يوميات فينيسيا-2: ضجيج أبيض ودخان أسود!
أمير العمري
31 أغسطس. اليوم الأول فعليا من أيام المهرجان.. يوم الافتتاح. والمهرجان مازال يحترم النقاد والصحفيين ويلتزم بالتقليد القديم، أي عرض فيلم الافتتاح في الصباح، أي قبل عرضه رسميا في المساء بحضور الضيوف والفنانين والسينمائيين في قصر المهرجان (أو ما يعرف بصالة جراندا) الذي بني خصيصا لإقامة المهرجان عام 1936.
وقبل سنوات، قررت إدارة المهرجان أن تعيده إلى حالته التي كان عليها عند افتتاحه عام 1937 في الدورة الخامسة من المهرجان الذي انطلق علم 1932. فأسندت عملية استعادة القصر والقاعة الرائعة الى رونقها وصورتها الأصلية، وديكوراتها القديمة وألوانها وجدرانها بل ونوعية الإضاءة داخلها، إلى طاقم متخصص من المهندسين والمصممين، الذين نجحوا نجاحا عظيما.
عرض فيلم الافتتاح للصحافة يكون عادة في الثامنة والنصف صباحا. وكل أفلام المسابقة يبدأ عرضها فعلا في هذا التوقيت وتستمر العروض الى ما بعد منتصف الليل (لا مجرد عرض واحد في الصباح الباكر وانتهى الأمر كما فعل أحدهم ذات مرة، في مهرجان عربي من قبل!!).
هذا العام فرض المهرجان أيضا نظام حجز التذاكر الكترونيا لحضور العروض وبالتالي كان يتعين أن يستيقظ الجميع قبل السابعة صباحا مع فتج باب الحجز على موقع المهرجان، مما كان يؤدي- بكل أسف- إلى تعطل النظام، وتأخر الدخول إلي الموقع المخصص للتذاكر. وقد أدركت مبكرا، أنك يمكنك أن تعثر على كل ما تريده إن دخلت على الموقع بعد عرض الفيلم الأول، أي حوالي الحادية عشرة ولا داعي إطلاقا لإضاعة الوقت في الانتظار (في طابور الكتروني) لمدة 27 دقيقة أو أكثر في الصباح الباكر والتأخر عن حضور العرض الأول خصوصا وأن الحجز يكون مسبقا ليومين!
المهم.. نأتي إلى فيلم الافتتاح.
شخصيا أحرص عل حضور أفلام الافتتاح، وفي كل مرة، أشعر بإحباط شديد، فإن لم يكن فيلم الافتتاح من أفلام وودي ألين مثلا (كما فعل مهرجان كان أكثر من مرة) لا أجد أن المهرجانات الكبرى تحرص على الحصول على عمل سينمائي فني رفيع للعرض في الافتتاح رغم ان معظمها أيضا ابتدع تقليدا خاطئا تماما، يتمثل في ضم فيلم الافتتاح إلى المسابقة الرسمية، وهو خطا لأنك تميزه عن غيره من الأفلام، وتحيطه باهتمام إعلامي خاص، وبالتالي تجعله يحظى أكثر من غيره بتسليط الأضواء، وهو ما يخل بفكرة التوازن والحيادية بين جميع الأفلام المتنافسة.
على أي حال، فيلم الافتتاح هذا العام وهو فيلم “ضجة بيضاء” White Noise للمخرج الأمريكي نواه بومباك، لم يكن استثناء. صحيح أنه يناقش موضوعا معاصرا رغم ان أحداثه الغريبة يفترض أن تدور في ثمانينيات القرن الماضي (هو مقتبس عن رواية للكاتب الأمريكي ذي الإسم الغريب “دون دوليلو” صدرت عام 1985) إلا أنه لا يمثل علامة سينمائية أو عملا يبقى طويلا في الذاكرة، بل عن هناك أفلاما ناقشت الموضوع نفسه على صعيد أكثر تميزا من الناحية السينمائية.
الشخصية الرئيسية لأستاذ جامعي متخصص في تدريس تاريخ ألمانيا النازية أو بالأحرى، التاريخ الشخصي لأدولف هتلر، في تنويعة مقصودة- ربما- للإشارة إلى المتغيرات التي يشهدها العالم والتي يمكن أن تؤدي إلى صعود اليمين المتطرف (وهو ما حدث فعلا في الولايات المتحدة مع دونالد ترامب). إلا أن هذا الأستاذ الجامعي “جاك” الذي يقوم بدوره الممثل آدم درايفر (الذي تعاون بنجاح كبير مع المخرج بومباك في فيلمهما السابق “قصة زواج” A Marriage Story)، لا يخشى من صعود الفاشية بل يعاني من وسواس قهري يرتبط بالخشية من الموت.
هو متزوج من “بابيتا” (جريتا جيرويج) ولديهما 4 أبناء معظمهم من زيجات سابقة. وطبعا سيكثف الفيلم التناقض بين عقليات الجيل القديم والجيل الجديد، والمشاكل التي تنشأ عن اختلاف المشارب والأهواء، واللغو الكثير والثرثرة الاتي تميز التشاحن بين الأبناء بعضهم البعض، وبين الآباء والأبناء، في مساحة معتبرة من القسم الأول من الفيلم..
المشكلة الكبرى تقع عندما ينفجر قطار شحن مليء بمواد كيميائية قرب البلدة، فتنتشر الأبخرة أو الدخان الأسود السام، وتطلب السلطات من جميع السكان مغادرة البلدة بأسرع وقت ممكن. وفي مكان آخر يتم عمل اختبارات للجميع، وسيعرف “جاك” أنه تعرض للأبخرة السامة وأنه مقضي عليه لا محالة، ولكن متى؟ لا أحد يعرف. يقال له إنه ربما لو عاش 15 سنة أخرى لامكن معالجة إصابته. إذن أصبح من يخشى الموت هو الوحيد الذي تقرر موته (يعني على غرار المثل القائل “اللي يخاف من العفريت يطلع له”!
أما الزوجة فهي أدمنت على تعاطي عقار تعتقد أنه يساعدها في التغلب على الخوف المرضي من الموت أيضا وهو عقار كان جاك يحاول أيضا العثور عليه في السوق السوداء، ولكنها اضطرت لدفع الثمن، لأن هذا العقار غير متوفر، والرجل الذي أتى لها به طالبها بدفع رشوة جنسية فاستجابت واعترفت لزوجها بعد ذلك بأنها فعلت ذلك وهي في حالة شبه غيبوبة.. ولابد أن لهذا العقار أيضا أعراض جانبية خطيرة (فكرة أخرى عن الأدوية السرية).
طبعا الفيلم يلعب على فكرة المخاطر المحيطة بكوكبنا، على نحو يذكرنا بالأسرة الأمريكية النووية أو الـ NUCLEAR FAMILY التي رأيناها كثيرا في أفلام الخمسينيات، فالأبناء مثلا، يترقبون طوال الوقت، نبأ سقوط طائرة أو مذنب من الفضاء، والأب يخشى الموت لأي سبب غامض، والزوجة تهرب إلى عقار مخدر للتغلب على شعورها بخطر الموت. إلا أن هناك فرقا كبيرا بين هذا الفيلم وبين فيلم لارس فون ترايير البديع “ميلانكوليا” (2011) الذي كان يناقش موضوعا مماثلا ولكن بعبقرية ومن خلال أسلوب خلاب ومقتصد ومركز وبعيد عن الثرثرة.
كل هذه أفكار جيدة ولكنها مصاغة في قالب كوميدي يعتمد على الثرثرة الكلامية أي الجوار الذي لا يتوقف، وعلى التصوير في الموقع الواحد داخل منزل الأسرة، لمدة طويلة من زمن الفيلم (البالغ ساعتان و16 دقيقة)، كما أنك تشعر أيضا بأن الهوس الموجود في الفيلم هو أساسا، هوس أمريكي، وأن مشاكل الاسرة تجسد مشكلة عائلات الطبقة الوسطى الأمريكية “البيضاء”، رغم وجود شخصية رجل أسود (مدير السوبرماركت) صديق لجاك، يدفعه دائما للتفاؤل والمرح، وكأن السوبرماركت أيضا، أصبح الجنة التي ينشدها الذين يرغبون في الفرار من الواقع الأليم كما نرى في المشهد الأخير.
لم أتفاعل أبدا مع هذا الفيلم، أولا بسبب محليته الأمريكية الخالصة، وفقدان الكوميديا أثرها بعد مرور اقل من نصف ساعة، وأيضا بسبب غلبة الحوار إلى حد مزعج، خصوصا وأن الفيلم يخرج كثيرا عن الموضوع ويسقط في التكرار- أي تكرار الفكرة- والرتابة، مع بعض المبالغات التي أضعفت من الحبكة وأخلت بها، خصوصا ما يتعلق بشخصية الرجل الذي ضاجع زوجة جاك لمدها بالعقار المهديء، وكيف يذهب إليه جاك لكي يقتله، وما يدور بينهما من حوار لا معنى له، فهو مجرد لغو يضفي أيضا طابعا ميتافيزيقيا على الشخصية دون أي تفسير أو مبرر.
ليس هناك معنى لأن يكون جاك متخصصا في تاريخ هتلر، أو أن هذا على الأقل غير واضح في الفيلم، كما أن الخوف من الموت يبدو كخوف مجرد تماما أي يخلو من أي تأملات فلسفية في مغزى الحياة ومعنى الموت وما بعد الموت، وكثرة الأبناء في الأسرة تسبب ارتباكا بدلا من أن تخدم هدفا دراميا.
اما المستوى التقني للفيلم فهو متميز كعادة أفلام الإنتاج الأمريكي الكبير. ولابد أنه سيقابل باهتمام من جانب جمهور شبكة نتفليكس عندما يعرض في ديسمبر القادم، فالفيلم من انتاج نتفليكس مثل الفيلم السابق “قصة زواج” (2019) الذي كان يعتمد أيضا على الديكور الواحد وعلى الحوار الممتد إلى ما لا نهاية، ولطن في حبكة أكثر اتقانا، وشخصيتين رئيسيتين، وتركيز على الموضوع، وتمثيل أكثر إقناعا وتميزا. وقالت بعض المصادر أن نتفليكس انفقت عليه 140 مليون دولار. وسخر أحد النقاد عندما قال (14- مليون دولار من أجل الحوار المستمر بين آدم درايفر وجريتا جيرويج”!
ويبدو أن هذا الإفراط في الاعتماد على الحوار في الأفلام، من تأثيرات نتفليكس وأخواتها من شبكات البث الرقمي. إلا أن السينما بهذا الشكل، ترتد إلى تمثيليات الراديو، أو تردنا إلى بدايات الفيلم الناطق في أوائل الثلاثينيات. وسنجد هذا التأثير في أفلام أخرى كثيرة من أفلام المهرجان التي أحتفى بها النقاد ثم حصلت على جوائز رئيسية!