“واحدة كده”.. الحرية على بُعد خطوة واحدة
ينحصر اهتمام جمهور السينما بالأفلام الروائية الطويلة، بينما يأتي الفيلم القصير، والتسجيلي في مرحلة تالية من التقدير والمتابعة، يقتصر حضورهما على المهرجانات، ونوادي السينما، وبين النقاد، ولا يُعرضا في دور السينما.
الفيلم القصير عالمٌ قائمٌ بذاته. يمتلك جمالياته، وأساليبه السردية التجريبية؛ لأنه يتحرك بعيدًا عن حسابات الإنتاج، وثقافة النجم، وشباك التذاكر. يُقدِّم لنا تجارب في منتهى الرقى والجمال، ويطرح أفكارًا جديدة بأشكال أكثر جرأة.
يُضاهى الفيلم القصير القصة القصيرة في عالم الأدب، حيث العمل بمبدأي “الاختزال، والتكثيف” لسرد الفكرة، وعرض رؤية المخرج في مساحة زمنية محدودة، ولا يُعتبر قصر أو طول الفيلم معيارًا لجماله ومتعته؛ شرط الفن الوحيد هو الجودة.
“واحدة كده” هو فيلم قصير، قصة وإخراج مروان نبيل في أولى تجاربه، كتب السيناريو والحوار هيثم الشال، ومن تصوير عبد السلام موسى، وموسيقى محمد ناصف، إنتاج عام 2020م.
يحكى الفيلم عن يوم في حياة فتاة مصرية، وما تتعرض له من مضايقات تُبين نظرة المجتمع المتدنية للمرأة. يبدو في الظاهر فيلمًا نسويًا عن المرأة وهمومها، لكنه في الحقيقة عن الإنسان المقهور في كل مكان خصوصًا في عالمنا العربي، وطبيعة العلاقات بين أفراده ومؤسساته التي يسودها العنف، والاستغلال، وتوق الفرد الدائم للحرية. ينطبق على الفيلم بمعنى ما مقولة الفيلسوف الوجودى “سارتر”: “الآخرون هم الجحيم”.
اتخذ المخرج أسلوبًا واقعيًا يتخلله الخيالي الساخر، أو ما اصطلح عليه “الكوميديا السوداء”. عَبْر هذا الدمج قدَّم رؤيته للواقع بهدوء وإيحاء. يُحسب له أنه لم يقدم المرأة كضحية تتباكى على مصيرها كما يحدث في الميلودرامات الفاقعة؛ إنما يحاول تثويرها، وإعلاء إرادتها، والتأكيد على حقها في اختيار الحياة التي تريد.
تواجه مريم “ريهام عبد الغفور” سلسلة من الضغوط اليومية. تبدأ عندما تستيقظ على أصوات أشغال البلدية. كأن هناك مؤامرة تُحاك ضدها من الجميع بداية من الوصاية الأسرية المتمثلة في الأم “سلوى عثمان” وهى تراها وتعاملها كطفلة، ثم يتسع القوس، إذ تعانى من تحرش الجار المتدين / نموذج الرجل المحافظ. هنا يستدعى المخرج الصورة الذهنية المكرسة للمرأة لدى هذا النموذج الذي لا يرى المرأة العاملة سوى عاهرة، وجودها الطبيعي في البيت لا العمل. ليست المرأة في نظره إنسانة كاملة الأهلية، لها الحق مثله في الاختيار. يتحقق ذلك في امرأته المنقبة التي يجرَّها وراءه كجارية. من خلال تفاصيل صغيرة يرسم ملامح الشخصيات، عند أول ظهور للجار في الكادر يغلق فتحة بنطاله مستعجلًا، مما يعنى سيطرة الهاجس الجنسي على تلك الفئة المتطرفة.
أثناء ذهابها إلى العمل تتكشف خلافات مريم مع خطيبها “محمد على رزق”، النموذج الثاني للرجل / العصري ظاهريًا، لكنه في أعماقه وعند حدوث أزمة حقيقية يُظهر وجهه الشرقي المستبد. عندما تكون مطيعة يراها ملاكًا. أما حين تناقشه أو تعارضه تتحول في عينيه إلى شاويش.
عند وصول مريم إلى مقر الشركة يحتال عليها السائس بأكاذيبه عبر تلك المهنة غير المشروعة. هو لا يراها موظفة عادية بل مِعلِّمة ثرية له الحق في ابتزازها. هذه المرة يوجه المخرج النقد، والإدانة ليس إلى الرجل فقط بل للدولة ككل؛ للتخلي عن دورها، وترك المواطنين عرضة للصوص.
المحطة الأخيرة هي متاعب العمل بين موظفة غيورة تريد أن تتحكم في طريقة ملبسها بدعوى الاحتشام، وموظف لا يفهم متطلبات عمله. بعد عناء العمل تظهر مريم كشبح غائم في صورة “سلويت” تعبيرًا عن حالتها النفسية السيئة.
يأتي مغزى الدراما من خلال نصيحة صديقها “حازم”، وهو نموذج الرجل الثالث / اللامنتمي الأكثر تحررًا بغير مسئولية، بأن تملك زمام أمرها، ولا تدع أحدًا يُملى عليها مصيرها. هذه نقطة ضعف السيناريو الوحيدة حيث جاءت على نحو تقريري مباشر. كان الأجدر الاستغناء عنها؛ للحفاظ على الخط الرفيع بين الواقع والخيال، والتعبير بلغة السينما دون توجيه المتفرج.
طوال الفيلم تتحرك مريم في غرف، وأماكن مغلقة باستثناء مشهد بديع مع زميلها، تقف أعلى الكادر حبيسة سور زجاجي فيما السماء حولها مفتوحة، والأشجار أمامها خضراء، والحمام يطير مستمتعًا بحريته، فأن تنال حريتك ليس مستحيلًا. يكفيك أن تُقلِّد هذا الطائر.
عبر حلم يقظة عند العودة إلى البيت تسترجع مريم منغصات يومها بأسلوب “الفوتو مونتاج”. كأنها تُذكِّر نفسها بمأساتها. تستعيد صوتها مرة ثانية بالصراخ رفضًا للخضوع، وللتمرد على قيودها. تكون تلك الصرخة أولى خطوات التحول في شخصيتها من الامتثال إلى الرفض، وتوجيه بوصلة حياتها. تستيقظ من الحلم على سيرك متجول. ترى رجلًا حيًا يجلس في نعش، شيطانًا يتزوج ملاكًا، والملاك فتاة ذات جناحين تدخن الحشيش.. وكل الأوضاع خاطئة. تكتشف أن عالمها يوازى عالم السيرك، ذكوري ومليء بالأقنعة، لا مكان فيه للإنسانية. يُغلَق القوس على مريم وهى تنظر للكاميرا. تكسر الإيهام بالصورة. تقول للمتفرج دون كلمة: “انظر.. هذا ما يحدث لنا”. ثم ترتفع الكاميرا على باص ينعطف مكررًا رحلته الشبيهة برحلة مريم.
برع المخرج في توظيف موسيقى “محمد ناصف” إذ كانت بمثابة جسر للانتقال من اليومي إلى الخيالي، والدخول في ذهن الشخصيات، وتعميق حس السخرية. هذه الدقات المتتابعة تشبه دوران عقارب الساعة. تُقسِّم الفيلم إلى فصول، أو سلسلة من الممارسات الخانقة التي ستتكرر كل يوم، ولكل فتاة في المجتمعات الذكورية.
تنوعت كاميرا “عبد السلام موسى” بين اللقطات الكبيرة، والمتوسطة، والقريبة حسب موضعها الدرامي إلا أن الغلبة كانت للقطة المتوسطة التي تتيح التأمل والتفكير؛ حتى تُقنع المتفرج عقليًا قبل أن تثيره عاطفيًا. استخدم المرايا لتأطير الشخصية؛ كي نشاهد كيف نرى أنفسنا، وكيف يرانا الآخرون.
نجحت مصممة الأزياء “مي جلال” في نقل الفكرة، والإحساس بتعدد وجوه مريم من خلال ملابس الشخصيات المختلفة؛ لذا كان السيناريو ينمو ويتطور من خلالها. بالإضافة إلى إضفاء عنصري “الإيهام، والصدق” على كل دور. كانت “ريهام عبد الغفور” في حالة من النضج والإتقان. جاء أداؤها متميزًا منضبطًا، هناك غضب تحت الجلد، الشخصية على شفا الانفجار، مع ذلك كان الأداء محسوبًا بدقة دون زيادة أو نقصان مما ساعد على نجاح العمل؛ فالممثل البارع أشبه بالقلم الجيد في يد المخرج.
قامت “سلوى عثمان” بدور الأم على الوجه الأكمل، لكن تسكينها في تلك الأدوار النمطية سيقتل موهبتها. لم يعط “محمد على رزق” أى سحر للشخصية، فلم نستطع أن نحبها، أو نكرهها. أما اللافت فكان دور “حازم سمير” الوجه النقيض لمريم بتلقائيته وعفويته. أضفى حيوية ومرحًا على أجواء الفيلم. يُنتظر منه أدوار أكثر أهمية.
“واحدة كده” فيلم قصير في الوقت، كبير في القيمة. تحية وتقدير للمخرج الواعد مروان نبيل.
____________
* شاعر وناقد