يوميات فينيسيا- 7: ويسترن وسياسة وعنصرية عادية
أمير العمري
وصلنا الآن إلى نهاية اليوم السادس من أيام المهرجان، والحلقة السابعة من يومياتي التي بدأتها من يوم ما قبل الافتتاح، حينما تناولت العرض الرائع للفيلم الصامت “ستيلا دالاس” بمصاحبة أوركسترا مع العزف الحي المباشر داخل قاعة العرض.
شاهدت اليوم 4 أفلام، بدأت في الثامنة والنصف صباحا بفيلم الويسترن الأمريكي الجديد “ميت من أجل دولار” Dead for a Dollar للمخرج الكبير وولتر هيل الذي بلغ الثمانين من عمره. والفيلم معروض في فينيسيا خارج المسابقة في إطار تكريم هذا المخرج المرموق علما بأنه فيلمه الأول منذ 6 سنوات.
الفيلم الثاني هو “سيد النمل” للمخرج الإيطالي الكبير جياني إيميليو، والثالث في المساء هو “سان أومير” للمخرجة الفرنسية- السنغالية أليس ديوب، وهو فيلمها الروائي الطويل الأول بعد 7 من الأفلام التسجيلية، وأخيرا الفيلم الإيراني “الحرب العالمية الثالثة” وهو معروض ضمن قسم “أوريزونتي” أو “آفاق”، للمخرج الإيراني هومان سيدي.
فيلم “ميتٌ من أجل دولار” عمل ممتع، خلاب من أفلام الويسترن الجديد الذي يقلب صورة الويسترن التقليدي القديم إلى حد كبير. فمن ضمن شخصياته الرئيسية اثنان من الأمريكيين السود، وثلاثة من المكسيكيين، وكلهم لا يقومون بأدوار شريرة باستثناء مكسيكي واحد فقط، كما أنه لا يمتليء بالمبارزات بالرصاص وإن كان ينتهي في المشهد الأخير بالمعركة التي يموت فيها الأشرار وينتصر أهل الخير، وهي المعركة التي لا مفر منها والتي ينتظرها الجمهور عادة.
الفيلم يناقش فكرة الاختيار الأخلاقي: هل يغلب الإنسان مصلحته على مبادئه وقيمه الإنسانية، أم يمكن أن يأتي وقت يحتم عليه أن يقف بجوار ما يثبت له أنه الحق والخير في مواجهة الشر. والفكرة الأخرى التي يدور حولها الفيلم هي فكرة تغيير الخيارات، وتبادل الأدوار.
لدينا رجل يدعى “ماكس بورلوند” يقوم بدره الممثل النمساوي كريستوف والتز الذي سبق أن تألق في فيلمي تاريانتيو “أوغاد مجهولون” و”جانجو طليقا”. وهو يقوم هنا بدور مماثل لدوره في “جانجو” وهو دور رجل من متعقبي المجرمين للقبض عليهم وتسليمهم مقابل المال، أي دور صياد مجرمين. يستأجره رجل أعمال صاحب نفوذ كبير، لاستعادة زوجته التي يخبره أن زنجيا اختطفها وطالب بفدية قيمتها 10 آلاف دولار مقابل إطلاق سراحها. وفي الوقت نفسه، يطلق سراح مقامر محترف ولص بنوك من السجن هو “جو كريبنز” الذي يقوم بدوره الممثل الكبير وليم دافو. وكان “بورلوند” هو الذي تسبب في سجن “جو”، لذلك يخرج جو وفي نيته تعقب بورلوند والانتقام منه.
سيتضح فيما بعد أن الزوجة المختطفة لم تُىختطف ولكنها فرت بإرادتها مع الشاب الأسود وهو عسكري في الجيش الأمريكي، وأنهما طلبا المال حتى يستخدماه في العبور الى المكسيك ثم الذهاب إلى كوبا، أي انهما ينشدان الحب والحرية، وأن زوج المرأة البيضاء صاحب النفوذ القوي، يريد قتلها وعشيقها بعد أن تسببت في تلطيخ سمعته كما يقول، وفي الوقت نفسه يصحب بولوند في مهمته، عسكري أسود آخر من الجيش للمساعدة في القبض على العسكري الفار واعادته لكي يخضع لمحاكمة عسكرية بسبب تمرده، لكنه بالطبع سيتعاطف معه كونه يعرف أبعاد مشكلته الحقيقية فقد كان صديقا له.
زوج المرأة البيضاء راشيل، يتحالف في أعماله القذرة مع زعيم عصابة مكسيكي يدعى “تيبيريو” ـ الذي يستأجر “جو “للبحث عن ماكس بورلوند وقتله. ولكن جو سيكتشف أن من استأجره وغد يتنصل من وعوده، ويكتشف ماكس أن زوج راشيل وغد آخر كان يضرب ويعذب زوجته ويسيء معاملتها، كما أنه لا يلتزم بالوفاء بدفع 2000 دولار له مقابل إتمام مهمته. تتغير الولاءات وتتقاطع الطرق، وتختلف المواقف.
الأحداث تقع في عام 1897 قرب الحدود المكسيكية، داخل وخارج المكسيك. وكل عناصر الصورة في أفلام الويسترن حاضرة هنا: موسيقى موحية تشبه موسيقى إنيو موريكوني على الأقل في المدخل الأولي للفيلم، الأشرار والأخيار، الصالون، المسدسات والخيول والمطاردات وأجواء الصحراء الممتدة القاحلة والمناظر الطبيعية المألوفة في هذا النوع من الأفلام، وطلقات المسدسات الأسرع من غيرها. ومع ذلك، ليس من الممكن أن تشعر بأنك فعلا أمام أحد أفلام الويسترن، فالمعالجة الهادئة الرصينة تجعل الفيلم أكثر عقلانية، وأقل عنفا ونمطية. وبالطبع لا حاجة بنا إلى القول إن خلق الأجواء والتمهيد للحدث، مع ضبط الإيقاع وحركة الممثلين، من أهم ما يميز سينما وولتر هيل، يدعمه أداء بديع من جانب طاقم الممثلين جميعا.
يروي فيلم “سيد النمل” Lord of the Ants قصة في سياق شبه تسجيلي (دراما تسجيلية) عن شخصية حقيقية لكاتب وشاعر إيطالي مرموق كان مثليا وتعرض للمحاكمة في الستينيات، بسبب علاقته بشاب قيل إنه كان يستغله جنسيا بينما أصر الشاب على أنه ارتبط به عن رغبة ويقين ودافع ذاتي، وان الكاتب الشاعر لم يفرض عليه شيئا. وقد اعتقل الشاعر الفنان بعد اقامة الدعوة عليه من جانب أسرة الشاب الذي ارتبط به، ومعظم الفيلم يدور داخل قاعة المحكمة، مع الاستماع للمدعين والقضاة وصدور أحكام بالسجن خمس سنوات على الشاعر لمجرد أنه استجاب لمشاعره الحقيقية التي كانت مجرمة طبقا لقانون يعود الى الفترة الفاشية في إيطاليا، وهو ما تم التخلص منه حاليا.
جياني إيليميو يسير على الكتاب كما يقال- في إخراج مشاهد هذا الفيلم الذي يعتبر مرافعة سينمائية من أجل الحرية الشخصية التي تحققت بالفعل بل وتجاوزت كثيرا ما يطالب به الفيلم. ولذا ليست هناك أهمية خاصة لمثل هذا الفيلم، سوى أهمية تاريخية تهم بعض قوى اليسار الإيطالي التي تعاطفت ووقفت بجوار هذا الرجل في تلك الفترة رغم الموقف الرسمي للحزب الشيوعي الذي أراد أن ينأى بنفسه عن تأييده حتى لا يفقد شعبيته. ومرة أخرى يظل الحوار الكثيف الكثير يهيمن على الفيلم ويشرح كل شيء ويقول ويكشف كل شيء. ولا توجد لمسات سينمائية متميزة من حيث الصورة في هذا الفيلم الرتيب البطيء.
المرافعة داخل قاعة محكمة، والحوار الذي لا يتوقف، كان حاضرا أيضا بل وأساس أفلام أخرى في المهرجان، احتلت مساحة كبيرة منها كما في فيلم “تار” tar الذي قامت ببطولته كيت بلانشيت وأدت أداء مشهودا كعادتها، ولكن أهم هذه الأفلام هو الفرنسي “سان أومير” Saint Omer الذي يدور في معظمه داخل قاعة محكمة ولا يتوقف الحوار فيه ولو لثانية واحدة، ويبدو مثل المقال السينمائي المباشر الموجه في الدفاع عن امرأة مهاجرة من افريقيا إلى باريس، قتلت ابنتها بإغراقها في البحر، والدلائل كلها واضحة على جريمتها ومع ذلك فوراء تلك الجريمة الكثير من الأسباب التي يجب شرحها عبر ساعتين من الجمود السينمائي. لكن التمثيل مؤثر، والموضوع يثير مشاعر الليبراليين الغربيين المدافعين عن حقوق الأقليات المهاجرة عموما، لذلك وجد صدى كبيرا لدى الجمهور. وإن لم أعتبره عملا كبيرا بأي مقياس.
يظل الفيلم الإيراني “الحرب العالمية الثالثة” وهو عمل كوميدي طريف يسخر من كثير من الأمور داخل تركيبة المجتمع الإيراني، وهو يقتضي وقفة خاصة.