يوميات فينيسيا- 5: يوم الميلودرامات العائلية والبابا
أمير العمري
قررت أن أشاهد أكبر عدد من الأفلام في هذه الدورة، وأن أكتفي بتدوين ملاحظات وتأجيل الكتابة بعض الوقت. ومن حسن الحظ أنني لم أكن مضطرا لأن ألهث وراء الكتابة اليومية. بعض الأفلام لا يصح أن تكتب عنها مباشرة في نفس يوم مشاهدتك لها، لأنها تقتضي بعض التأمل والتفكير والهضم والاستيعاب ثم إعادة استدعاء ما فيها من معان ودلالات. لذا يجب أن تتاح فرصة للتفكير. والتفكير وسط زحام الأفلام مرهق ومربك. البعض يكتفي بمشاهدة فيلم أو فيلمين على الأكثر لكني أشاهد أربعة أفلام يوميا وأحيانا خمسة، وهو ما لم أفعله منذ سنوات. (لقد هرمنا)!
اليوم الخامس من أيام المهرجان هو الرابع من سبتمبر. لم أكن أبدا في أي وقت، مهتما بمتابعة أو بحضور أي عرض من عروض ما يسمى بأفلام الـ VR أو virtual reality. لم أفهم منطقها ولم أتشوق لمعرفة كيف تعمل وما المتعة التي تنتج عنها أصلا. مازلت أفضل الفيلم الحقيقي الذي نعرفه منذ أو ولدنا ونشأنا، وهو الفيلم المصور بكاميرا سينمائية ولكن لا مانع أن يكون بكاميرا رقمية عالية النقاء في الصورة بعد التقدم الكبير الذي حدث خلال السنوات الأخيرة في كاميرات الفيديو الرقمية.
ذات مرة في مهرجان روتردام الدولي دعيت لحضور عرض من هذا النوع من أفلام الـ VR لمخرج تايلاندي شهير لا يمكنني أبدا ان احفظ اسمه رغم أنه معروف وسبق أن نال السعفة الذهبية عن فيلم لم يعجبني أصلا ووجدته يدعو للنعاس، لكنه عاد في تلك المرة ومعه فيلم مطلوب منك فعلا أن تشاهده وأنت تتمدد على ما يشبه السرير او الأريكة، وأن تغمض عينيك وتتخيل الفيلم الذي يعرض أمامك أو تشاهده وانت نصف نائم، أي أنك في الحقيقة تشاهد الفيلم وانت شبه نائم أو منوم، وقيل إن الفيلم نفسه مصنوع لكي يمنحك هذا الشعور بأنك بين الحلم واليقظة. وكانوا سيأخذوننا بحافلة إلى الجهة الأخرى من الماء، بعيدا عن وسط مدينة روتردام لكي نشاهد الفيلم ثم يعيدوننا. وطبعا درجة الحرارة في روتردام كان تصل الى درجة التجمد وما بعدها لأن المهرجان يقام في يناير.
لم اذهب طبعا وأرفض مثل هذه البدع التي تشوه الفن السينمائي وتحط من شأنه ولا أعرف لها هدفا. لكن مهرجان فينيسيا يتوسع هذا العام في عرض أفلام الواقع الافتراضي VR، يأخذونك في قارب من قوارب فينسيا الشهيرة (الأليجونا) في موعد محدد، إلى مكان محدد ليس في جزيرة الليدو حيث يقام المهرجان، بل في جزيرة فينيسيا السياحية (سان ماكو واخواته) وعليك ان تحجز تذكرتك مقدما بالطبع. اعتبرت مثل هذه البدع إضاعة للوقت والجهد كما انها ستفقدني أفلاما يفترض أنها مهمة لأنها في المسابقة الرسمية، علما بأن اللهاث وراء أفلام المسابقة أكثر حدة هذا العام بسبب كثرتها (23 فيلما).
اليوم لدي 4 أفلام أخرى من أفلام المسابقة، منها فيلم “الرحلة” In Viaggio للمخرج الإيطالي جيانفرانكو روسي الذي سبق أن فاز فيلمه التسجيلي البديع “نار في البحر” (2016) بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين. أما “الرحلة” فهو فيلم تسجيلي آخر ربما يثير اهتمام العالم الكاثوليكي أو الكاثوليكين المؤمنين بعبقرية بابا الفاتيكان ونبوته ولمساته الإنسانية وهي كثيرة في الحقيقة. فالفيلم يتابع رحلات البابا فرانسيس المتعددة من كوبا الى العراق، ومن لبنان إلى البرازيل، ومن وسط افريقيا إلى تركيا، ومن الأرجنتين إلى كوريا الجنوبية ثم على إسرائيل والأراضي الفلسطينية.. وكثير من البلدان الأخرى، ويصور كيف استقبل البابا وما الذي قاله وكيف أبدى تضامنه مع البؤساء والمشردين واللاجئين.
إنه احتفاء سينمائي بشخصية لها قدسيتها، ولكني أعتبره أساسا، فيلما سياسيا، فالبابا يطرق أبواب السياسة بكل قوة، ويتخذ مواقف سياسية مغطاة بغطاء ديني، وهو أمر جيد كونه ينتصر دائما لقيم الخير والحق والجمال. لكن هذا الفيلم الذي يعتمد أساسا، على مواد مصورة “من الأرشيف”، ليس فيه إبداع كثير، وكان يمكن أن يمتد هذا الفيلم إلى ما لا نهاية، لكن جيانفرانكو روسي أبقاه في إطار زمني معقول (80 دقيقة) مع تعليق صوتي تقليدي، وصور مدهشة مثيرة توضع في سياق سينمائي جذاب وإيقاع متدفق سريع.
شخصيا لم أجد الفيلم الياباني “حياة الحب” Love Life (من الإنتاج المشترك مع فرنسا) للمخرج كوجي فوكادا، عملا مثيرا للاهتمام. فهو يروي قصة تقليدية في سياق تقليدي حد الملل.. ميلودراما عائلية، عن امرأة تعيش مع زوجها (الثاني) وابنها من الزواج الأول (6 سنوات) في مدينة جنوبية باليابان، في الشقة المجاورة يقيم والدها. ويقع حادث مأساوي، عندما يغرق الابن في البانيو ويموت، فيعود أبوه أي الزوج السابق وهو أصم، إلى الواجهة ويتداخل في حياة المرأة وتتدهور بالتالي علاقتها بزوجها الحالي، لنصل إلى نهاية أخلاقية وعظية سبق لنا أن رأينا مثلها في أفلام عتيقة.
حقيقية لم افهم قط لماذا أتى مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، وهو رجل يفهم جيدا في السينما الحديثة، بمثل هذا الفيلم العتيق وأدخله المسابقة. هذا يحدث عادة لسبب واحد هو حضور فيلم من السينما اليابانية بأي شكل والسلام، ولنا في أفلام المخرجة اليابانية ناوومي كواسي، سابقة بل سوابق كثيرة. فأي فيلم تصنعه هذه المخرجة المتوسطة المستوى، يجد طريقه عادة على المهرجانات الكبرى، خصوصا مهرجان كان، بسبب ولع فرنسي خاص بتبني هذه المخرجة وإنتاج الأفلام لها بمال ماما فرنسا!
كان أول أفلام اليوم الذي شاهدته في الفترة الصباحية هو فيلم “أطفال الآخرين” Les Enfants des autres للمخرجة ربيكا زيوتوسكي، وبطولة الممثلة الجميلة الرائعة “فرجيني إيفرا” التي رشحها كثيرون لنيل جائزة أفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم. والحقيقة انها تحمل الفيلم بأسره على كتفيها، فهي حاضرة في كل لقطة وكل مشهد، وتحرص المخرجة على حصرها كثيرا في لقطات قريبة جدا أو كبيرة جدا big close ups لرصد تعبيرات وجهها التي تتغير وتتباين من لحظة لأخرى. أمامها الممثل من أصل مغربي “رشدي زيم” (أرجو أن أكون قد كتبت اسمه على نحو صحيح) وهو ممثل ومخرج أيضا وله فيلم آخر في المسابقة كمخرج، هو فيلم “روابطنا” Our Ties.
أما “أطفال الآخرين” فهو عن علاقة حب قوية تربط بين علي (العربي المسلم) وهو مطلق ولديه طفلة جميلة هي “ليلى”، وبين المرأة اليهودية الجميلة “راشيل”. ومع توطد العلاقة تنتقل راشيل للإقامة مع علي الذي يعمل في تصميم السيارات لحساب شركة ما، بينما تعمل راشيل معلمة في مدرسة ثانوية. لكن “علي” حاصل على حق حضانة ابنته، وبالتالي يجب أن تقيم ليلى مع أبيها وحبيبته، ولكنها تبدي نفورا من وجود راشيل وتطالب بحضور أمها، وتتساءل لماذا لا تعيش أمها مع والدها.. ولكن بمرور الوقت تتقارب ليلى من راشيل ولكن ليس الى حد نسيان أمها “أليس”. وأما “راشيل” وهي في الأربعين من عمرها فطبيبها يخبرها أن فرصتها في الانجاب أصبحت ضئيلة وتتضاءل يوميا وأنها يجب أن تبكر لو أرادت الحمل. وهي تتوق للأمومة لكنها أيضا لا تعاني من غيابها.
مشكلة معقدة، وتتصاعد أكثر عندما لا يصبح أمام “علي” مفر سوى العودة الى زوجته الأولى من أجل تحقيق السلام النفسي لابنتهما ليلى التي لا يمكنها على ما يبدو العيش من دون الأم الاصلية. تربية أبناء الآخرين مشكلة لا تقدر عليها راشيل. وبالتالي ستجد نفسها في النهاية تندمج في حياتها العملية وصحبتها من الأصدقاء والطلاب، بعد أن تخلى عنها علي رغم حبه الشديد لها.
فيلم حميمي رقيق يفيض بالمشاعر والهمسات الخافتة تحت جلد الصورة، لا صراخ ولا تشنجات، ولا مواقف ميلودرامية عالية، بل هناك أيضا بعض اللمسات الكوميدية التي تخفف من قسوة الموضوع.
من الطريف أن المخرجة استعانت في أداء دور طبيب امراض النساء الذي تتردد عليه “راشيل” بالمخرج الأمريكي المخضرم “فريدريك وايزمان” (هو أيضا يهودي مثل المخرجة والممثلة)، وله فيلم في المسابقة يقع في 60 دقيقة، شاهدته ولم يعجبني ابدا لجموده وحواره الذي لا يتوقف ثانية واحدة، وهو عبارة عن مشهد واحد لسيدة (ممثلة) يفترض أنها زوجة ليون تروتسكي، الزعيم البلشفي الشهير، تتحدث إلينا وتنظر للكاميرا مباشرة، عن زوجها، كيف عاش وكيف مات.. في مونولوج طويل بطول الفيلم!
الفيلم الرابع الذي شاهدته اليوم، هو فيلم L’immensita وقد تعني “الضخامة” وهو فيلم إيطالي من اخراج ايمانويل كرياليسي، وبطولة الاسبانية التي لا تفقد جمالها أبدا، بنيلوب كروز، في دور “كلارا”، وهي أم إسبانية لثلاثة أطفال، متزوجة من رجل إيطالي وتقيم في روما في السبعينيات. أي أن الفيلم يعكس جانبا من السيرة الذاتية لمخرجه (من مواليد 1965).
هذا بالتأكيد “فيلم عن أم”، أي عن معاناتها مع زوجها ومع أطفالها ومع المحيط الاجتماعي كله، ومع الغربة.. زوجها يخونها مع سكرتيرته ولا يخجل مما يفعله بل يبرره، وابنتها الكبرى “أدريانا” تميل إلى أن تكون ولدا وتتشبه بالأولاد سواء في الملبس أو في تصفيفة الشعر مما يعرضها لسخرية شقيقها وباقي الفتيات، ثم حيرة أمها التي لا تستطيع أن تفهم كيف تتعامل مع هذا الميل الغريب، خاصة والفتاة تنطلق الى الخارج، تعيش في الخيال وتعتقد انها قادمة من كوكب آخر من خلال نوع من السحر أو شيء من هذا القبيل، وترتبط بعلاقة مع فتاة من أبناء اللاجئين الذين يقيمون في منطقة إيواء مؤقتة سرعان ما تهدمها الحكومة.
المهم أن لا بنيلوب كروز، رغم اجتهادها، يمكن القول انها أضافت شيئا الى السيناريو الذي يصلح لتمثيلية سهرة تليفزيونية، لمن يبحثون عن مثل هذه المواضيع التي فيها قدر من النوستالجيا، وقدر آخر من تعذيب الذات. لكن لا شيء مميزا في أسلوب الإخراج، ولا في طريقة تناول الموضوع من الزاوية الفنية، ومرة أخرى، حوار كثير جدا لا يكاد يتوقف، من البداية الى النهاية.
عنوان الفيلم كلمة إيطالية تعني الاتساع أو الضخامة، وهو اسم أغنية شهيرة من عام 1967، لكنه يشير هنا أيضا إلى ضخامة ما تواجهه كلارا من أعباء ومشاكل في حياتها مع زوجها وأبنائها، تؤدي بها في نهاية الأمر، الى الانهيار العصبي.