يوميات فينيسيا- 9: الأمر فعلا يدعو للقلق!
أمير العمري
من فضائل مهرجان فينيسيا السينمائي أنه يرحب بالتجارب الجديدة للمخرجين، بعرض أفلامهم الأولى والثانية. هذا العام شهد المهرجان مثلا، عرض أفلام من إخراج مخرجين عرب قدموا تجاربهم الأولى والثانية في مجال الأفلام الروائية الطويلة، أذكر من بينهم الفيلم الجزائري البديع “الملكة الأخيرة” (سيكون هناك مقال خاص عن هذا الفيلم)، وهو أول الأفلام الروائية الطويلة لمخرجته عديلة بنديمراد وزميلها المخرج داميان أونوري، وفيلم “ملكات” أول أفلام المخرجة المغربية الشابة ياسمين بنكيران، و”نزوح” ثاني أفلام السورية سؤدد كعدان، وهو أقل كثيرا في مستواه من فيلمها الأول، و”حديد، نحاس، بطاريات” وهو ثاني أفلام المخرج اللبناني بسام شرف. وجاء عرض هذه الأفلام داخل مسابقة “آفاق” و”أسبوع النقاد”، و”أيام فينيسيا”.
وقد شاهدت هذه الأفلام وسأكتب عنها فيما بعد في مكان آخر، وإن كان الفيلم الوحيد الذي فاتني أن اشاهده هو الفيلم العراقي “جنائن معلقة” أول أفلام المخرج أحمد ياسين. ولكني آمل أن اشاهده في مهرجان آخر قريبا. فهذه الأفلام لا نراها سوى من خلال المهرجانات السينمائية.
ومن الأفلام الأولى لمخرجيها، عرض خارج المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة الفيلم الروائي الطويل الثاني الذي تخرجه الممثلة الأمريكية أوليفيا وايلد وعنوانه “لا تقلقي ياحبيبتي”Don’t Worry Darling من بطولة الممثلة الانجليزية الصاعدة بقوة، “فلورنس بيو” أمام المغني والممثل الإنجليزي هاري ستايلز.
تحاول أوليفيا وايلد ان تجمع في فيلمها، بين الجدية والتجارية، بين تقديم عمل جاد له مغزى سياسي معاصر، وبين عمل بوليسي ودراما نفسية مثيرة، لا مانع من حشوه ببعض مشاهد الجنس الصريح، كجزء من المشهيات التجارية. ولكن ليست هذه هي المشكلة، فالمشكلة أنها تعتمد على سيناريو ضعيف، يكرر الفكرة باستمرار، ويجعل الفيلم محاكاة لما سبق أن شاهدناه في أفلام قديمة تلعب على فكرة البارانويا التي تنتج عن الشعور بالحصار، بالوقوع ضحية لمؤامرة شريرة يشترك فيها الجميع، بينما تبدو الأمور من السطح براقة لامعة.
يفترض أن الأحداث تجري في الخمسينيات. جاك (هاري ستايلز) مهندس الالكترونيات، وزوجته الشابة الجميلة “أليس” (فلورنس بيو) يذهبان للإقامة في مكان بعيد داخل صحراء كاليفورنيا، هو أقرب إلى المنتجعات الراقية، جنة الله على الأرض، حيث كل شيء متاح: الخضرة والماء والسيارات الفارهة الحديثة والبيوت الراقية. هناك مجتمع كامل يعيش هناك، من المهندسين الذين يعملون في مشروع كبير في تلك القرية النموذجية التي أطلق عليها مؤسسها ومديرها الشاب اللامع الذكي “فرانك” (كريس باين) الذي يرحب مع زوجته الجميلة الصينية الأصل “شيللي” (جيما اشلي) بالقادمين الجدد.
هذه القرية يطلق عليها مؤسسها “victory” أي “النصر”. والمهندسون الشباب يتوجهون كل صباح للعمل في مشروع سري محظور عليهم أن يتفوهوا بكلمة واحدة لزوجاتهم اللاتي ينتظرن في البيت.
في البداية، تشعر أليس بالسعادة، فهناك طعام جيد، أدوات ترفيه عديدة متوفرة، حياة رائعة داخل ذلك المنزل الحديث الذي تتوفر فيه كل عناصر الرفاهية، حفلات راقصة جماعية، ولائم عشاء يغشاها الجميع ومن بينهم السيدة الأنيقة “باني” الجذابة، التي تقوم بدورها لا أقل من المخرجة “أوليفيا وايلد” نفسها.
أليس تعد الطعام الجيد لزوجها كل مساء، وهو يقبل، لا على التهام الطعام بقدر ما يقبل عل ممارسة الجنس معها بينما تستقبله هي بكل عنفوان الرغبة، سواء في الفراش أو خارج الفراش، على مائدة الطعام حيث تقلب الأطباق لتتحطم على الأرض مع شعورها بالنشوة.
هذا كله تمهيد لما سيحدث عندما تخرج أليس ذات يوم، تريد استكشاف المكان، فتقترب مما لا يسمح بالاقتراب منه، لتلمح احدى سيدات هذه القرية، سيدة سوداء زوجة أحد المهندسين العاملين، هي “مرجريت” (كيكي لاين) التي تنذرها بأن هناك أمرا فظيعا يجري في هذا المكان، وأن الجميع يعلم ويتستر. ويأتي الحراس الأشداء يقبضون على مرجريت ويذهبون بها بعيدا. تحاول أليس أن تعرف لكن جاك يهديء من روعها (لا تقلقي يا حبيبتي”، ولكن شعورها بالرعب يزداد بعد أن ترى كيف تلقي مرجريت بنفسها بعد ذلك، من أعلى بناية ثم يأخذون جسدها ويسحبونه بعيدا. لقد قتلت نفسها. هناك إذن شيء رهيب كامن في هذا المكان. لكن لا أحد يريد أن يعترف بحقيقة ما رأته. حتى جاك يوهمها بأن مرجريت لم تنتحر، وان كلها خيالات ورؤى.
من هنا تبدأ الرحلة الغامضة من أجل معرفة الحقيقة. هل تصنع الحكومة أسلحة سرية مدمرة؟ ربما. هل يتعرض العاملون في المشروع الكبير لأشعة مدمرة؟ هذا محتمل. هل هناك مخاطر على العالم من هذا المشروع السري؟
السيناريو لا يكشف عن طبيعة الخطر لكنه يكشف عن عقدة الفيلم نفسه بعد أقل من نصف ساعة من زمنه (يقع الفيلم في ساعتين ودقيقتين)، ثم يظل يدور حول الفكرة نفسها، مع تكرار التساؤلات والفزع والرفض والرغبة في التمرد، ثم ظهور الوجه الآخر (الشرير) لمدير القرية وصاحب المشروع “فرانك”، الذي يتغير من البشاشة والرقة إلى العنف. لكن أليس أيضا تتعاطى عقاقير مهدئة، لكنها تجعلها تتخيل الكثير من الأشياء، وغالبا هم الذين دسوا لها هذه العقاقير، لكي يبدو الأمر كما لو كانت هلوسات، لكنها تصر على أنها رأت فعلا ما حدث، فيتهمونها بالجنون، ويجعلونها تخضع للعلاج بالصدمات على غرار جاك نيكلسون في “طار فوق عش الواق واق”.
من الواضح أن الفيلم يشير إلى ما هو معروف من إقامة الحكومة الأمريكية قاعدة سرية في صحراء نيفادا لتصنيع القنابل النووية، وهو ما يشير إليه الفيلم عندما يجعل الموجودين يشعرون بهزات أرضية بين وقت وآخر لكنهم يتجاهلونها. فالرعب يسيطر على الجميع، ومن يجرؤ على الحديث علانية أو الإعراب عن تشككه فيما يجري، يتهم بالجنون، أو يتم تصفيته أو اخفاؤه، ويخشى الرجال فقدان وظائفهم التي تدر عليهم الكثير من المال، كما تخشى الزوجات التضحية بحياة الرفاهية التي يعيشونها.
يريد الفيلم ان يوحي برجعية الخطاب، أي كيف دفع بالزوجات إلى الانزواء داخل المنازل، والاكتفاء بإعداد الطعام لأزواجهن وتنظيف المنازل، والاسترخاء في الشمس بجوار حمام السباحة، وانتظار أزواجهن بفارغ الصبر للمضاجعة. بينما نعرف من خلال “فلاش باك” أن أليس كانت في السابق، طبيبة تعمل في إحدى المستشفيات قبل أن تتزوج جاك.
كل هذا جميل ومصور جيدا جدا، مع صورة لامعة مصقولة، وألوان زاهية، وسماء صافية، وشمس ساطعة. ولكن ما يأتي بعد ذلك يفسد، ليس فقط تلك الصورة، بل الفيلم نفسه. فالحبكة بتفاصيلها مألوفة كثيرا وسبق أن رأينا تفاصيل مماثلة في كثير من الأفلام الأخرى، كما يتكرر كثيرا الخطاب السطحي لمدير المشروع “فرانك” الذي يردد على مسامع الجميع أشياء ساذجة مثل “نحن هنا نساهم في صنع حضارة جديدة للإنسان.. تاريخ جديد وعالم جديد، نصنع المستقبل.. وانتم جميعا جزء من هذا المشروع العظيم، ونحن نوفر لكم هنا حياة جديدة نوفرها لكم.. وكم أنتم سعداء الحظ”.
والفكرة تتكرر كثيرا، وليس فقط الخطابات المباشرة، أن وراء السطح الخارجي للأشياء، هناك شيئا بشعا يجري تحت الأرض ويجب كشفه، أو على الاقل مغادرة المكان لعدم التورط في المشروع، أي غالبا، بدافع “أخلاقي” فقط. أو أن هذا ما تراه وتعبر عنه أليس بينما يرفضه زوجها بشدة لأنه يعرف نتيجة التضحية بما يحققه من مكاسب من عمله. ولأن التواءات الحبكة لا تضيف جديدا ولا تشبع نهمنا لمعرفة تفاصيل الموضوع، يظل الفيلم يراوح مكانه، ويفقد جاذبيته، ويفقدنا القدرة على المتابعة باهتمام وجدية.
قد تكون فلورانس بيو اجتهدت كثيرا لكي تجعل شخصية “أليس” أكثر عمقا وقربا منا، لكنها عجزت عن التغلب على سطحية الشخصية ودورانها حول نفسها داخل حلقة مفرغة لا تؤدي إلى شيء.
أما ستايلز، ففشل في تقمص دور المهندس الأمريكي الشاب، لا بسبب تشتته في نطق اللهجة الأمريكية كما رأى البعض، بل بسبب عدم قدرته على التعامل مع الشخصية بجدية، فهو “يمثل” لكنه لا يعيش داخل جلد الشخصية التي يؤديها. ولذا بدت انفعالاته فوق الحد المعقول والمقبول.
أما كريس باين فاكتفى بتكرار نفسه، مع توجيه نظرات خبيثة خصوصا في مشهد يتسلل خلاله الى بيت الزوجين (أليس وجاك) ليتلصص عليها وهي تمارس الجنس مع زوجها، دون أن يترتب على هذا التلصص الذي يظهر اهتمامه الخاص بها كامرأة، أي شيء فيما بعد.
أوليفيا وايلد قد تكون ممثلة جيدة، إلا أنها هنا مجرد روبوت لامرأة جميلة، زوجة حامل، تخفي وتتستر، إلى أن تعترف لأليس بمعرفتها بما يدور وتنصحها بالمغادرة، دون أن تقدر هي على اتخاذ موقف مماثل. أما كمخرجة فيجب أن تعرف كيف تهتم أولا وأخيرا، بالسيناريو، ببناء الشخصيات، والابتعاد عن النمطية، فالصورة الجميلة لا تكفي!