“ولاد رزق”.. سينما “الأبطال الضد” الممتعة!
وسط طوفان أفلام المهمشين والخارجين على القانون والبلطجية التى أغرقت الصالات المصرية خلال السنوات الماضية، يبدو فيلم “ولاد رزق” الذى كتبه صلاح الجهينى وأخرجه طارق العريان، والذى عرض فى موسم عيد الفطر السينمائى، عملا فريدا ومختلفا، رغم أنه أيضا يقدم شخصيات مهمشة وخارجة على القانون وتمارس البلطجة عند اللزوم، إلا أن المعالجة الذكية التى قدمها السيناريو، وبراعة رسم الشخصيات، والبناء الجيد للحبكة، كل ذلك جعل من الفيلم نموذجا لما أطلقتُ عليه سينما “الأبطال الضد ” الممتعة.
البطل الضد (the anti hero) فى الدراما يكون دوما خارج دائرة المثالية أو الكمال، بل إنه ضد مفهوم الإمتثال أو الخضوع للمجتمع بشكل كامل تقريبا، إنه نقيض البطل الطيب أو المنقذ، وهو فى نماذج الدراما الناضجة شخصية رمادية بامتياز، تصنع قانونها، وتلتزم بها، وتختار طريقها المتناقض فى الغالب مع السائد والمألوف.
فى “ولاد رزق” ليس هناك بطل واحد بهذه الكيفية مثل الأسطى حسن أو تيتو، ولكننا أمام حفنة من “الأبطال الضد”، كل الشخصيات الذكورية تقريبا يمكن وصفها بذلك: أربعة أشقاء، وشاب خامس تابع لهم، وتاجر مخدرات صاحب فلسفة، وصاحب صالة قمار لا يهاب الموت، بل ولدينا ضابط شرطة ليس بريئا وليس منفذا للقانون كما كنا نظن .
سنكتشف فى النهاية أن المعركة واللعبة بأكملها ليست بين الأبيض والأسود، بل لعلها بين الرمادى والأسود، أو الأسود والأكثر سوادا، منذ البداية فإن الجميع يعترفون تقريبا بأنهم خارج القانون، وانحياز المتفرج سيكون للأذكى والأكثر براعة، كما أن الإنحياز عاطفيا لأولاد رزق مرتبط أساسا بهذا الولاء العائلى المتماسك، وهى قيمة تحقق مفعولها فى عالم الأبطال الضد أيضا، بدليل استيحاء كل طقوس وقيم التماسك العائلى، ونقلها الى عالم العصابات الدموى، فى سلسلة أفلام الأب الروحى الناجحة جماهيريا ونقديا.
الأب البديل
فى “ولاد رزق” استغلال جيد تماما لفكرة العائلة، الأب مات تاركا ورشة صغيرة، والابن الأكبر رضا ( يلعب دوره فى مرحلة الشباب أحمد عز) يقوم بدور الأب البديل لإخوته الأصغر سنا، يعمل رضا فى الورشة، يتعرض للضرب والإستغلال، لتوفير لقمة العيش لإخوته الثلاثة ربيع ورجب ورمضان، ثم يأخذهم الى سكة الإنحراف، ليكسبوا بطريقة أسرع، ولكنه يضع قانونه حتى وهم فى مرحلة الصبا: لا قتل، لا تجارة فى المخدرات، وامتثال فورى له فى حال إذا ما قرر رضا / الأب البديل، أن يتوب الجميع، وأن يتوقفوا عن السرقة أو خطف الأموال.
هذا هو الأساس الذى يدير حركة هؤلاء الأبطال الضد، يضاف الى ذلك وضوح رسم شخصية كل واحد منهم بطريقة حميمة، رغم انتهاكهم جميعا لكل القيود الأخلاقية المتعارف عليها، هم فى الحقيقة خارج المجتمع حرفيا، ولكنهم يصنعون مجتمعهم ولغتهم وطقوسهم الخاصة، كل واحد منهم له دور، رضا هو الكبير، وربيع هو الرجل الثانى، ورجب هو الثالث الماكر، ورمضان هو الأضعف والتابع الأصغر، وهناك أيضا عاطف، وهو شاب مهمش أقرب الى البلاهة، يعتبر رجب مثله الأعلى، يرتبط ربيع بقصة حب مع رباب شقيقة عاطف، ويعامله أولاد رزق كما لو كان واحدا منهم، يسمع خطط عملياتهم، ويحصل منهم على حلاوة نجاح السرقة أو العملية.
تقريبا نحن أمام عائلة ولكن من طراز خاص، وما الفيلم فى جوهره سوى لحظات صدام هذه “العائلة الضد” فى مواجهة رجل مخدرات شرس يدعى صقر (سيد رجب)، ورجل بوليس متلون يدعى رؤوف (محمد ممدوح).
يقرر رضا بعد عملية كادت تودى بحياة أخيه رمضان أن يستعيد عهد الطفولة، بأن يعتزلوا لعبة السرقة القاتلة، خصوصا أن رضا ارتبط بفتاة اسمها حنان (نسرين أمين)، تريد حياة تقليدية بعيدا عن الخطر، هنا ينفرط شأن العائلة، يرفض ربيع الإعتزال، بل ويكسر قاعدة رضا القديمة بعدم العمل مع تجار المخدرات، يتورط ربيع ورجب ورمضان مع صقر تاجر المخدرات، مما سيقودهم الى تورط أكبر مع رجل البوليس المريب رؤوف، ولن يحل المأزق فى النهاية، إلا عودة الأب البديل/ رضا، لكى ينقذ شقيقه رمضان، وعندما ينجح، يعود أبطال رزق من جديد الى ثنائيتهم الرمادية: لصوص يحترمون قيمة العائلة، يعودون هذه المرة بلا رغبة فى الإعتزال، وكأنهم يرفضون أن يكونوا أبطالا تقليديين.
بناء الحبكة
بعد أن تحددت معالم الصراع وأطرافة وقواعده، ينجح السيناريو الذكى فى بناء حبكة متقنة ثلاثية الأبعاد وفى وقت واحد: اللعب بين أولاد رزق وتاجر المخدرات صقر الذى اختطف الأخ الأصغر رمضان، واللعب بين أولاد رزق وضابط البوليس رؤوف، ثم ننتهى الى أن أولاد رزق لا يلعبون فى الحقيقة إلا مع الجمهور، إنهم يستدرجونه الى خطتهم بصبر ودأب العنكبوت الذى تحدث عنه صقر، يبدو وكأنهم يوقعون بتاجر المخدرات، وبضابط البوليس المريب معا، لنكتشف أنهم أوقعوا بالجمهور فى فخ قانونهم الخاص، وانتزعوا اعترافا / إعجابا بفكرة العائلة الضد، لن ننحاز هنا الى الإنحراف، ولكن الى هذا الأب البديل الذى قرر أن ينقذ عائلته القديمة، والذى اكتشف أن عائلة جديدة لن تغنيه عن عائلة ورثها عن أب راحل.
لا يوجد صراع تقليدى بين الخير والشر، بل إنه صراع أشرار بدرجات متفاوتة، ولا مكان لشخصيات مثالية، ولكنها مباراة بين شخصيات هامشية، وأبعد ما تكون عن الكمال، والصراع فى جوهره بين الفرد فى مواجهة الفريق، الشخص ضد العائلة، والتى سيقوم عاطف بدور محورى فى حسم المعركة لصالحها، شخصية عاطف هى مفاجأة الحبكة التى ستثير دهشتنا، عاطف بكل تفاصليه، وبموقعه من أولاد رزق، وبعلاقة أخته رباب بربيع، ينتمى بالقطع الى العائلة الضد، وسيثبت ذلك بأبلغ وأذكى طريقة حيث سينفذ مع رجب (مثله الأعلى ) أخطر مراحل الحبكة.
يمتلك فيلم “ولاد رزق” فكرته وموضوعه، ويستخدم كل أيقونات سينما الخارجين عن القانون، لتصب فى النهاية فى خانة فكرة “العائلة “، حيث أولاد هذا الرجل الذى حمل أولاده أسماء تبدأ جميعها بحرف الراء (رضا/ ربيع/ رجب/ رمضان)، والذين يقسمون بأغلظ الأيمان على الإمتثال للأخ الأكبر، فى الفيلم سرقة وسطو وتاجر مخدرات وبوليس وعاهرات وصالة قمار وإطلاق رصاص ومطاردات وشتائم وبلطجة، ولكن الفيلم ليس عن كل ذلك، ولكنه عن الطريقة التى تصنع بها عائلة متماسكة قانونها اقترابا أو ابتعادا من هذه الأشياء، إنه شىء أقرب الى فكرة وعالم الأب الروحى ورجال المافيا، حيث نبدأ من العائلة لنعود إليها، وحيث لا نجاح إلا بالمجموعة، وبقيادة الأب، أو بديله ووريثه.
لا أقرأ هنا نوايا المؤلف صلاح الجهينى أو المخرج طارق العريان، لأننى ببساطة لا أعرفها، أنا فقط أقرأ الفيلم نفسه، هذا الخط العائلى هو جوهر العمل، الفيلم ليس عن المخدرات أو الشرطة أو السرقة، ولكنه عن “أولاد رزق” وعلاقاتهم وقانونهم وألعابهم التى ستستمر حتى مع نزول العناوين، ونجاح المخرج فى ذلك ( طارق العريان وثيق الصلة بالسينما الأمريكية وأول أفلامه كمخرج وعنوانه “الإمبراطور” مأخوذ عن فيلم “الوجه ذى الندبة”) واضح ومشهود، لديه هذا الفريق الرائع من الممثلين البارعين: أحمد عز فى أفضل أدواره وفى أحسن حالاته، وعمرو يوسف الذى ينضج بسرعة لافتة، وأحمد الفيشاوى فى أدائه المزدوج الماكر مثل الموهوب أحمد داوود، وكريم قاسم فى شخصية رمضان الضعيف الذى يبدو كطفل مدلل لإخوته، وفى المقابل يقف نداً للعائلة اثنان من كبار المشخصياتية هما سيد رجب ومحمد ممدوح، حتى محمد لطفى فى دوره القصير كصاحب صالة القمار كان مميزا للغاية، ولايمكن أن تنساه.
كل هؤلاء سينافسون فى رأيى على جوائز أفضل الممثلين فى موسم 2014 السينمائى، والفيلم نفسه سيكون ضمن قائمة أفضل أفلام الموسم بتكامل عناصره: السيناريو المتقن الذى لم يفلت فكرته، والذى وظف عناصر سينما المهمشين لصالح رؤيته، والحوار المناسب والواقعى والطريف فى مشاهد كثيرة، ولدينا بالطبع الإخراج الواعى، طارق العريان هنا فى ملعبه، إنه يعرف تماما كيف يبنى مطارداته ومشاهد المواجهة الدموية كما فعل من قبل فى أعمال مثل “الإمبراطور” و”تيتو” على سبيل المثال، إن مشهد المنطقة العشوائية من أعلى مرعب ومخيف حقا، وقوة مشاهد الحركة لا تقل عن قوة المشاهد الإنسانية والفكاهية، فى قائمة الإجادة أيضا مدير التصوير مازن المتجول، ومونتير مميز هو أحمد حمدى ، وموسيقى هشام نزيه، وديكور محمد عطية، وملابس ريهام عصام، توظيف كل هذه العناصر منح الفيلم تميزا تقنيا لافتا، مثلما هو الحال فى كل أفلام طارق العريان كمخرج.
“ولاد رزق” فيلم لا يحكم على أبطاله بمعيار القانون أو الأخلاق، ولكن يحكم عليهم بقدر الولاء لبعضهم البعض، و بقدر التزامهم بما يربطهم من علاقات، أبطال الفيلم منحرفون تماما، ولكن الإنتصار كان حليف الإخوة، وكان فى صف رضا الذى عشق حنان، وربيع الذى يعود دوما الى رباب، ورجب الذى أنقذ عائلته، ورمضان الذى دفع ثمن أخطاء إخوته، وعاطف الذى انتمى الى عائلة تربى وسط أفرادها، فأصبح من السهل عليه أن يمنح أحدهم اسمه وملابسه وصفته، إنه شقيق خامس بالإنتساب ، وسط أشقاء لا يمكن أن ينفصلوا أبدا.