“واجب” الفلسطيني.. دعوة فرح ودعوة للتأمل

دعوة فرح دعوة فرح

لاشئ يمس المتفرج مثل التفاصيل الإنسانية البسيطة، التي تستطيع من خلالها أن تقول كل شئ، سياسيا وثقافيا واجتماعيا. هذا ما فعلته آن ماري جاسر كتابة وإخراجا في فيلمها الممتع والمؤثر “واجب” من بطولة محمد بكري وابنه الممثل الشاب صالح بكري.

من رحلة توزيع دعوات فرح، ومن خلال بيوت الناصرة وأهلها، يرسم الفيلم ملامح مجتمع كامل، يعيش تحت الاحتلال، ويرسم في نفس الوقت زاويتين مختلفتين للرؤية، يعبر عنهما الأب المقيم في الوطن المحتل، وابنه القادم من إيطاليا، والذي غادر الوطن لأسباب سياسية، وعاد إليه متأففا، لا يرى شيئا جميلا، ولا يعنيه إلا أداء واجب مساعدة الأب في توزيع دعوات الفرح، ثم العودة من حيث أتى، فلا فائدة في الإقامة، لأنه من الصعب تغيير الأحوال.

ليس الفيلم إذن عن فرح آمال (ابنة العجوز وشقيقة الشاب)، ولكن رحلة توزيع الدعوات هي النافذة التي سنطل منها على البشر والأماكن، وعلى ماضي الأسرة وحاضر الوطن، وهي أيضا النافذة التي سنطل منها على تناقضات الأجيال، وتناقضات الرؤية بين المقيمين في الوطن، والبعيدين عنه، بين من يديرون أمورهم يوما بيوم في الواقع المعاش، وبين العائشين في واقع آخر، المسألة تتجاوز أبو شادي وابنه شادي، لتعبر عن قطاعات فلسطينية واسعة تتبنى زاويتي الرؤية التي ظهرت في محاورات الأب والابن، سواء أكانت مناقشات عاصفة أم هادئة.

الأب والإبن: تجسيد لجيلين

براعة المعالجة والكتابة في امتزاج السياسي بالاجتماعي على نحو متماسك لا يمكن فصله، شاهدنا لوحة واسعة لنماذج مختلفة، من كل الطبقات والمهن تقريبا، وقبل أن تندمج في استعراض مجتمع عادى يستعد أحد أفراده لفرح ابنته، وقبل أن تأسرنا الببغاوات الملونة، والدعابات العفوية، والمنازل العتيقة باذخة الجمال، يظهر في وسط الشوارع العلم الإسرائيلي، أو اثنان من جنود الاحتلال وهما يأكلان في مطعم، ثم نعرف أن الآب أبعد ابنه المهندس المعماري الى إيطاليا، خوفا عليه من الاعتقال، بعد أن أنشأ  الابن ناديا للسينما، اختار فيه للعرض أفلاما سياسية، أزعجت أجهزة الأمن الإسرائيلية.

المرارة التي يشعر بها شادي ليست سياسية فقط، ولكن لها جانب اجتماعي قديم، يخص أمه التي هربت مع عشيقها تاركة الأسرة، وما زالت سمعة الأم حاضرة، يستعيدها شادي عرضا من  صوت كوافيرة سلمها دعوة الفرح، شادي دفع ثمن انكسار الأسرة والوطن معا، وهو نفس ما تعرض له والده، ولكن الأب هنا في الناصرة، والابن هناك في إيطاليا، أبو شادي يؤمن بأن عليه أن يدبر أموره، وأن يجامل، ويروض، ويكذب أحيانا، عليه أن يتعامل مع  الفلسطيني والإسرائيلي معا، خبرة عملية أقرب الى المشي على السلك، وتختلف تماما عن حياته الطويلة كمدرّس قديم، يتقبل التحية من طلابه في كل مكان.

يعمل الصراع على المستويين: انتقاد الابن لمجتمع تحكمه التقاليد، ويخلو من النظام ومن الصراحة، والمستوى الثاني  هو اعتقاد الابن أن والده العجوز مهادن للاحتلال، الى درجة دعوة جاره الإسرائيلي للفرح، بينما يرى الابن أن الجار عميل لجهاز الأمن الداخلي، شادي يقول إنه يعيش في متحف مفتوح في إيطاليا، ولا يعجبه شىء في الناصرة تقريبا، من صوت المغنى، الى  شكل القمامة وشوادر الفرح، بينما الأب متعايش مع واقعه، ويقوم بترويضه، ليحصل على أفضل المتاح، هكذا فعل طوال الفيلم، الفرح والمتعة يحصل عليهما من ثقب إبرة: من اختلاس سيجارة، رغم وجع القلب، الى الموافقة على دفع نقود، لتصحيح خطأ في دعوة الفرح، مسؤول عنه صاحب المطبعة، حتى فضيحة زوجته، والدة شادي، تعامل معها ببساطة رغم الألم ، قام بتربية ابنه وابنته بعد هروب امهما، بل إنه يقول لابنه في السيارة إنه سامح زوجته الهاربة.

فيديو من الفيلم

الصراع أكبر من كونه صراع أجيال، رغم أن تفاوت السن أيضا يجعل من تفاوت الرؤية أمرا طبيعيا وغير مستغرب، ولكن المعنى الأوضح هو انتقاد الفلسطيني المقيم بالداخل، للفلسطيني المقيم بالخارج، والعكس أيضا صحيح، منطق أبو شادي هنا ليس في مواجهة منطق ابنه الزائر فحسب، ولكنه أيضا في مواجهة منطق رشا صديقة شادي الفلسطينية، المقيمة في إيطاليا، وفي مواجهة منطق والدها الفلسطيني نزار، عضو منظمة التحرير الفلسطينية، العائش أيضا في إيطاليا، وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم، تتصل رشا وأبيها بشادي، ويّجبر أبو شادي على محادثتهما، حيث يكتفيان بالتشوق الى الوطن، والحديث عن جماله، بينما يكون أبو شادي في طريقه للاصطدام بمتجر يبيع هدايا عيد الميلاد، وفي مشهد آخر ينفي شادي أن والد صديقته  المقيم في روما قد سجن، فلما يطلب منه اسم سجين فلسطيني، يتذكر  فقط  مروان البرغوثي، الفلسطيني المقيم والمرابط في الوطن.

ولكن الفيلم لا ينحاز الى طرف على حساب الطرف الآخر، ولا يشكك في وطنية الفلسطيني المقيم، ولا الفلسطيني المهاجر اضطرارا، وإنما يدعو الى أن يتفهم كل طرف، الجانب الآخر، وهو ما سيحدث أخيرا في مشهد النهاية البديع: لن يخفي الأب السيجارة، ولكنه سيدخن أمام ابنه، ولن يكرر الابن تحذيره للأب بمنع التدخين خوفا على قلبه، وسيوافق الأب على منطق الابن بشأن شوادر الفرح، فيتفهم الابن بدوره رأى الأب بإدخال البهجة على العروس، التي تريد الشوادر، يتصالح المنطقان على أرضية التفاهم، ذلك أن الاب وابنه، والفلسطينيون عموما، يعانون بسبب الاحتلال، سواء في الداخل، أو في الخارج، ولا يحتاجون الى صراع بينهم، يزيد الأمر سوءا.

تتحول دعوة الفرح، والمشاهد الساخرة البارعة، الى دعوة لتأمل الحال الراهن، والى دعوة للتفاهم، تصب الرحلة الاجتماعية، في المعنى السياسي، لا تتغير ملابس الابن الملونة، ولا تسريحة شعره، ولكن تتغير نبرة صوته، يجرب أن يكون على موجة أبيه لكى يفهمه، ولن يتغير الآب كذلك، لن يكف عن ترويض مآسيه الشخصية، ولا جيرانه، ولا مرضه الخطير، ولكنه سيتفهم حنق الابن، الذي ترك وطنه، والذي يرفض أن يعود إليه للاستقرار، ثم تكافئ الكاتبة الجميع بعقد الفرح، بعد أن ظننا أنه لن يتم: مات زوج الأم، لذلك ستحضر، ولعلها تنويعة أخرى على التفاهم مع الماضي المؤلم، إنها النهاية التي تذكرنا بالبداية: صوت أخبار الوفيات في راديو السيارة في بداية الفيلم، لن يمنع من توزيع دعوات الفرح، وموت زوج الأم في النهاية ، سيجعلها تحضر الفرح، لا الموت ولا الحزن يمنعان الفلسطيني من الفرح.

أداء تمثيلي بارع من محمد بكري وابنه صالح بكري

سيناريو ذهبي فعلا ، هناك مشهدان عظيمان تمنيت أن يصنعا ذروة الفيلم بدلا من العودة بينهما لتوزيع الدعوات، وتفريغ شحنة الانفعال: أعنى بذلك مشهد بروفة فساتين الابنة، ومشهد مواجهة الأب وابنه بعد النزول من السيارة، تمنيت أيضا حذف مشهد لقاء الابن بجار يبلغه بأن والده طيب ويحبه، لا أظن أن الابن لا يعرف ذلك، هناك بالتأكيد أداء متفوق من محمد بكري وصالح بكري، قدرة آن ماري جاسر  على إدارة ممثليها لا تقل عن  رؤيتها البصرية، هي ترى الناصرة جميلة جدا، مثل مدينة سياحية على “كارت بوستال”، لا يلوثها إلا علم غريب، من أفضل مشاهدها كمخرجة بناء وتقطيع مشهد قياس فستان العروس، تنويع اللقطات، واستغلال انعكاس صورة الأب على المرايا، كل شىء في وقته، وفي مكانه، من تكتب وتنفذ  هكذا مشهد كاتبة ومخرجة كبيرة حقا .

جاء الابن الى الناصرة ليؤدي “واجبا متوارثا”، وهو مصاحبة والده لتوزيع دعوة فرح الأخت، على كل جار وصديق، في نهاية الرحلة، سيكتشف الابن “واجبا” أهم عليه أن يؤديه، هو أن يفهم والده، وأن يتفهم منطق “المقيمين هون”، تأخذ فكرة “الواجب” معناها الأعمق: أن تفهم الآخر، لا أن تسلمه دعوة فرح فحسب، ثم تغادر.

Visited 79 times, 1 visit(s) today