هل هي النهاية؟ أكيرا كيروساوا يجيب “ليس بعد”!
حسن سلامة
سُئل المخرج “هاياو ميازاكي أحد مؤسسي ستيديو جيبلي لأفلام الأنمي وأفضل مخرجيها، عن رأيه في المخرج الياباني الكبير أكيرا كورساوا. وكان رد ميازاكي أن كل لقطة من فيلم لكيروساواكفيلة بأن تتغلل إلى أعمال
نفسك وأن تلمسك بعمق.
وبالرجوع إلى مسيرة كيروساوامن الممكن فصل مسيرته إلى شقيّن، الأول؛ أفلام النوار والساموراي مثل “الساموراي السبعة”، “يوجمبو”، “عرش الدم”، “اللحية الحمراء”، “النوم السيء”، و”الملاك السكران”.
والشق الثاني يشمل الأفلام التي طغت فيها ذاتية كورساوا، فهي تعكس نزعته الإنسانية ونظرته تجاه غيره من البشر وتجاه الحياة بأكملها فتتسم بأنها أفلام تغلب عليها نزعة تأملية في المقام الأول ومن ثَم يحكي كيروساواحكايته بدءًا منها.
وقد ظهرت تلك النزعة في مسيرة كيروساواككل، لكنها تجلت أكثر في بضعة أفلام منها “اكيرو”، “القلعة المخفية”، “ران”، مادادايو”، و”درسو أوزالا”.
المُطلع على سينما كيروساواقد يستنتج ببساطة سبب تلك النزعة عنده، فنجد أن كيروساواقد تَأثر تأثُرًا شديدًا بالأدب وخاصة بأدب شكسبير. ويتجلى تأثر كيروساوابمسرحيات شكسبير بقوة في أفلام مثل “عرش الدم” عن مسرحية ماكبث، و”ران” عن مسرحية الملك لير، و”النوم السيئ” عن مسرحية هاملت.
وربما اختار كيروساوا تلك المسرحيات خاصة لأنها تشترك جميعها بأن أبطالها يعانون من خلل ما في شخصياتهم يودي في النهاية بحياتهم وسمي ذلك الخلل بـ”عقدة شكسبير، أو السقطة التي تودي بحياة أبطاله”.
تأثر كيروساواأيضًا بالأدب الروسي فحاكى رواية تولستوي، “موت إيفان إيليتش” في فيلمه “أكيرو”. والذي يعني لكي أعيش؛ وعلى نقيض الرواية الأصلية التي يكون محور أحداثها عقب موت إيفان إيليتش وتحكي عن لحظاته الأخيرة قبل الموت. وهنا يهب كيروساوا الحياة لإيفان فيسعى إلى عيش أيامه الأخيرة كما أراد أن يعيشها طوال حياته وأن يترك أثرًا خيرًا بعد وفاته.
تأثر كيروساوا أيضًا بالمارد الروسي الأكبر فيودور دوستويفسكي فحاكى رواية دوستويفسكي الأبله بفيلم يحمل نفس إسم الرواية، ويظهر أيضًا التأثر الشديد بشخصية راسكولنيكوف بطل رواية “الجريمة والعقاب” في فيلمه “الأعلى والأسفل”.
في سنوات حياته الأخيرة كان كيروساوا يفقد بصره تدريجيا، والغريب أن أفلامه بدءًا من تلك الفترة حتى نهاية حياته هي أكثر أفلامه ثراءً على المستوى البصري.
وقد بدأت تلك المرحلة بفيلم درسو أوزالا (1975) و”كاجيموشا” (1980)، مرورًا بفيلم “أحلام” (1990)، وحتى فيلمه الأخير “مادادايو” (1993).
تظهر بشدة معاناة كيروساواالذاتية في فيلمه “درسو أوزالا” وهو عن عجوز يفقد بصره تدريجيًا، يتغنى ذلك العجوز بالطبيعة ويرفض المدنية، أو يشعر تجاهها بأن الإنسان لا شيء أمامها، مهمش، مسلوب القوى والحرية..
كان ذلك الفيلم بمثابة سرد لما يعانيه كيروساوا من ألم داخلي، وضعف كبير يظهر فيما أقب هذا الفيلم من تجارب. ويسرد كيروساوا في فيلمه “كاجيموشا” حياة شخصين هما إنعكاس للضعف والقوى، التردد والهيمنة، على غرار رواية دوستويفسكي المزدوج.
أما في فيلمه “أحلام” فيظهر هاجس الموت الذي يعتري كيروساوا في تلك التجربة بشكل كبير، فيعرض مخاوفه في شكل أحلامٍ تُرثي الطفولة والطبيعة وتلعن الحروب والشر المتأصل في الإنسان وتهاب الفناء. ربما تبدو تلك هواجس أكثر منها أحلام.
يقال أحيانًا إن المخرج في نهاية حياته يعجز عن تقديم أفلام في مستوى تجاربه الأولى، نظرًا لكبره في السن وهواجس الشيخوخة، حتى فيلليني نفسه قد كان عرضة لذلك.
كيروساوا بخفة روحه وبراءته التي دومًا ما رافقته، ينهي مسيرته بأحد أعذب التجارب السينمائية وهو فيلم “مادادايو” أي ليس بعد، ويمكن القول أن ذلك الفيلم كان أكثر أفلام كيروساوا ذاتية، وعذوبة أيضًا.
يبدأ كيروساوا فيلمه بتقاعد مُعلم عجوز عن العمل، يخبره طبيبه أنه لم يتبق له الكثير في حياته، سنين معدودة ربما احتفال المعلم المتقاعد كل عشرة سنوات ولكن من يموت بدلًا منه هو طبيبه الخاص، الذي أخبره باقتراب موعد وفاته.
تمر الكثير من السنوات ولا يموت المعلم، يحتفل كل عشرة سنوات بأنه ما زال على قيد الحياة.. يغني تلاميذه في كل احتفالية في إشارة إلى الموت
ألم يحن الوقت بعد؟ ليجيب: “ليس بعد”، ويبدأ بالرقص والاحتفال.
يرصد كيروساوا الجانب الهش في روح العجوز، فالشيخوخة والتقدم في السن لا ينفكان عن مطاردته، فينخران في جسده، يمرض أحيانًا ويشعر بالعجز في أحيان كثيرة، يبدو كطفل يحزن لرحيل قطته التي آنسته دومًا ويحزن لرحيل الأحِبة.
يمرض العجوز بآخر أيامه حتى يظن الجميع أن موعد موته قد حان، في أحد الأيام وبينما يرقد بفراشه ويستغرق في نومه، أو موته ربما؛ يحلم بطفل صغير يلعب لعبة الاختباء مع أقرانه الذين يبحثون عنه، ينادونه: “ألم يحن الوقت بعد”؟، ليرد الصغير: “كلا لم يحن الوقت بعد”.
ربما يخبرنا كيروساوا بأهمية أن يعيش ذاك الطفل بداخلنا، فوجوده هو دائمًا ما يعطي للروح رونقها ويدفع الإنسان للرغبة في العيش..
لا ينفك ذاك الطفل يتزود بالحياة، لا يتوقف عن دهشته تجاهها، يؤكد كيروساوا على أهمية التمسك بها وعدم الرضوخ للموت، يختبئ ويعاود الظهور في كل مرة وبكل حيوية، كيروساوا يخبر الجميع أنه في كل مرة قد ظن الجميع فيها أنه في طريقه للانتهاء أنه كان ذاك الطفل الصغير، فهو يحميه ويكتنفه من شر العالم.
ربما حتى يطمئن كيروساوا نفسه بأنه إذا فني جسده، وفنيت روحه، فما زال فنه باقيًا كطفل صغير يخاطب كل إنسان فينا ببراءة، وتكون آخر لقطة في مسيرة كيروساوا هي نظرة الطفل الصغير نحو الشمس وهي في طريقها للغروب.