هيباتيا أو “حبيشة”: الاسكندرية.. التاريخ والحاضر
تأخذنا الأثرية البريطانية بيتانى هيوز الى عالمها الخاص، حيث يبدأ الفيلم التسجيلى “حبيشة والاسكندرية” (أو هيباتيا والاسكندرية) بلقطة تستقبل هيوز وهي تصعد درجات متحف الاشمونين فى اوكسفورد، ثم وهى تتحدث الينا فيما يُشبه البرولوج المسرحى، حيث تقول انها تعلمت قبل 25 عاما، فى هذا المتحف الذى يُعتبر اقدم متحف فى العالم.
وتواصل الحديث فى هذه اللقطة- المشهد لتحدد لنا بداية التاريخ الحديث، حيث قيل لها عندما كانت طالبة ان تاريخ العالم الحديث يبدأ فيما بين عامى 380 الى 390 ميلادية، ثم تحدد موضوع فيلمها، الذى سيركز على المراحل الاخيرة من التاريخ القديم، فى مدينة الاسكندرية تلك التى بناها الحالم العظيم الاسكندر الاكبر، ليتم استكمال بنائها على يد الرجال الذين خلفوه لكى يتحقق حلمه فى مدينة تجمع العلماء والعمارة والفن وتضم على جدران مكتبتها معارف العالم وعلومه.
ان هذه اللقطة- المشهد ليست لقطة واحدة كما ذكرت فهى ثلاث لقطات، لكن عين المشاهد لن تلاحظ ذلك، فالقطع يتم من بيتانى واليها مرة اخرى لتقترب الكاميرا منها قليلا فى المرتين، وكأن المخرج يستطيع انجاز ذلك بزووم بطئ، ولكن ما فعله باسلوب القطع كان جميلا.
وفى قلب هذه المجتمع السكندرى، فان العالمة والفيلسوفة حبيشة السكندرية، تبرز كشاهد على زمن استثنائى، يشهد انتهاء عصر الوثنية وبداية التاريخ الحديث وسط احداث وقلاقل كانت شاهدة عليها.
وينتقل الفيلم الى المشهد الثانى، حيث يضعنا المخرج على سطح قلعة قايتباى بالاسكندرية، لتواصل بيتانى هيوز حديثها الينا، ويظهر بحر الاسكندرية خلفها، ويستخدم المخرج لقطات من الفيلم الروائى العالمى “اجورا” الذى يتناول قصة حبيشة، للربط بين ما نسمعه على شريط الصوت على لسان بيتانى، وما نراه يتجسد امامنا.
هنا تتداخل الاسكندرية القديمة والحديثة معا فى تناغم واتصال، فالمدينة القديمة مازالت موجودة تحت بحر الاسكندرية وشوارعها، وينتهى هذا المشهد ليظهر عنوان (الاسكندرية، المدينة الاعظم) بأسلوب الطبع على لقطة للمدينة القديمة بمنارتها الشهيرة من فيلم “أجورا”.
ويبدأ الفيلم بعد مشهدى المقدمة بلقطات متنوعة للاسكندرية الحديثة، وصوت بيتانى تقول لنا ان مدينة الاسكندرية وعلى مدى 2300 سنه منذ ان انشأها الاسكندر الاكبر، كانت نقطة الوصل بين الشرق والغرب، وان المدينة القديمة برغم وجود المدينة الحديثة بزخمها الذى يشغل كل جزء فيها، فانها عصية على النسيان.
وعندما تبدأ أولى لقطات الفيلم فى شوارع الاسكندرية نستمع الى صوت طبلة بلدى، هنا فالمخرج نك جيلان سميث يُذكر جمهوره البريطانى بموتيفة لا تُخطؤها الاذن للتعبير عن الشرق ومصر، وتواصل بيتانى حديثها الينا اثناء سيرها فى الشارع، لتخبرنا عن هذا المكان الذى دُفن فيه الاسكندر وشهد كليوباترا ومارك انطونيو ويوليوس قيصر، وان هذا المكان لأحد عجائب الدنيا السبع.
ثم يتواصل الفيلم.. والحقيقة ان تقسيم الفيلم الى مشاهد ليس دقيقا لأن كل مشهد يميل الى ان يكون (بلوكا) حيث يحتوى على مداخلات من لقطات خارج المشهد، لكنها ذات صلة بالموضوع، ومن ثم فالافضل الا نقسم الفيلم الى مشاهد وان نتركه ينساب امامنا فى تدفق مذهل.
سنجد الفيلم يتوقف عند الاسكندر الاكبر، حيث نرى تمثالا له من زوايا متنوعة، وصوت بيتانى تقول ان الاسكندر الاكبر المولود فى مقدونيا، قام بتوحيد اليونان ثم هزم الامبراطورية الفارسية، ليؤُسس اكبر امبراطورية عرفها التاريخ.
ثم يأخذنا المخرج الى منطقة سقارة فى الجيزة، حيث نرى بيتانى هناك تواصل حديثها عن الاسكندر، فقد كان طموحا، فعندما كان عمره 24 عاما، كان العالم تحت سيطرته، لكن اكبر جائزة حصل عليها كانت مصر، وتتطلع بيتانى خلفها باعتزاز الى هرم سقارة المدرج، ثم نراها تمشى فى احد معابد الاقصر.
تداخل
إنه تداخل مكانى مبرر تماما لأن المخرج يريد توضيح فخامة هذه الحضارة التى وضع الاسكندر يده عليها. مصر التى يرويها النيل لتزدهر على ضفافها الابداعات الهندسية، مصر التى كتب عنها هيرودوت ابو التاريخ، ان مكانا فى العالم لا يشبه تلك البلاد العظيمة بانتاجاتها وعظمتها.
غزا الاسكندر مصر فى عام 322 قبل الميلاد، ولكن كيف استطاع الاسكندر ان ينال كل ذلك التكريم من الشعب المصرى؟
هذا السؤال تُجيب عنه الاثرية المصرية سليمة اكرام، التى تصاحب بيتانى فى منطقة سقارة الاثرية وتنزل معها الى مقبرة حابى، فالاسكندر زار معابد المصريين وقدم الاموال والهدايا، فمال المصريون اليه ووقروه.
وفى مقبرة حابى سنرى روعه التصوير الداخلى على اضاءة صناعية غير متكلفة، وسوف نرى لقطات قريبة من نوع كلوز اب، لسليمة اكرام وبيتانى، انها من اللقطات الكلوز اب القليلة فى هذا الفيلم الذى يدوم 52 دقيقة.
ومن هذا المشهد الداخلى ينقلنا المخرج الى لقطة لقرص الشمس بكامل دورانها، مستخدما مرشحا على عدسة الكاميرا، ثم لقطة لسعفة نخل يتلألأ ضوء الشمس من بينها، لينتقل الى بيتانى فى صحراء سقارة وبجوارها عامودان اثريان، لتواصل تعليقها على الاسكندر، الذى نظر اليه المصريون – نتيجة لحسن معاملته وتقديره لثقافتهم – ليس بصفته غازيا او ملكا ولكن معبود متجسد.
وسوف نلاحظ ان المخرج يستخدم عدسة الزوم ليقترب تدريجيا من بيتانى فى هذه اللقطة.
بعد ذلك يتغير المشهد تماما حيث نرى بيتانى على مقعد فى حافلة، يكشف زجاجها الجانبى لنا مشهدا تقليديا للارض المصرية الخضراء والكاميرا تكشف هذه المناظر اثناء حركة الحافلة، بينما بيتانى تتأمل، وبدلا من ان تتحدث الينا كالعادة، فاننا نستمع الى تعليقها من خارج الكادر.
وهنا ينبغى ان نوضح ان شريط الصوت فى هذا الفيلم عبارة عن ثلاثة مستويات تتداخل فيما بينها: اولا المخاطبة المباشرة لبيتانى لجمهور فيلمها وكأنها صديقتهم ، ثم التعليق بصوت بيتانى، وثالثا الحوار عندما تتحدث مع احد ضيوف الفيلم. هذا التنويع الصوتى اساسى ولا غنى عنه، فالفيلم يحتشد بالتفاصيل، ولو استخدم المخرج مستوى واحدا لشريط الصوت لكانت النتيجة كارثية.
وفى تعليقها تقول بيتاني ان خطة الاسكندر للسيطرة على مصر، بدأت من اختياره لمكان مدينة جديدة يتخذها عاصمة، فيقطع المخرج على خريطة مصر التى تصور نهر النيل وعلى ضفافه ثلاثة نقاط تُمثل ممفيس وسقارة والاقصر، ثم تتلون بقعة ملونة فى اقصى شمال الخريطة عند مدينة الاسكندرية، فالاسكندر اراد ان تكون مدينته متصلة باليونان عبر البحر، وان تكون فى القلب من امبراطوريته.
بعد ذلك يقطع المخرج على مياه الاسكندرية وثمة صيادين هواة يدلون سنانيرهم فى المياه المائجة، ثم نرى بيتانى تمشى فى منطقة الطابية وخلفها قلعة قايتباى، مُمسكة بكتاب تستشهد ببعض سطوره عن جزيرة فاروس التى تقف الآن عليها، ثم يقطع على منطقة بحرى الساحلية فى لقطة عامة تتصدرها مراكب الصيد وتحرك الكاميرا (بان) تستعرض المكان.
وبعد ذلك نرى بيتانى جالسة على سطح قلعة قايتباى وعلى قدميها تسند خريطة للاسكندرية، وفى يدها قلم، ثم ترسم به خطا يُمثل الطريق الذى ردمه الاسكندر ليربط الاسكندرية بجزيرة فاروس، وخطا أخر فى منطقة السلسة فى الشرق، ليصنع الميناء الشرقى الذى كان اعظم ميناء فى التاريخ.
ولأننا الآن فى الاسكندرية فالفيلم يقدمها فى لقطات متنوعة بديعة، بمينائها الشرقى وشوارعها النظيفة، وتتداخل لقطات من فيلم اجورا، مع استمرار التعليق، فخلفاء الاسكندر واصلوا العمل لتحقيق حلمه بجعل مدينة الاسكندرية مدينة للتجارة والعمارة والثقافة ، وينتهى هذا القسم من الفيلم بظهور عنوان (الاسكندرية، المدينة الاعظم) مرة اخرى باسلوب الطبع على لقطة للفنار التاريخى مأخوذة من فيلم اجورا.
قسم جديد
ويبدأ قسمٌ جديد للفيلم، بجزء يلخص ما سبق الحديث عنه فى القيلم. انه ليس تكرارا لما سبق شرحه، انه بمثابة التحضير لنقلة جديدة فى الفيلم حيث تظهر لقطات لهرم خوفو فى مشهد الغروب ولقطة لتمثال الاسكندر الاكبر، وهنا يستخدم المخرج اسلوب المزج بين وجه تمثال الاسكندر ولقطة عامة لمدينة الاسكندرية فى علاقة ترابطية.
ثم يبدأ هذا القسم الذى يتناول تفاصيل أكثر تحديدا من الاسكندرية القديمة، من خلال مقبرة اثرية فى منطقة كوم الشقافة، وتتحاور بيتانى مع ضيفها الثانى فى الفيلم. انه كولن كليمنت الذى يُصاحب بيتانى نزولا الى هذه المقبرة، وهو عالم اثرى يتبع مركز دراسات الاسكندرية.
وفى داخل هذه المقبرة نرى ملامح الفن والثقافة لمدينة الاسكندرية القديمة التى تمزج الثقافة الاغريقية والرومانية برموزها وآلهتها بالثقافة المصرية الفرعونية، ويتضح ذلك فى ثماثيل المقبرة او منحوتاتها الجدارية، ونشاهد نحتا جداريا عجيبا برأس حيوان كتقليد فرعونى معروف اما الجسم فانه يرتدى ازياء يونانية.
ونرى بيتانى بعد ذلك فى لقطة خارجية تكشف اطلالا اثرية، تضم اعمدة مهشمة مُلقاة على ارض معشوشبة. انا لا اعرف على وجه الدقة مكان هذه الاطلال لكن الاسكندرية تزخر بمثل هذه الاطلال فى مواقع عدة بعضها فى قلب الكتلة السكنية تُحيطها المبانى من كل ناحية.
فى هذه اللقطة تواصل بيتانى حديثها الممتع عن الاسكندرية ومؤسسها الاسكندر. ان مدينة الاسكندرية ليست مثل مثيلاتها من المدن الاثرية حول العالم، فبنيتها الاولى لا تنتمى الى المرحلة البرونزية او الكلاسيكية لتتواصل بنيتها عبر العصور.
ان الاسكندرية مدينة جديدة (بالمقياس التاريخى للمدن) وهى من ابداع رجل تعلم تعليما عاليا، فالاسكندرعندما كان فى الثالثة عشرة من عمره تعلم على يد ارسطو.
ثم نستمع مرة اخرى الى صوت الطبلة البلدى، بينما بيتانى تظهر وهى تسير لتدخل فى بوابة المسرح الرومانى. ان بيتانى تسمى المكان كوم الدكة.
وهذا هو اسمه الرسمى لكن اهل الاسكندرية يعتبرون منطقة المسرح الرومانى من معالم محطة الرمل فهو الاسم الاكثر شيوعا علما بان مدخل المسرح الرومانى قريب من ميدان الشهداء المعروف باسم محطة مصر.
الضيف الثالث
وعندما تدخل بيتانى الى حرم هذه المنطقة الاثرية الهامة تتقابل مع الضيف الثالث للفيلم، انها ايمانولا كوليكا، واحدة من البعثة الاثرية البولندية، التى تقدم لبيتانى واحدة من انجازات بعثتها ، فقد انتهى تنقيب هذه البعثة – الذى استمر لسنوات طويلة – على اكتشاف قاعة محاضرات.
لقد شهدت بنفسى هذا التنقيب منذ حوالى سبعة عشر عاما اثناء زيارتى نهارا للمسرح الرومانى، حيث اقتربت فى فضول من اثرى كان منكبا على عمله بمفرده على الارض يزيح عنها الاتربة بكف يده وتعرفت عليه، وكان بولنديا.
نرى قاعة المحاضرات المكتشفة بحالة جيدة وبوضوح تام، وهى تتخذ شكلا مستطيلا يتكون من ثلاثة مدرجات لتستوعب ثلاثين طالبا كانوا يدرسون فى مثل هذه القاعات القانون والعلوم، كما تستفسر بيتانى عن مكان المحاضر، فتشير ايمانولا الى درجات تطل على القاعة فتجلس بيتانى على هذه الدرجات، وتوجه ملاحظة، ان المكان حار جدا هنا، فترد عليها ايمانولا بان قاعة المحاضرات كانت مسقوفة بسقف ارتفاعه نحو اربعة او خمسة امتار ينتصب على اعمدة حجرية مازالت بقاياها موجودة.
وتتداخل لقطة من الفيلم الروائى “أجورا” لقاعة محاضرات فى كامل ابهتها بأسلوب المسح فتبدو القاعة فى فيلم “أجورا” متطابقة تماما مع القاعة الاثرية، لقد كانت الاسكندرية ونتيجة لهذا التعليم العالى تزخر بالافكار والرؤى الطليعية، وتتابع لقطات من فيلم اجورا ونسمع صوت بيتانى تتحدث عن مستوى المعرفة آنذاك فعلماء الاسكندرية ابتكروا الادوات العلمية التى تمكنهم من الاحاطة العلمية الدقيقة للكون، كذلك فان كروية الارض كانت معرفة لهم وان الارض تدور حول الشمس.
وهنا يبدأ الفيلم فى الاشارة الى حبيشة السكندرية. لقد مضى نحو نصف الفيلم تقريبا، لكن هذه المقدمة لا غنى عنها، انها تؤسس للموضوع الرئيسى الذى لا يمكن تناوله بمعزل عن السياق التاريخى والحضارى الذى ظهرت فيه عالمة وفيلسوفة استثنائية مثل حبيشة.
ان العالمة السكندرية حبيشة، والتى انتجت السينما العالمية لها فيلما روائيا برأس مال اسبانى ونجوم امريكيين، تستحق كل هذا الاهتمام، انها بالاضافة لكونها فيلسوفة، فانها ايضا عالمة رياضيات وفلك، لم يقتصر دورها على ذلك فقط بل انها ايضا اخترعت الاسطرلاب، ذلك الجهاز المعدنى الدائرى، الذى نعرف كيف يعمل من خلال ضيف الفيلم الرابع.
انها الاستاذة هدى الميقاتى، وتتحاور معها بيتانى داخل القبة السماوية فى مكتبة الاسكندرية، ونلاحظ ايضا روعة التصوير الداخلى على الاضاءة المتاحة، وكثرة استخدام الكلوز اب فى مثل هذه المشاهد الداخلية.
لم تكن تلك الفقرة من الفيلم مباغتة فقد مهد لها المخرج بلقطات لمكتبة الاسكندرية ومتابعة بيتانى والدكتورة ميقاتى تدخلان المكتبة.
ويستكمل المخرج هذا البلوك بلقطة خارجية من شرفة غرفة بيتانى فى الفندق الذى يطل على الميناء الشرقى فى محطة الرمل ليلا، وهي لقطة بديعة تستغلها بيتانى للتأكيد على اهمية الانجازات العلمية والمخترعات التى وصلتنا من تلك المدينة الاسطورية بينما يظهر انموذج من اسطرلاب حبيشة بين يديها، ثم تدخل عدة لقطات من فيلم “أجورا” فتظهر الاسكندرية القديمة حية وصاخبة بمبانيها، لينتهى هذا القسم من الفيلم بنفس العنوان “الاسكندرية، المدينة الأعظم” بأسلوب الطبع على لقطة الفنار من فيلم أجورا.
ويبدأ قسم جديد للفيلم، بلقطة لمدينة الاسكندرية الحديثة بمبانيها الشاهقة، ولقطات لشوارعها، فتتداخل لقطات من فيلم “أجورا” لنفس الشوارع، والحديث مستمر عن حبيشة.
الاسكندرية والطب
ويحتوي الفيلم على لغة حوار بليغة اقرب الى الشعر، سواء فى وصف حبيشة أو الاسكندر او مدينته التى كانت ارهاصة بعصر العلم.
وهذا القسم من الفيلم مخصص لعلم الطب الذى كان احد انتاجات هذه المدينة العظيمة من خلال العالم جيلار، وبيتناى تتحدث الينا وهى تستقل سيارة تجوب شوارع الاسكندرية، لكنها عندما تبدأ فى تقديم الانجاز الطبى تنتقل الى معمل (فى الغالب بريطانى) لعلم تشريح الحيوان.
ونرى ضيف الفيلم الخامس وهو عالم التشريح البيطرى، دكتور ديفيد بينبريدج، الذى يشرح على اجزاء حية من مخ واعضاء حصان، ويفسر لنا كيف ان جيلار هواول من درس المخ دراسة علمية، وان علم الطب والتشريح كان جديرا بان يتحقق عند المصريين.
فالمصريون كانت لهم خبرة فى التحنيط، واستخراج الاعضاء القابلة للتعفن من جسم الشخص المحنط قبل تحنيطه، وتتدخل بيتانى لتوضح انهم كانوا يستخرجون المخ من انف المتوفى على سبيل المثال، فيصصح لها ديفيد بان هيرودوت هو من قال ذلك ولكنه خطأ فالانف صغيرة ولا يمكن استخراج المخ منها.
ونعود فى هذا القسم مرة اخرى الى الاسكندرية الحديثة وشوارعها مع لقطات من الاسكندرية القديمة المأخودة من فيلم اجورا، بهدف التمهيد لقسم جديد من الفيلم لا يستهله المخرج بتكرار للعنوان كما سبق ان عودنا.
مكتبة الاسكندرية
هذا القسم الجديد يتناول مكتبة الاسكندرية، التى تمثل طموح المعاصرين لضم كل نسخة من اى كتاب فى العالم الى ارفف مكتبة الاسكندرية، تماما مثلما كانت المكتبة القديمة التى اختفت تماما.
ان لقطات المكتبة رائعة وثمة لقطات من فيلم “أجورا” للمكتبة القديمة بلفائف البرديات الموضوعة بداخل ارفف المكتبة، وتضم المكتبة الحديثة العلوم والآداب وكافة المعارف، كما تضم شتى اللغات، والقديم منها مثل اليونانية والعبرية واللاتينية والبابلية والعربية.
وهنا يجب ان نتوقف لاثارة قضية سبق ان اخذت حيزا كبيرا من اهتمام الرأى العام المصرى وربما العالمى، فقد سبق لوزير الثقافة المصرى فاروق حسنى أن نفى فى مجلس الشعب ان تكون الكتب العبرية موجودة فى مكتبة الاسكندرية وذلك ردا على استجواب من احد الاسلاميين وقال انه سيحرق اى كتب من هذا القبيل، ثم عاد واعتذر عالميا عندما كان مرشحا لادارة اليونسكو.
والحقيقة ان وجود الكتب العبرية فى مكتبة الاسكندرية لا يُمثل اهانة للمكتبة او الثقافة العالمية، فالازهر الشريف نفسه يعتمد فى مرجعياته احيانا على التراث العبرى فيما يُعرف باسم الاسرائيليات، فالتراث العبرى هو تراث انسانى ومرجعى لاتباع الدين المسيحى والاسلامى، كما انه تراث انسانى عالمى بصرف النظر عن الموقف الراهن من الصراع العربى الاسرائيلى.
كما تضم المكتبة بقايا برديات تُعتبر النسخ الوحيدة والفريدة من نوعها، وهنا يبدأ الفيلم فى التركيز على البرديات، وجهود ترميمها والحفاظ عليها، وهذا الجهد ليس مقتصرا فقط على مكتبة الاسكندرية بل فى اماكن شتى من العالم.
فنخرج الى فناء مكتبة كلية كريست تشارش باوكسفورد فى بريطانيا، ونرى بيتانى تعبر هذا الفناء المعشوشب البديع لكى تدخل الى هذه المكتبة، ثم تستضيف عالم برديات متخصص هو الدكتور ديرك اوبينك الضيف السادس فى الفيلم وفيما حوله بقايا برديات مُرممه.
ويقول دكتور ديرك ان المكتبة تحتوى على نصف مليون من بقايا البرديات، من بينها بقايا برديات لهوميروس سواء لملحمة الالياذة او الاوديسيا، وبعضها برديات فلسفية او تراجيديات وكوميديا اغريقية.
ترجمة مناندر
والحقيقة اننى انا نفسى قمت بترجمة مسرحية للشاعر الكوميدى الاغريقى مناندر من الترجمة الانجليزية اسمها التذمر، وقد تم اكتشاف هذه البردية فى صعيد مصر فى مطلع خمسينيات القرن العشرين، ولولا هذه البردية ربما لم يكن العالم قد عرف شيئا عن مناندر سوى اسمه واسماء مسرحياته المائة.
ان قانون الاسكندرية القديمة كان يحظر مغادرة الكتب البلاد، كما يحتم تفتيش اى سفينة تدخل البلاد واستنساخ ما تحتوى عليه من برديات.
ونرى بيتانى مرة اخرى فى مكتبة الاسكندرية لتخبرنا ان عدد الكتب الورقية يصل لنحو نصف مليون كتاب حتى الآن، كما تُطلعنا على الكومبيوير العملاق الذى يحتوى على كافة المعلومات الالكترونية من كافة مواقع الويب.
ان طموح مكتبة الاسكندرية الحديثة شبيه بما كان عليه حال المكتبة القديمة التى كانت تحتوى على كل الكتب بالمعنى الحرفى للكلمة، ثم ينتهى هذا القسم بتكرار لقطة المنار المطبوع عليها عنوان (الاسكندرية، المدينة الاعظم).
مأساة المدينة
ثم يبدأ قسم جديد للفيلم وهو قصير جدا يتناول من خلال لقطات من فيلم اجورا وصوت بيتانى، تلخيصا لمأساة الاسكندرية التى انتهى عصرها الذهبى بالتدمير العمدى لآثارها ومكتبتها، ان هذا القسم القصير جدا يُعد بمثابة تمهيد لأهم اقسام الفيلم والذى يبدأ ايضا بظهور عنوان (الاسكندرية، المدينة الاعظم ) بأسلوب الطبع على لقطة للمدينة القديمة بمنارتها الشهيرة مأخودة من فيلم “أجورا”.
ويبدأ هذا القسم الجديد بسماعنا لموسيقى تبدو شرقية تماما، بلحنها الحزين الذى تعزفه آلة الناى، ونستمع الى صوت بيتانى تخبرنا، انه مع حلول عام 380 ميلادية، وبعد ان عاشت الاسكندرية مزدهرة لمدة سبع قرون، وقادرة على تقديم الافكار والمفكرين من امثال حبيشة حيث نرى صورة بورترية لها .
وتواصل بيتانى قائلة ان الاسكندرية كانت المدينة الاعظم بعد روما، ليس كقوة عسكرية ولكن بقوتها العلمية وانجازاتها الحضارية.
ثم نرى كنيسة من كنائس الاسكندرية بنقوشها الزاهية، ونرى بيتانى بداخلها، تُحدثنا عن ظهور الدين المسيحى وازدياد اتباع هذه الديانة فى العصر الذى تواجدت فيه حبيشة.
ظهرت المسيحية فى الاسكندرية منذ القرن الاول الميلادى، ليتم اتخاذ المدينة كقاعدة لنشر المسيحية فى افريقيا، ولم يكن ثمة خوف من ازدهار المسيحية فى المدينة القديمة، بل ان آباء المسيحية الاوائل قدروا انجازات الحضارة اليونانية والرومانية مثل اعمال ارسطو وبلوتو.
لقد كان عصر تسامح وتعايش بين اتباع الوثنية والدين المسيحى، لكن الصراع بدأ بين الوثنية والمسيحية كأمر حتمى، ثم تحولت المسيحية الى المطالبة بان تكون – ليس فقط تيارا روحانيا يؤمن بوحدانية الله – ولكن ان تكون ايضا صاحبة قوة.
كانت حبيشة وثنية ولكن عددا من تلامذتها كانوا مسيحيين وبدأ الصراع مع القسيس سيريل مم ادى الى صدام كانت حبيشة ضحيته.
ثم يظهر الضيف السابع للفيلم وهو تين بولارد ، المؤرخ والاثرى الذى عمل مستشارا فى فيلم اجورا، ولوحة المعبد القيصرى تبدو فى الخلف منه، ويُخبرنا أن المسيحيين نظروا الى حبيشة نظرتهم الى الساحرات الدجالات.
ونسمع صوت بيتانى تقول ان احد معاصرى حبيشة كتب ان اختراعها للاسطرلاب، اُعتبر قرينة لاتهامها. ونرى بيتانى فى شارع بالاسكندرية، قريبا من مسرح سيد درويش، ونقرأ عنوانا بان هذا المكان، كان هو مكان المعبد القيصرى.
قتل حبيشة
لقد تم تدمير المدينة فى هذه الظروف الاستثنائية، كما تم قتل حبيشة، وماتت كساحرة ودجالة بالمفهوم المسيحى، اما الاسكندرية فلم يبق من مكتبتها الا 1 % فقط من لفائفها.
ثم نرى بيتانى فى لندن بالقرب من جسر فيكتوريا الشهير، وتُشير خلفها الى مسلة مصرية، تلك التى يُطلقون عليها الآن مسلة كليوباترا. انها احد آثار مدينة الاسكندرية، ونرى نفس المسلة فى لقطة من فيلم اجورا. وكان قد تم استحضار هذه المسلة من مصر عام 1878.
ثم نرى بيتانى ايضا تواصل المسير وتتوقف بجوار تمثال مصرى آخر ينتصب فى هذه المنطقة الهامة من لندن، لكى تنهى بيتانى فيلمها على حقيقة ان الاسكندرية القديمة زالت، لكنها برغم ذلك جديرة بان نحتفى بها وبانجازاتها.
ما أروع هذا الفيلم الذى يحتشد بالمعلومات التاريخية، وبالمشاهد المأخودة من الواقع لتتعاشق مع مشاهد من فيلم اجورا، وما اروع اداء بيتانى هيوز التى لا تقل روعة عن الممثلات المحترفات.
وتمر علينا ال 52 دقيقة دون ان نشعر، فايقاع الفيلم سريع، وبرغم ذلك لا يفوتنا منه اى تفصيلة.
انه تجربة فيلمية جديرة بالمشاهدة، وهو ايضا نموذج للفيلم التسجيلى المعاصر الذى ترسخ فى بريطانيا، ولعلنا فى مصر والوطن العربى نهتم اكثر بنوعية الفيلم التسجيلى، فهو فى اهمية الكتاب لنشر الثقافة فى عصر الوسائط المتعددة.
لقد عثرت على هذا الفيلم الاستثنائى مصادفة عبر الانترنت، حيث يتوفر فى موقعين على الاقل، وقمت باضافته الى ( البلاى ليست) فى قناتى على اليوتيوب لينتفع به الجميع، آملا ان يكون مقالى كافيا للاحاطة بهذا الفيلم العظيم الناطق باللغة الانجليزية. ويمكن مشاهدة الفيلم على الرابط التالى :-
فريق العمل بالفيلم
تقديم بيتانى هيوز
المشاهد الدخيلة :- من فيلم اجورا
تأليف :- جاستين بولارد ( الذى شارك فى انتاج الفيلم )
تصوير :- ميكو كرافن تود
صوت :- محمد بطوط ومارتن ويلسون
موسيقى :- وحدة اوديو نت ورك
رسوم :- جينجر هوو
مونتاج مباشر :- بن كال
مكساج :- مالكولم بيتى
ادارة الانتاج :- شاهانا مير
مسؤول مواقع التصوير :- محمد حواش
منتج مساعد :- جاك ماكنس
مدير انتاج :- زووى تيرنر
مونتاج استوديو :- اوليفر بيكر
تنفيذ الانتاج :- تليفزيون ليون , و بل لوك , وريتشارد برادلى
اخراج وانتاج :- نك جيلان سميث