبة تماما، بين العام والخاص، بين المأساة العامة والمأساة الخاصة للسيدة ليوديا، مشاهد الجموع الثائرة واقتحام مقر الحزب، ثم تدخل القوات وإطلاق الرصاص، وشحن الجثث في شاحنات صغيرة في الظلام، وكيف تصطبغ الأرض بالدماء ويفشلون في إزالتها بالماء، فيأمر قائد المنطقة بإعادة رصفها بالأسفلت، كلها مناظر شديدة الصدق والقوة والتأثير.
دراما الغضب والعنف تتبدى في أسلوب شبه تسجيلي، لكن دون أن يبتعد كونتشالوفسكي لحظة واحدة، عن بطلته التي تظهر تقريبا في جميع لقطات الفيلم، يركز على وجهها، انفعالاتها، شعورها المتزايد بالوحدة، كيف تختفي فجأة من اجتماع رسمي كان يفترض أن تلقي كلمة فيه، لتنعزل في الحمام، تغلق بابه عليها وتنهار وهي ترتعد وتجد نفسها وهي الشيوعية المخلصة، ترسم علامة الصليب وتتضرع الى الله أن تكون ابنتها على قيد الحياة.
الصورة الصادمة، والتحول الدرامي التدرجي في شخصية ليوديا، يجعلها تصل إلى ذلك السؤال الوجودي: بم يمكن أن أؤمن إن لم أعد أؤمن بالشيوعية؟ إنها لحظة الضياع الكبرى في الوجود. فقد أصبحت العقيدة السياسية ديانة، يفقد المرء نفسه لو كفر بها ويجد نفسه وحيدا في العالم.
يستخدم مدير التصوير الأبيض والأسود ويصور بكاميرا السينما مقاس 35 مم، ويحرص على توفير النغمة الضوئية لأفلام الفترة والعصر، ويركز على اللقطات القريبة- كلوز أب، ويقطع المونتاج الدقيق بينها الى اللقطات العامة من بعيد، ويستخدم عمق المجال في الصورة، والتكوينات التي تجسد قسوة اللحظات، ويستند الفيلم من ناحية الأداء إلى أرقى مستويات التمثيل في العالم.. هذا الأداء الذي يشترك فيه جميع أفراد الطاقم، يرتفع بالفيلم الى مصاف التحف الفنية. وبطبيعة الحال يلعب أداء جوليا فيسوتسكايا دورا رئيسيا في توصيل تلك الشحنة العالية من المشاعر الى المتفرجين، من دون أن ينحرف الفيلم في اتجاه الميلودراما. فالمخرج الكبير يعرف متى ينتقل من مشهد إلى آخر، وبالتالي كيف يسيطر على أداء ممثليه.
“الرفاق الأعزاء” أحد الأفلام القليلة التي ستبقى في الذاكرة من دورة مهرجان فينيسيا 2020.