يوميات الموسترا (5): الفيلم التونسي “وراء الجبل”
أمير العمري- فينيسيا
القاعدة التي أعرفها وأؤمن بها، هي أنك يجب أن تكون مقنعا حتى عندما تجنح في اتجاه أقصى درجات الخيال، بمعنى أنك يجب أن تجعل من يشاهدون فيلمك يتفاعلون مع الحالة التي تصورها لهم مهما كانت غريبة ومنافية للواقع، أي بكل بساطة، أن تقنعهم بأن ما يشاهدونه أمر ممكن، حتى لو كان منافيا للواقع والأهم من ذلك، أن يكون وراء هذا الجموح والجنوح، شيء ما تريد التعبير عنه، حتى لو كان مجرد تحقيق المتعة والتسلية.
كان هذا الجموح مقبولا والاستمتاع موجودا مثلا، في الفيلم التونسي البديع “دشرة” (2018) الذي يندرج ضمن أفلام “الرعب” الخيالية. فقد كان هناك موضوع متماسك مثير للاهتمام، وشخصيات واضحة، وحبكة متماسكة، وأجواء بديعة في الصورة، وتقنية ممتازة، تضارع أرقى المستويات في إطار هذا النوع السينمائي الذي لا تعرفه تقريبا السينما التي تنتج في العالم العربي.
وكان الفيلم الأول لمحمد بن عطية “نحبك هادي” الذي عرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي قبل سبع سنوات، عملا جيدا، رغم بعض المبالغات التي لا تخلو منها أفلام المنطقة العربية باعتبار أن المبالغة جزء من الثقافة العربية. أما الفيلم الجديد لبن عطية، “وراء الجبل” الذي عرض في مسابقة “أوريزونتي” (آفاق) بدورة مهرجان فينيسيا السينمائي التي اختتمت في التاسع من سبتمبر، فهو أقل كثيرا مما كان متوقعا، فالفيلم يعاني أولا من عدم الإقناع بفكرته الرئيسية مع هشاشة حبكته، وسطحية تكوين شخصياته، وخصوصا الشخصية الأساسية التي هي محور الحدث في الفيلم، ولا هو أيضا مقنع على مستوى التمثيل الذي جاء مرتبكا، خشبيا، متجمدا لا حرارة فيه بل تشنج وافتعال ولهاث مسموع ومصطنع. وهو أمر يؤسف له كثيرا.
لا أعرف أصلا كيف يمكن أن يتحمس أي منتج لإنتاج فكرة ساذجة كهذه، لا ينتج عنها شيء، أي لا نفهم المقصود منها أو المغزى الذي ترمز إليه، فالفيلم يبدأ بحدث ما، ولكنه يفشل في إشباعه أو الوصول بنا إلى الكشف عن شيء ما يكمن وراء الفكرة أو وراء الشخصية الغائمة الملامح، ويعجز الحدث الطفولي الأولى عن مغادرة الواقع، والدخول إلى منطقة الخيال، فلا الخيال مقنع إن كان خيالا، ولا الواقع يمكن أن ينتج مثل هذا العبث الطفولي، فالفيلم يحلق، لكنه لا يمتلك قوة الدفع التي تجعله قادرا على الطيران، فيهوي مثلما يحدث لبطله!
هناك شخصية رئيسية لرجل هو “رفيق” (مجد مستورة)، نراه في البداية غاضبا يحطم المكتب في المكان الذي يعمل فيه (لا نعرف سبب غضبه وثورته وهياجه) لينتهي به الأمر إلى السجن لمدة أربع سنوات، ولكنه يحاول الفرار من السجن أثناء تناول الطعام مع السجناء بالقفز من النافذة ليسقط على الأرض، لكن نفس هذا الشخص الذي من الواضح تماما أنه شخصية مضطربة، لا يصلح أن يكون أبا لطفل، سيذهب إلى بيت زوجته السابقة التي قامت بتربية ابنه الطفل “ياسين” لكي يخطف ابنه الذي لا يمكنه أن يتعرف عليه، ليقول له إنه أبوه، وإنه يريد أن يطلعه على شيء، ويأخذه في سيارته ويخرج به خارج المدينة إلى منطقة جبلية، وكلما تساءل الطفل: أين نذهب؟ يطالبه والده بالانتظار وسوف يرى.
وأخيرا تتبدى الرؤية عندما يصعد رفيق إلى قمة الجبل ثم يطير في السماء لكي يهبط هبوطا حادا على الأرض، وغالبا يصاب أيضا ببعض الكسور. والفيلم يشرح الأمر لنا، بالقول أن الإنسان لم يكن يسير على قدمين بل تعلم أن ينهض من الاتكاء على الأطراف الأربعة لكي يقف على قدمين فقط، وأنه ربما يستطيع أيضا الطيران، وأن عليه المحاولة. ولكن ما الرمز الكبير الذي يكمن وراء هذه الرغبة في الطيران في المجهول؟ لا نعرف ولا يفسر لنا الفيلم هذه الرغبة الطفولية التي تؤدي بصاحبها كلما فعل، إلى السقوط!
يقوم راعي الغنم بإنقاذ رفيق ومعالجته ثم يقتنع في الأغلب بنبوته (!) فيتبعه صامتا لا ينبس ببنت شفة معظم الوقت، بعد أن يتخلى عن أغنامه ويتركها في رعاية الكلب- كما يقول. ويركب الثلاثة السيارة ويسيرون في الجبال، ولكن الشرطة تطارد رفيق، بغرض استعادة الطفل، ولكن عندما تتعطل سيارته، يقرر رفيق اقتحام منزل لعائلة تقطن في هذا المنزل المعزول تماما عن المدينة وسط الطبيعة الجبلية الخضراء (لا نعرف ماذا يفعلون هناك.. لكن هذا ليس مهما).
من هنا يتحول الفيلم ليتخذ أسلوب أفلام الثريللر، ولكن من دون أي إثارة أو أي درجة من درجات النجاح، فبدلا من رفع السكين (مثلا) ومطالبة الأسرة بمفتاح سيارتها لاستخدامها والفرار بها (دون ان تكون خطته واضحة بالضبط)، فكل ما يهددهم به سلاح لا وجود له يزعم أنه موجود في الحقيبة التي يحملها. وهو زعم يمكن لأي طفل أن يتحداه، لكن الأسرة المكونة من رجل يدعى “وجدي” وزوجته “نجوى”، وابنه “أسامة” وهو في عمر ياسين، تستجيب وتنكمش، وبعد قليل تكتشف الزوجة هزال الزعم بوجود السلاح، فينقلب الأمر، تسيطر الأسرة على الموقف. ولكن سيعود رفيق للسيطرة على الأسرة بطريقة هزيلة تماما.. وليس مهما بعد ذلك ما يحدث، لأن لا شيء يحدث!
وتظل هناك تساؤلات مستحيلة: لماذا قام رفيق بهذه المغامرة الحمقاء التي يردد خلالها أنه يستطيع الطيران، وابنه يؤكد أنه شاهده يطير، والمرة الوحيدة التي ينطق فيها راعي الأغنام يقول إنه شاهد على ذلك أيضا، ولكن لماذا تبعه هذا الرجل، وإلى أين كان رفيق سيذهب بابنه الذي ظل يطالبه بإعادته إلى أمه؟
هل هذا سيناريو فيلم ينتمي للقرن الحادي والعشرين، يمكن أن يصلح أساسا لمناقشة جادة، عن طبيعة الفيلم” وفن الفيلم؟ فإن كان الغرض هو عمل فيلم “ثريللر” فهذا أبعد ما يكون عن تحقيق هذا الهدف، وإن كان المقصود استخدام رمز سياسي لمرحلة ما بعد فشل ثورة الياسمين في تونس والتعبير عن حالة التيه والضياع التي سيطرت على البعض، فالفيلم لم ينجح في تصوير أي علاقة له بحقائق الوضع في تونس، بل بدا منفصلا تماما عن الواقع. وإن كان مغامرة خيالية، فهو لم ينجح في صنع الإنسان الطائر، فهو يهوي على الأرض ويتكسر باستمرار، أي لا يمكنه مواصلة الطيران، ولكن لماذا يريد أن يطير أصلا.. هل هو نبي جديد صاحب معجزة لا تكتمل مثلا؟ لا نعرف ولا أحد يعرف ولا أظن أن محمود بن عطية يعرف!
الأسلوب في الحقيقة تقليدي جاف، يبدو واقعيا من الخارج، كما يتبدى من تفاصيل الصورة، دون أي محاولة لتجاوز الصورة الواقعية، أو التحليق في الخيال. ومع كل هذه السطحية والاضطراب، كان من الطبيعي أن يأتي أداء الممثلين جميعا، ضعيفا، مثيرا للشفقة، فهم يجاهدون من أجل دفع الحياة في شخصيات ولدت ميتة أصلا!
أنا لا يهمني تصفيق الجمهور ولا أي جمهور في أي مهرجان سينمائي لأي فيلم، فكل الأفلام الرديئة تحظى بالتصفيق المجامل، فنحن في جو احتفالي: مهرجان، مولد، وفرحة يبديها القادمون للاحتفال، بأي فيلم وكل فيلم، والمجاملة هي الطبع السائد خصوصا في وجود صناع الأفلام. وكل الأفلام تجد من يشجعها مهما تضاءلت قيمتها الفنية. ولكن الجمهور نفسه، سرعان ما ينسى ويستعد للتصفيق للفيلم التالي الذي ربما يكون أكثر رداءة. فهذا هو ما أراه في هذه المهرجانات منذ أن بدأت التردد عليها قبل 37 سنة!
شاهدت الفيلم التونسي الثاني المعروض في تظاهرة “أيام فينيسيا” وهو فيلم “الكواليس” الذي اشترك فيه اثنان هما المخرجة التونسية عفاف بن محمود، والمغربي خليل بن كيران، وهو عمل أول يعاني من كل أمراض العمل الأول: الثرثرة والسطحية والتسرع، والتكرار، وغياب الفكرة.
مجموعة من الراقصين الاستعراضيين، يهيمون على وجوههم في غابة بعد إصابة إحدى راقصات الفرقة بكسر في قدمها، وهي إصابة متعمدة من جانب زميلها في الفرقة، لكن الفرقة يجب أن تقدم عرضا في اللية نفسها في مكان آخر، ولكن سيارة الفرقة تتعطل فيقطع الجميع الطريق متحاملين على أنفسهم، ويذهب أحدهم لكي يأتي بطبيب يعالج الراقصة المصابة التي لا تستطيع أن تفهم سبب اعتداء زميلها عليها، ولا نحن أيضا نفهم، ومع عدم تطور الحدث في أي اتجاه، وكثرة المشاجرات والثرثرة والمونولوجات الكلامية الفارغة التي تقتبس من لغة الشعر دون أن يكون هناك أي شعر، كل هذا يجعل المرء يفقد اهتمامه ورغبته في المتابعة، فكما بدأ الفيلم، ينتهي.
من يشاهد مثل هذه الأفلام لابد أن يترحم على أفلام القصة التقليدية الواضحة، فهي تحقق متعة المشاهدة على الأقل، فإن لم تقدر على التفلسف، عليك أن تكتفي برواية قصة محكمة.. فربما تستطيع أن تصنع لنا شيئا. وإن كنت من الذين يؤمنون بأن “فاقد الشئ لا يعطيه” ولا يستطيع أن يعطيه!