يوميات مهرجان فينيسيا
الوصول الى فينيسيا هذه المرة كان من القاهرة وهي المرة الأولى منذ أن بدأت أتردد على هذا المهرجان العريق قبل 25 عاما، فقد أعتدت دائما أن أطير من لندن الى المدينة العائمة مباشرة، وهي رحلة تستغرق ساعتين فقط أو أقل قليلا.
أما الرحلة من القاهرة الى فينيسيا فهي رحلة شاقة بكل معنى الكلمة، فهي أولا رحلة غير مباشرة، أي أنك يجب أن تمر أولا بالعاصمة روما وتنتظر في مطارها الدولي ما يرقب من ساعتين ونصف كما حدث معي، في ظل فوضى هائلة في هذا المطار الشاسع لا أرى لها سببا سوى أن اخواننا الايطاليين قريبون منا كثيرا في السلوكيات.
وثانيا: رحلة شركة الطيران الايطالية من القاهرة تقلع في موعد “غير إنساني” على الإطلاق فموعد الإقلاع في الثالثة و50 دقيقة صباحا، ولا أعرف لماذا؟ فهل هذا لمعاقبة المسافرين مثلا!
أما المفارقة الغريبة أنني انتظرت بالقرب من صالة الخروج المحددة بالرقم والاسم والرحلة (وكانت صالة المغادرة رقم 11) في مطار روما لكي أركب الطائرة المتجهة الى فينسيا، لكني كلما سألت الموظفة قالت انه يتعين علي الانتظار. ولما لم يبق سوى 20 دقيقة على موعد اقلاع الطائرة توجهت، أنا وغيري ممن كانوا ينتظرون، للسؤال مجددا فكانت الإجابة بكل بساطة وبلامبالاة تامة وبدون أدنى اعتذار: لقد اغيرت صالة الخروج وعليكم الآن العودة الى الصالة رقم 1!!
عدونا حتى وصلنا الى الصالة البعيدة ووجدنا الطائرة في الانتظار لحسن الحظ، وإن لم نجد أي نتفسير لما حدث على الاطلاق، فلم يتم الاعلان عن تغيير قاعة المغادرة ولا عن ضرورة الاسراع الى بوابة الخروج رقم كذا كما هو المعتاد.. ولولا الخدمات الهائلة المتوفر في المطار لكان يمكن اعتباره أقل مستوى من مطاراتنا التي نئن بالشكوى منها ومن أوضاعها!
المهم أن رحلتك لا تنتهي كما تتصور بالوصول الى مطار فيتعين عليك أن تستقل حافلة مائية الى جزيرة الليدو في رحلة تستغرق نحو خمسين دقيقة. لحسن الحظ الفندق الذي أقيم به يقع على مسافة قريبة من موقف الحافلات البحرية (لا أستطيع أن أصفها بالقوارب فهي أكبر كثير من قارب، كما أنها أصغر كثيرا من سفينة!).
مفاجأة سيئة
أجواء فينيسيا هذا العام حارة، شديدة الرطوبة، تقترب من احدى وثلاثين درجة مئوية مرشحة للارتفاع كما علمت.
الجزيرة الشهيرة التي تستضيف المهرجان تعج كعادتها في مثل هذا الوقت سنويا بآلاف الزوار والمصطافين والفضوليين والمتسكعين وبالطبع، ضيوف المهرجان والصحفيين وعددهم بالآلاف.
المفاجأة السيئة التي عرفتها بعد وصولي الى مقر المهرجان أن القصر الجديد للمهرجان بقاعاته الضخمة وامكانياته الحديثة الهائلة (وكان يتوقع أن يفتتح العام الجاري وان كان قد تأجل عامين أو ثلاثة) قد توقف العمل فيه، ومن المقرر أن يتوقف الى الأبد. والسبب أنهم اكتشفوا تصاعد كميات كبيرة ضارة من مادة الاسبوستوس التي تسبب بعض أمراض الجهاز التنفسي. وبالقاء نظرة على موقع البناء، وهو عبارة عن حفرة هائلة في الأرض تبلغ أكثر من ألفي متر مربع، يجد المرء نفسه أمام مجموعة من الأكياس البلاستيكية البيضاء التي تمنع تسرب المواد الضارة وقد تم لفها حول كل حزمة من التربة داخل موقع الحفر نفسه.. وانعكست أشعة الشمس الساطعة على هذه المساحات المصقولة فزادت من وهج الحرارة.. وكأننا أمام مجموعة من المقابر التاريخية تم الكشف عنها ولا أحد يعرف كيف سيردمونها بعد ذلك، وبعد كل ما أنفق من تكاليف في التصميم والحفر والبناء!
المهم أن صاحبنا ماريو باراتا رئيس بينالي فينيسيا للفنون راعي مهرجان السينما من ضمن أنشطة أخرى، صرح بأنهم تراجعوا عن خطتهم الأصلية في افتتاح منشآت جديدة للمهرجان واتجهوا بدلا من ذلك الى تطوير واحياء المنشآت القديمة القائمة بالفعل، بدعوى “الحفاظ على تاريخ المهرجان) وضرب مثالا باستعادة قاعة قصر المهرجان القديمة التي يعود تاريخ إنشاؤها الى عام 1937، الى الحالة التي كانت عليها عند افتتاحها.
جمهور المهرجان
المهم أن فيلم الافتتاح الذي يعرض رسميا في المساء عرض للصحفيين عرضا خاصا وحيدا في التاسعة صباح اليوم الأول، وهو يوم وصولي، ولأني وصلت بعد ذلك وكان يجب أن أخصل على قسط من الراحة بعد تلك الرحلة الشاقة، فقد أصبح يتعين مشاهدة الفيلم صبيحة اليوم التالي بعد الاصطفاف مع الجمهور الذي يتمتع بأولوية الدخول الى تلك الحفلة الصباحية العامة (التجارية). وهو ما قمت به بالفعل وشاهدت الفيلم، وإن كان يترتب على ذلك أن أظل أتردد على هذه القاعة المسماة بالا بينالي أي قصر البينالي، طيلة الأيام الأربعة القادمة لكي لا يفوتني شيء من أفلام المسابقة.
القصر الخيمة
الطريف طبعا أن “قصر البينالي” هذا ليس قصرا ولا هم يحزنون، بل أيضا خيمة كبيرة شبيهة بخيام السيرك، أقيمت في حديقة عامة من حدائق الليدو.. ويبدو أن الايطاليين مغرمون بهذا النوع من الخيام القوية عالية الأسقف، التي تبدة رخيصة التكاليف، وعملية جدا، وتتسع لعدد كبير من المشاهدين خاصة وأنها مزودة بمقاعد رخيصة. ولكني كنت دائما أتساءل: لماذا لم تستغل نفس هذه المساحة في بناء قاعة سينما حقيقية كما ينبغي بدلا من الحلم بمحاكاة مهرجان كان واقامة قصر منيف للسينما قرب القصر القديم!
وبمناسبة الخيام: أتذكر أنني كنت ضيفا على مهرجان القاهرة السينمائي عام 1986.. وقت أن كان سعد الدين وهبة رئيسا له، وكان يتصرف مثل شيخ قبيلة، فاذا جلست معه ودردشت قليلا دعاك لحضور المهرجان، واذا عدت فكتبت عن الجوانب السلبية في “مهرجانه” اعتبر أنك أسأت لكرم الضيافة، فحجب عنك الدعوات متصورا أنك سترجوه وتلح عليه وتقدم له فروض الطاعة (كما يفعل مئات الصحفيين الذين أعرف الكثيرين منهم ممن يتسولون الدعوات، ويهينون أنفسهم والمهنة التي يمارسونها بذلك التصرف المتدني، ولكنه هذا الوسط اللعين!).
سيرجيو ليوني
المهم أن سعد الدين وهبة كان أيضا مغرما باقامة عروض خاصة لضيوف المهرجان في خيمة السيرك القومي الموجودة في حي العجوزة بالقاهرة، وكان من بين ضيوف المهرجان في تلك السنة المخرج الايطالي (الكبير جدا- حجما ومقاما!) سيرجيو ليوني الذي أمتع الجماهير في العالم بأفلامه مثل “الطيب والشرس والقبيح” و”من أجل حفنة دولارات” و”مزيد من الدولارات” وغيرها. وأظن أن نفس هذه الأفلام التي أمتعت أبناء جيلي من “مجانين السينما في عصر السينما” مازالت تمتع الأجيال الجديدة من مدمني الأفلام سواء عبر الاسطوانات الرقمية أو الانترنت، بموسيقاها التي كتبها العبقري الايطالي انيو موريكوني.
قلق سيرجيو ليوني
كان ليوني يجلس أمامي لمشاهدة عرض الفرقة القومية للفنون الشعبية في خيمة السيرك القومي التي بداخلها منصة للعرض.
وقد أخذت الخيمة تهتز قليلا. ووجدت ليوني يتكلع الى أعلا في قلق شديد، يتفحص سقف الخيمة بدقة الخبير. وكانت تبدو في السقف علامات توحي بالقدم والتدهور. ورأيت نظرات القلق تتسع عند ليوني ثم فجأة وجدته ينهض ويرحل قبل انتهاء العرض. ولاشك أن الرجل تصاعدت في ذهنه ربما، فكرة أن الخيمة ربما تنهار فجأة فوق رؤوسنا. وعندها لن تنفع اعتذارات منظمي المهرجان بالكلمة الشهيرة التي اشتهرنا بها في العالم ويرددها علي الكثير ممن ألتقي بهم من الأجانب وهي كلمة (معلش)!
لكن للحق صمدت خيمة السيرك القومي دون كوارث تذكر حتى الآن. وأصبحت خيمة قصر البينالي في الليدو أمرا مؤلما كلما هطلت الأمطار فوق سقفها، لأنها تصنع مؤثرات صوتية اضافية تؤثر على استمتاعنا بالأفلام!
التطلع الى الجمهور
الملاحظ هنا أيضا أن مهرجان فينيسيا يتوسع في انفتاحه على الجمهور العام، فهو على العكس من مهرجان كان، يبيع تذاكر العروض بأعداد كبيرة هذا العان كما يخصص الكثير من الحفلات للعروض العامة في كل القاعات الرئيسية التي تعرض بها أفلام المهرجان. وربما يكون زيادة عدد اأفلام وتنوعها الكبير أيضا وراء الرغبة في تحويل المهرجان من مهرجان نخبوي لأفلام المؤلفين ولجمهور معزمه من “أهل الصنعة”، إلى مهرجان جماهيري يرضي كل الأذواق أيضا، كما يساهم في تغطية جانب من النفقات الكبيرة التي تتحملها الجهات المنظمة في ظل الأزمة الملية التي لاتزال تلقي بشبحها على أوروبا!
في إطار الرغبة في جذب الجمهور العريض يشهد المهرجان هذا العام وجود شخصية أخرى من تلك الشخصيات الخارقة المثيرة للجدل والجدال هي جميلة الجميلات أو هكذا كانت وكان يجدها البعض، المغنية “مادونا” نجمة الثمانينيات والتسعينيات في أغاني البوب. أما الآن فهي قد اصبحت مخرجة سينمائية أيضا، فهل هي أقل من جودي فوستر أو من جورج كلوني مثلا؟ (لكليهما فيلم في دورة العام الجاري) فبعد أن ظهرت ككممثلة في 22 فيلما فشل معظمها (أهمها وأنجحها “إيفيتا”-1997 اخراج آلان باركر- ترى أين هو الآن؟).
مادونا
مادونا حاضرة بفيلمها الجديد كمخرجة وهو فيلم “دبليو إي” WE وهما الحرفان الأولان من اسم واليس سمبسون، والملك ادوراد الذي أصر على الزواج منها رغم كونها أجنبية (أمريكية) مطلقة تكبره من العمر وتنازل بسبب ذلك عن العرض لشقيقه الملك جورج. وعن جورج الخامس رأينا فيلما عظيما مؤخرا هو “خطبة الملك”. أما فيلم مادونا فيطمح الى رواية قصة الحب الشهيرة التي دخلت التاريخ من خلال الربط بينها وبين قصة حب معاصرة تنتهي نهاية مأساوية.. ولكن هل تنجح مادونا- المخرجة هذه المرة بعد أن فشلم في تجربته الوحيدة السابقة في فيلم “قذارة وحكمة” Filth and Wisdom؟
هذا السؤال يمكن الاجابة عليه في رسالة قادمة أو مقال قادم.. عندما نتناول الفيلم نفسه بالتحليل. ولكن يكفي الآن القول إنه فيلم “طموح” أكثر مما كان متوقعا من ناحية الأسلوب!