يوميات كان الـ76 (9): “عن الأعشاب الجافة” تحفة نوري بيلج جيلان!

أمير العمري

بعد نحو عشر سنوات على فوز فيلمه “البيات الشتوي” Winter Sleep (2013) بـ”السعفة الذهبية” يعود المخرج التركي الكبير نوري بيلج جيلان إلى مسابقة مهرجان كان بفيلمه الجديد “عن الأعشاب الجافة”About Dry Grasses الذي لا يقل طولا من ناحية الزمن، عن أفلامه المعروفة السابقة (فهو يقع في 3 ساعات و16 دقيقة). فأفلامه من نوع خاص جدا، تفيض بالحوارات الذهنية والفلسفية، وتتوقف أمام “أفكار” من خلال البحث داخل “شخصيات” في سياق “المكان” ذي الطبيعة الخاصة، هنا يمكن القول إن أفلامه تتمحور باستمرار حول هذا الثلاثي الأساسي في أي فيلم من أفلامه: الشخصيات، الحوار، المكان.

المقصود هو أن “أفكار” الفيلم يتم التعبير عنها وتصلنا من خلال هذه المفردات الثلاثة، لكن يظل دور الصورة أساسيا: الطريقة الخاصة التي يتعامل بها جيلان مع الصورة: اللقطات الطويلة سواء بكاميرا متحركة حركة بطيئة للغاية، أو اللقطات الثابتة الطويلة، الولع الخاص بتصوير البيئة الصعبة: مناظر الثلوج المنتشرة التي تغطي الأرض تماما وتجعل من الخطورة السير فوقها (كانت الثلوج أساسية في “البيات الشتوي” و”شجرة الكمثرى البرية”)، والخطورة هنا تصطبغ بصبغة رمزية، كما أن لها طابعا جماليا وذهنيا فهي تكثف الشعور بالعزلة والضآلة، واللقطات العامة جدا من بعيد، أو wide long shot مع استخدام الشاشة العريضة، تساهم أيضا في زيادة الشعور بضآلة الإنسان أمام الطبيعة، ثم الاستخدام المكثف للقطات المتوسطة التي يحصر فيها شخصياته وهي تتحدث، وهو اختيار يخلق مسافة بين الصورة والمتفرج، يسمح له بالتأمل في مغزى الحوارات الذهنية المكثفة المستمرة التي تستغرق زمنا طويلا على الشاشة لكنها تكشف عما في داخل الشخصيات، من أفكار.

وكما هي العادة في أفلام نوري بيلج جيلان، لدينا هنا أيضا، في هذا الفيلم الجديد، شخصية رئيسية مليئة بالتناقضات، فيها من الرقة بقدر ما فيها من الخشونة، ومن السلبية، أو من النظرة “الكلبية” للعالم التي تحمل استهانة بالآخرين والتقليل من شأنهم أو حتى رفضا لهم، والمحاولة المستمرة لتبرير الذات من دون أن تمتلك هذه الشخصية رؤية بديلة، فهي شخصية مضطربة، محصورة داخل ذاتها المحملة بالأثقال.

الشخصية الرئيسية في فيلم “حول الأعشاب الجافة” مدرس يذهب للعمل كمدرس في شرق الأناضول، في بيئة ريفية جافة تماما، يصفها هو بأنها لا تعرف سوى فصلين فقط في السنة، الشتاء الذي تمتد فيه الثلوج لتغطي الأرض، والصيف الذي تعود فيه الأعشاب الصفراء إلى لونها البني وجفافها المرهق الأبدي. هذا المدرس هو “ساميت” (في الثلاثينات من عمره)، هو مدرس للفنون، يتعين عليه بموجب قانون التكليف الإجباري، قضاء 4 سنوات في التدريس لتلاميذ المرحلة الابتدائية في تلك المنطقة النائية. وهو الآن في منتصف السنة الأخيرة من تكليفه الاجباري، يتطلع شوقا للعودة إلى المدينة الكبيرة، إسطنبول التي أتى منها.

“ساميت يشعر بالضجر من البيئة ومن المكان ومن زملائه المدرسين الذين يراهم يوميا في المدرسة. إنه يذكرنا، على نحو ما، ببطل فيلم “البوسطجي” المصري للمخرج حسين كمال (عن قصة يحيى حقي)، في شعوره الحاد بالاغتراب عن المكان، ورفضه لمهنته، وتساؤله المستمر (ماذا أفعل في هذا العمل وفي هذا المكان).

إنه يقوم بتعليم التلاميذ الرسم، لكنه يفضل فتاة معينة هي “سيفين”- ابنة الثانية عشرة- الجميلة المتألقة المليئة بالحيوية والحياة، المتفجرة بالذكاء. وهو يعاملها معاملة خاصة، تذهب إليه في مكتبه أحيانا، يمنحها بعض الهدايا الصغيرة، يفضلها عن زملائها، وهي أيضا مغرمة به. لكن ذات يوم تعثر إحدى المعلمات في كراسة سيفين على رسالة غرامية من الواضح أنها موجهة لساميت، وتعطيها له. تذهب سفين إليه وهي تشعر بالحرج الشديد، تريد أن تسترد الرسالة، لكنه يزعم أنه مزقها وتخلص منها. أما هي، فتعرف أنه مازال يحتفظ بها، وأنه يكذب. فهو أيضا مراوغ ويخفي شعورا خاصا بالرغبة في الحصول على نوع خاص من التعويض” النفسي ولو عن طريق خطاب بريء من طفلة. لكنه يقول لها إنه تخلص منها لكي يحميها.

ساميت يتشارك في السكن مع زميل له هو “كينان” وهو أقدم منه في المدرسة، وأكثر وسامة ومرحا واتساقا مع المكان فهو ابن المنطقة. العلاقة بينهما تبدو في البداية جيدة، لكن ما سيحدث أن يستدعى الاثنان للتحقيق أمام مدير المنطقة التعليمية، بناء على شكوى من بعض التلميذات (لا تذكر الأسماء أبدا) يتهمن ساميت وكينان بارتكاب نوع من التحرش الجنسي (الملامسة). ويستنتج ساميت على الفور أن “سيفين” هي التي تقدمت بالشكوى لتحقيق انتقامها الخاص، ثم يبدأ في القاء اللوم على كينان ويعتبره المسؤول عن تلك “التجاوزات” كونه يتبسط كثيرا مع تلاميذه، إلا أن المدير يتستر على الأمر ويغلق ملف التحقيق اكتفاء بشهادة المدرسين الاثنين.

العلاقة بين ساميت وكينان تتعقد أكثر بعد أن يتعرف الاثنان على امرأة شابة جذابة تعمل معلمة في مدرسة أخرى في بلدة قريبة. وهذه هي “نوراي”، التي يغرم بهما الاثنان لكنها تبدو أكثر انجذابا إلى “كينان”، الأمر الذي يثير غيرة ساميت ويدفعه أكثر إلى استدعاء الجانب القاتم من شخصيته، فيتجنب اخبار كنعان بدعوة على العشاء توجهها نوراي وتخبره بها، ويذهب وحده إليها حيث يدور بينهما حوار كاشف.

المخرج مع فريق الفيلم في مهرجان كان

نوراي فقدت إحدى ساقيها في هجوم إرهابي. إنها مدرسة وناشطة ومثقفة يسارية، والمنطقة التي تدور فيها الأحداث، نعرف من البداية أنها مليئة أيضا بالصراع السياسي، فالأكراد ناشطون، والقمع الحكومي مستبد، والجماعات اليسارية تريد التغيير، ولكن بيلج جيلان يكتفي بالوقوف على تخوم السياسي، ليتجه أكثر نحو الفلسفي، مع لمس بعض الأفكار الدينية، فهو يطرح من خلال شخصية ساميت ونوراي فكرة المصير الإنساني: هل يختار الانسان مصيره أم أنه مكتوب عليه، وهل “يجب أن يكون الجميع أبطالا؟” كما يتساءل ساميت، أم أن كل شخص يمكن أن يكون بطلا في نطاقه الخاص، وهل يمتلك هو أي رؤية لدوره في المجتمع، وما هو الفن، وما دوره وعلاقته بالناس والحياة، هل هو مجرد “خدعة” كما يكشف لنا جيلان بالفعل عندما يجعل ساميت يغادر المنزل العتيق بأثاثه البديع الذي تقيم فيه “نوراي”، يخبرها أنه ذاهب إلى “الحمام” فيخرج خارج المنزل لنكتشف أنه خرج من الديكور ثم يعبر مكانا أشبه بموقف سيارات مغلق لا صلة له بالقرية ولا بالمنزل نفسه، فجيلان يريد أن يردنا إلى فكرة أننا نشاهد فيلماً مصنوعاً، وأن المهم، ليس الاندماج في الحدث، بل أن نتأمل في الشخصيات وفي الأفكار التي تتردد في الفيلم.

إن “عن الأعشاب الجافة” هو أساسا فيلم شخصيات، وكل عنصر من عناصره مسخر لتكثيف الشخصية الرئيسية في علاقتها مع باقي الشخصيات، وحوارات الفيلم كعادة أفلام جيلان، طويلة ومرهقة لكنها طبيعية تماما، ومثيرة للفكر، ومن دونها لا يمكن للفيلم أن يوجد، فهي تحمل الأفكار، وسينما بيلج جيلان هي سينما ذهنية، ولن يمكن للمتفرج المعتاد على مشاهدة الأفلام السهلة التي تروي قصصا بسيطة، أن يستمتع بها سوى بعد تدريب مرهق.

نوراي تبدو أكثر ذكاء من ساميت، هي تدخل معه فيما يشبه “المبارزة” الفكرية، تتوقف مثلا أمام ما يبديه من رغبة في العودة إلى إسطنبول لتسأله: انت تتحدث كثيرا عن رغبتك في العودة ولكن هل لديك أي خطة محددة لما ستفعله بعد انتقالك الى إسطنبول؟ وهل تعرف ماذا يمثل ذلك الانتقال، ما هو الفرق؟ أم أنها مجرد رغبة تنم عن السأم والتغيير من أجل التغيير تحت وهم أن المدينة الكبيرة أفضل من القرية الصغيرة؟ طبعا هذا هو المعنى المستخلص مما تقوله وليس كلامها بصورة حرفية، فاستخلاص المعاني هو المقصود من حوارات الفيلم عموما.

لقد فقدت نوراي ساقها وأصبحت تعتمد على ساق صناعية، وهي تنزع هذه الساق وربما تحت تأثير حرارة الحوار والخمر والجو الخاص، تريد أن تختبر رغبة “ساميت” في إقامة علاقة جسدية معها، فهي أيضا تريد أن تشعر بأنها لاتزال امرأة يمكنها أن تجذب الرجال، وهو ما يمنحها إياه ساميت في مشهد اللقاء الجنسي في الفراش بينهما. لكننا سنلمح أيضا فيما بعد، كيف أنه يستمتع بتعذيب صديقه “كينان” الذي يغضب بالطبع عندما يعلم أن ساميت ذهب وحده ويأخذ في التساؤل الذكوري القلق المعتاد عما إذا كان قد نام معها، خصوصا وقد رأى أنه عاد إلى المسكن في الصباح!

شخصيات قلقة، معذبة، جزء منها ضحية الواقع، وجزء آخر ضحية نفسه أو تقاعسه الذاتي عن الفعل، عن الاختيار. وهنا تفرض تركيا بمشاكلها وتناقضاتها نفسها على الحدث وعلى تلك الشخصيات القلقة المضطربة، ولو على صعيد الخلفية المثقلة بالهموم. فهذا ليس من الممكن أن يكون مجتمعا آمنا، مستقرا، ينتج الأمل. وفي إحدى حوارات الفيلم تتردد عبارة “التعب من الأمل”، أي الملل من ذلك الانتظار الطويل المرهق كثيرا لرؤية شيء أفضل يحدث، ولكن جيلان يؤكد لنا أيضا، أن انتظار الأمل خير من غياب الأمل.

حصلت “نيرف ديزدار” على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان عن أدائها البديع الواثق المعبر الذي يفيض بالشجن والصدق الانساني في دور “نوراي”. وربما كان يجب أن تشاركها هذه الجائزة، الممثلة الصغيرة المتألقة “بادجي اتشيه” التي قامت بدور “سيفين”، فهى موهبة سيكون لها دون شك، مستقبل مشرق في السينما التركية، وقد عبرت بتلقائية كبيرة، وتماهت تماما مع الشخصية، ونجحت في أن تضفي بابتسامتها التي تظهر ميلا للمعابثة والمشاغبة الطفولية اللذيذة، عذوبة على المشاهد التي ظهرت فيها، ولكنها عندما غضبت، أظهرت ميلا للشدة والكيد والانتقام.

ومن جهة أخرى يجب أن نمنح الممثل “دنيز شيليلوغلو” ما يستحقه من تقدير عن أداء دور “ساميت” المركب، الذي يتقلب بين الوداعة والغضب، الرقة والرفض، يعامل الأطفال بكل ود لكنه يتحول في لحظة ليصب غضبه عليهم ويعاقب بمنتهى الشدة عندما يشعر أن سفين تسببت له في تلك المشكلة، لكنه أيضا يملك الدفاع عن أفكاره، ولابد أنه يعود بعد ذلك لمراجعتها، فقد تردع بعضا من صلفه وغروره وشعوره الراسخ بالاستعلاء على الآخرين. وأمامه يبدو أداء الممثل “مصعب إكيتشي” في دور “كينان” أداء بسيطا، غير متكلف، يفيض بالحيوية والحرارة التي تتماثل مع شخصيته.

“عن الحشائش الجافة” تحفة أخرى جديدة من التحف السينمائية التي يقدمها لنا نوري بيلج جيلان، الذي تظل أفلامه أفضل ما يأتينا من تركيا في الوقت الحالي: شجاعة في الفكر، وأصالة في اللغة والسرد، ومتعة في المتابعة والتعلم.

Top of Form

Visited 19 times, 1 visit(s) today