هل كان يوسف شاهين يروج للتطبيع في فيلم “المهاجر”؟
سيد القمني
بينما كنتُ أُجري جراحةَ القلب بأمريكا، بدأ عرضُ فيلم المهاجر، وبدأت أيضًا التداعياتُ حوله، ووصلني بعضُ ما كُتب حول الفيلم، وفاتني الكثيرُ، وتابعتُ القضيةَ حتى انجلى الأمرُ وتمكنتُ من مشاهدة الفيلم بعد إعادة عرضِه، وآثرتُ التريثَ قليلًا حتى تهدأَ العاصفةُ لتُفسح مكانًا للعقل. وإبَّان متابعتي لما تكبته الصحفُ السيارة والمجلَّات، طالعتُ عددًا من وجهات النظر بعضها كان يهاجم بحجة أن الفيلم عمَد إلى تشويه الشخصية المصرية والتاريخ المصري لصالح الصهاينة، والبعض الآخر كان يهاجم، لأن الفيلم في رأيه كان دعوة صريحة للتطبيع مع دولة إسرائيل، هذا ناهيك عن المهاجم الأساسي الذي وقف مؤسسيًّا وراء فرد رفع دعوى ضد الفيلم. باعتباره يُجسِّد شخصية النبي يوسف، وسط أحداث وحوار لا يليق بشخصية النبيِّ. وتأسيسًا على هذا الموقف، تأسَّس موقفٌ آخر على النقيض تمامًا، وقف إلى جوار المخرج والفيلم بدون تحفظ، منطلقًا من حقِّ الفنان في طرْح ما يراه دون أية قيود، وتمَّ إبَّان ذلك خلطُ كثير من الأوراق المتناقضة، بحجة أن المسألة هي مستقبلُ الثقافةِ في مصر، وأن المبدعين والمثقفين قد أصبحوا في مواجهة تيارٍ سلفي شديدِ الجمود والنصيَّة.
تلفيق لا يليق
وبدايةً لا يمكن هنا بالطبع أن نُلقيَ بالًا إلى الاتجاه الذي أدان الفيلم لمجرد أنه يُشخِّص الأنبياء. كما يجب في هذا الإطار أن نتجاهلَ أيضًا وتمامًا ردودَ المخرج وحوارييه ومؤيديه، الذين أخذوا يؤكدون أن الفيلم لم يقصدْ تصويرَ قصة النبي يوسف كما وردت في القرآن الكريم، إنما دارت أحداثُ الفيلم على نحوٍ مشابه لقصة ذلك النبي؛ لتتخذ من عبرة القصة نموذجًا وقدوة ومثلًا أعلى للشباب، للثبات أمام المغريات الدنيوية والشهوات البهيمية كما ورد في صحيفة الدفاع، وتجاهلُنا هنا لتلك الردود يعمد إلى المصداقية بعيدًا عن لعب كلٍّ من الطرفين لكسب القضية القانونية وقضية الرأي العام بأي أوراق ممكنة حتى لو كانت فاقدةً للمصداقية.
ومن ثَم سيكون من التلفيق غير اللائق بل ومن الغباء ألَّا نرى في الفيلم قصةَ الأب الإسرائيلي التوراتي «يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» التي قُدمت بوضوح شديد، مع بعض التحوير الطفيف هنا وهناك لتلافي ما يمكن حدوثُه من عواقب إزاء المفاهيم السائدة، ولتلافي ما قد يطرأ من مُساءلة قانونية لإيجاد عددٍ من المخارج الممكنة عندما تبدأ ردودُ الفعل، ومن نماذج ذلك تقديمُ عددِ إخوة بطل الفيلم «رام»، المفترض أنهم الأسباط إخوة يوسف في عدد مخالف لما قدمته التوراة، أو مثل تحوير موقف إلقاء يوسف في بئر «جُبٍّ» إلى إلقائه في الحجرة السفلية لسفينة مصرية لكن فتحة الغرفة كانت موحية تمامًا بالبئر أو الجُب، هذا إضافة إلى مخالفة السيناريو والقصة للخاتمة التوراتية، فتتم عودةُ بطل الفيلم من مصر إلى بلاده البدوية رغم موت بطل القصة التوراتية وتحنيطه ودفنه في مصر على الطريقة المصرية، حتى يمكن بذلك إيجادُ المخرج بالقول: إن الأمر مجرد رؤية فنية تُجسِّد رحلة المخرج وهجرته إلى أمريكا ثم عودته إلى بلاده، وأن الأمر فقط كان استلهامًا لبعض المواقف النبوية إزاء المُغريات الدنيوية.
وربما جاز للمشتغلين بالنقد الفني أن يضعوا لنا مصادرة في شكل مقدمة ثابتة لا تقبل نقاشًا، وهي أنه لا يجوز التعامل مع الفيلم إلا بالمعايير الفنية وحدها، فالفيلم فيلم وليس بحثًا تاريخيًّا، أو عملًا فقهيًّا، لكن الحال هنا سيختلف تمامًا مع فيلم المهاجر لعدد من الأسباب الواضحة والمهمة التي لا يمكن تجاوزُها لصالح الموقف الفني وحده، حيث اشتبك الفيلمُ مع عدد من المسائل شديدة الحساسية وتداخَل معها إلى الحدِّ الذي لا يسمح بالوقوف عند أدوات النقد الفني وحدَه ومعاييره في التعامل مع الفيلم، وقد جاء اشتباكُ الفيلم مع غير الفني على ثلاثة مستويات.
صدمة الذاكرة
المستوى الأول هو مستوى الحالي، الآني الراهن، حيث بدأ التطبيعُ العربي مع الدولة الإسرائيلية يسير حثيثًا مع متغيرات كبرى بالمنطقة، «واختيار قصة يوسف بن يعقوب» تحديدًا في هذا الوقت، وبالصورة التي عولج بها، تحمل أكثرَ من علامة استفهام حول مقاصد الفيلم الذي تلامَس مع ما يريد في نقاط التقاء كاشفة واضحة، في أكثر من لقطة وأكثر من ترميزة.
فالعجز الجنسي لقائد الجند المصري يكشف في وجهه الآخر عن القول المأثور بحاجز نفسي، إضافة إلى أنه يُعبِّر عن عجز القوة والقدرة إزاء الشاب المهاجر القوي المليح وعلاقته بالزوجة الشابة، ثم كانت زراعة الصحراء بوضْع يدِ المصري في يدِ المهاجر الغريب التي تشي ببساطة بنصيحة واضحة: لنضعْ أيديَنا مع بعضها، نزدهر وننتج ونخضر الصحاري، وهو الأمر الذي لا يمرُّ دون التأكيد عليه في الحوار، فهذا المزارع المصري «أوزير» يتعاون مع «رام» المهاجر في زراعة الصحراء، وعندما يتقدم «رام» ليشكرَه يُجيبه المصري: «كلنا محتاجون لبعض.» أو في نصٍّ آخر بالحوار ينضح بالغرض المفصح في استهجان «رام/يوسف» للمصريين الذين لم يقبلوه مواطنًا رغم طول إقامته بينهم ويلقي باستنكاره هذا مفصحًا عن إجابة السؤال: كيف لا نقبل إسرائيل بيننا بعد جيرتها لنا زمنًا؟!
على أية حال هذا مستوى من مستويات الاشتباك مع الراهن، يوعز بأنه ربما تأسَّس بشكل ذكيٍّ وخبيث على نصٍّ ديني، بحيث يفضح «يوسف شاهين» بقصد أو بدون قصد مدى التناقض الذي يقع فيه «القوموي العروبي» مع نفسه عندما يؤمن بعقائد تُسلم بهذه القصة التي تُسفِّه المصريين تمامًا وتاريخهم لصالح الإسرائيليين، وتجعل من الإسرائيليين الحكمةَ كلَّها والطهارة كلَّها والعفَّة كلها وتجعل من المصريين رموزًا للحُمق والشهوانية والدنيوية الفجَّة.
إن الفيلم يضع العقلَ العروبي أمام تناقضه، فهو يؤمن بأديان تدين تاريخ المنطقة القديم لصالح التاريخ الإسرائيلي بينما يرفع شعارات النضال والتحرير من النهر إلى البحر! إن الفيلم يصنع هنا ما يمكن تسميتُه «صدمة الذاكرة» أو صدمة الإيمان لأولئك الذين لم يحاولوا حتى الآن فكَّ الاشتباك بين الديني والقومي. وإذا كانوا يرفضون التطبيع بظاهر وعيِهم فإنهم يؤسِّسون القومي لديهم على الديني، والدينيُّ أشدُّ تطبيعًا وطراوة مع بني إسرائيل الذين فضَّلهم الله على العالمين.
ولا أحد يكابر أن المأثور الإسلامي كمثال كان دومًا إلى جانب الإسرائيلي ضد كل حضارات المنطقة فكان مع يوسف بن يعقوب وموسى بن عمران وبقية بني إسرائيل ضدَّ مصر وحضارتها وشعبها وحكَّامها، وكان مع شاءول/طالوت أول ملك إسرائيلي، ومع داود مؤسس الدولة الإسرائيلية، ضد جالوت/جوليات البطل الفلسطيني الذي مات وهو يدافع عن أرضه ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني لبلاده، وكان مع أبيهم إبراهيم أرومة القبيلة العبرية ضد العراق القديم وحضارته ممثلًا في شخص مَلكِها النمرود. وكان مع البدو العبران جميعًا ممثلين في جدِّهم الأسطوري سام بن نوح ضد كل حضارات المنطقة ممثلة في حام بن نوح وأبنائه كنعان الفلسطيني ومصرايم المصري ونمرود العراقي.
حضارة موت
إن الوسيلة التي استخدمها الفيلم كانت شديدةَ الذكاء، لكن الغرض والهدف كان إلى جانب إجابة واحدة فقط على السؤال الذي يحتمل إجاباتٍ أخرى كثيرة. ومن ثَم كان الفيلم يتساءل: إذا كان هذا هو ما نؤمن به فلماذا نتناقض معه؟ لماذا بصريح العبارة لا نطيع إذن؟ غافلًا عن إجابة أخرى أصرَّ عليها كاتبُ هذا المقال دومًا تتمثل في ضرورة فكِّ الاشتباك بين الديني والقومي إذا أردنا الاتساقَ مع أنفسنا ومع قضيتِنا ومع آمالنا الوطنية والقومية.
وهكذا كانت التلميحاتُ والترميزات الواضحة مَدْعاةً للوقوف مع تلميحات أخرى يمكن أن يرى فيها المُشاهدُ العربي بخاصة المصري في الظرف الراهن؛ لونًا من تسفيه الإنسان المصري صاحب الحضارة التي شاخت في فيلم شاهين، وأخذت في التهاوي إزاء العبراني الطموح المتوثب للمعرفة والعلم. وعليه جاء الفيلم بتركيزه على القول: إن حضارة المصريين قد تم تكهينُها وإن مصر قد حبست علومَها داخل الجدران المسحورة للمعابد، وتحولَّتْ من حضارة حياةٍ إلى حضارة موت، لا تهتمُّ إلا بالتحنيط وبما بعد الموت، وكانت مشاهد «حرق الزرع» تصويرًا لشعبٍ أنعم اللهُ عليه بالنهر والخصب، لكنه كان شعبًا همجيًّا، يحرق آلافَ الأفدنة في صراعاته، بينما رام العبرانيُّ يُكرِّس حياتَه ليزرع سنبلةً في الصحراء! أما تركيز الفيلم على الأقزام وإيداعهم أمانةً لدى رام، فكان رميةً أخرى موجعةً للمصري القزم إزاء العبراني الأمين، هذا ناهيك عن الرمز الواضح في تحويل النهر نحو الصحراء لزراعتها، وكيف أمكن لرام بذلك الفرعِ الضئيل أن يزرعَ الصحراء.
وكان على شاهين أن يُدركَ أن المُشاهدَ العاديَّ لا يعلم أن القزمَ كان محبَّبًا في بيوتات الارستقراطية المصرية، وكانت تلك البيوتاتُ تستجلبهم من أفريقيا للخدمة البيتية والترويح الفُكاهي، حتى جعل المصريون للأقزام إلهًا هو الإله القزم «بس». ونعم كانت العلوم داخلَ المعابد، ونعم اهتمَّ المصريُّ بالتحنيط وبالموت اهتمامًا عظيمًا، وكان يمكن أن يمرَّ ذلك بهدوء، باعتباره تصويرًا للحياة المصرية في الزمن القديم، لكن أن يتمَّ ذلك داخلَ إطارِ قصة إسرائيلية تتحدث عن تفوق الإسرائيلي الطموح في قصتها الأصلية أو في الفيلم فهو أمر آخر لا يمكن معه افتراضُ حُسنِ النوايا!
ومن ثَم يُلقي الفيلمُ برؤيته «التطبيعية» في عُمْق التاريخ وفي أصول الدين ليجذرَها، فيركن بدهاء إلى القصة الدينية التوراتية التي وزَّرت يوسفَ خزانةَ المصريين، ويُقدِّم لنا «رام» مكتشفًا لأسلوب تخزين الحبوب في سنوات الجفاف التي استبدلها بحرق المحاصيل، ليذهب إلى ما هو أبعد من التطبيع. إنه يُلمِّح إلى إدارة المنطقة بالعقل الإسرائيلي المتوثب المتفوق، عندما يُسلم قائدُ الجند لرام جنودَه وبلاده وأرضه ليكون أمينًا على خزائنها ومستثمرًا لها وراعيًا!
مرة أخرى نعود إلى أسباب التعامل مع الفيلم على مستويات غير المستوى الفني وحدَه، في اشتباك الفيلم على مستوًى ثانٍ مع الديني والإيماني، وعندما فعل ذلك خرَج من دائرة الفني وحدَه، حيث جعل مرجعيتَه ملكيةً عامة لجماهير المؤمنين في الأديان الشرق أوسطية الكبرى الثلاثة؛ فشخص يوسف بن يعقوب مقدَّسٌ في اليهودية باعتباره أحدَ آباء القبيلة الإسرائيلية الأوائل، وهو مقدَّسٌ في المسيحية لذات السبب بحسبان المسيح بدوره من ذات النسْل الإسرائيلي المبارك، ثم هو مقدَّسٌ في الإسلام لذات السبب، ثم لسبب آخر هو أنه أضاف ليوسفَ صفةَ النبوة، وهي ليستْ ملكيةً عامة فقط، بل ملكيةٌ مقدَّسة، ومن ثَم فقد خرج الفيلمُ من دائرة الفني ليخوض في الديني، فوضع نفسَه في موقع التعامل معه على هذا الأساس. ليس هذا فقط، بل إن الفيلم اختار لنفسه رؤيةً دينية دون أخرى، فحدَّد لنفسه بذلك موقفًا من الروايات الدينية حول يوسف، وهو ما يضعُه أمام مسئولية اختياره.
رواية التوراة
والواضح تمامًا أن المُخرج حتى لا يقعَ في مأزق المحاكمات الإسلامية، فقد ركن إلى الرواية التوراتية حول الأبِ يوسف، بدليل إيرادِه المنمنماتِ وتفاصيلَ لم يذكرْها القرآنُ إطلاقًا، وإنما ذُكرت تفصيلًا في التوراة، وذلك مثل قصة رئيس الشرطة «فوطيفار» الذي اشترى يوسفَ الموصوفَ بجمال فاتن، والحب الشديد من «فوطيفار» ليوسف الصبي، ومن ثَم لجأت التوراةُ لتطويش فوطيفار ووصفِه بأنه كان خصيَّ فرعون، وهو ما لم يذكره القرآن الكريم إطلاقًا.
وكم كان بإمكان السيد شاهين أن يتلافى كلَّ ما حدث في المحاكم، لو طلَع على المشاهدين بتقرير واضح يقول: «هذه قصة يوسف بن يعقوب، أحدِ الآباء الإسرائيليين الأوائل وعلاقته بمصر، كما جاءت بالتوراة.» ولا علاقةَ للفيلم بقصة يوسف النبيِّ التي وردت بالقرآن الكريم، لكن المُخرج ورَّط نفسَه، إن كان قاصدًا الإثارةَ التي حدثت أم غير قاصد، بوضعه لافتةً إعلانية في مقدمة فيلمه باللغة العربية تؤكِّد أنه لا علاقةَ للفيلم بالنبي يوسف، وتحتها مباشرة لوحة أخرى باللغة الفرنسية تؤكِّد أن هذه القصة قصةُ البطرك يوسف!
ويبدو أن المُخرجَ قد أراد أن يُوصِّلَ للمشاهد أن تلك قصة الأب يوسف، لكن بشكل غير مباشر، ولأن أغلب المشاهدين مسلمون بالضرورة، فقد عمد إلى خلط بعض المفاهيم الإسلامية بالراوية التوراتية، مما أثار عليه المتأسلمين وأوجبوا محاسبته، وهو بسبيل ذلك أوقع نفسَه في أكثر من ورطة وأكثر من خطأ حقيقي، فبينما قد اختار الرواية التوراتية، نجده يضع على لسانِ بطلِ قصتِه عباراتٍ تُعبِّر عن مفاهيمَ وعقائدَ إسلامية، لا علاقة لها بالمفاهيم التوراتية ولا عقائدِها، وذلك مثل قول رام المعبر عن الإيمان بإله واحد أحد هو رب العالمين، وهذه سقطة لا تليق بمُخرِج يراه البعضُ أهمَّ مخرجينا، وكان عليه أن يلجأَ في ذلك للمتخصصين كي يعلم، فالمعلوم لدارس التوراة بالمنهج العلمي أن التوراة زمن البطاركة الأوائل: إبراهيم وولدَيه إسماعيل وإسحاق، وولد إسحاق يعقوب، ثم أبناء يعقوب الأسباط الاثنَي عشر وضمنهم يوسف، تتحدَّث عن زمانٍ كانت فيه القبيلة العبرية لم ترتقِ بعدُ إلى مفهوم التوحيد الإسلامي الذي ساقه شاهين على لسان بطله رام، حيث كان التقديسُ والعبادة تُوجَّه إلى «إلوهيم»؛ أي الآلهة، وهو اسم الجمع للفظ الجلالة السامي المفرد «إيل»؛ أي الإله. ومن هذه الآلهة ما وردت بأسمائها في سِفر التكوين التوراتي، مثل: إيل صبأوت، وإيل يراه، وإيل شداي، والإله القدير، وأدوناي، وغيرها، كما تمثل كبار الآلهة لإبراهيم في ثلاثة شخوص، ثم جاء بعد ذلك إلهٌ آخرُ زمنَ موسى هو الإله «يهوه» الذي لم ينفِ الآلهةَ الأخرى، بل أوجب على الإسرائيليين تقديسَه وحدَه دونهم، وكان الخطاب الموسوي في التوراة ليهوه يقول: «مَن مثلُكَ بين الآلهة يا رب؟»
وربما لم يقصدْ شاهين تلبيسَ الرواية التوراتية بمفاهيم إسلامية، إنما التبس عليه الأمرُ، مع التطور المتأخر للمفاهيم الدينية اليهودية زمنَ الأنبياء المتأخرين حزقيال ودانيال وإرميا، حيث بدأ هؤلاء ينحون نحوَ توحيدِ يهوه وحدَه وتنزيهه، فظنَّ شاهين أن الأمرَ كان كذلك منذ البدء.
ومثالٌ آخر على الالتباسات التي وقع فيها السيد شاهين، قوله على لسان رام بطل الفيلم بما يشي بإيمان يوسفَ بنِ يعقوب بعالَم آخرَ تَخلُد فيه الأرواح، وأن الجسد الذي يعمد المصريون تحنيطَه ليس أبدًا قيمة في مسألة الخلود، وهنا خلطٌ ما بعده خلط، وخبطٌ ما بعده خبط؛ لأن الإسرائيليين الأوائل منذ فجر تاريخهم وحتى القرون الأولى للميلاد، لم يعتقدوا إطلاقًا في خلودٍ للروح في عالم آخر، وأن الشعب الأوحد في ذلك الزمان الذي ابتدع فكرةَ الخلود من بعد الموت، والبعث والحساب أمام موازين العدالة الإلهية، هو الشعب المصري وحدَه مطلقًا ودون شريك؛ لذلك عمدوا إلى تحنيط الأجساد حتى تجدَ فيها الروحُ سماتِها المادية عند البعث، فتعود وتتلبس جسدَها المحنَّطَ استعدادًا للحساب الأخروي، وهو ما ركَّز عليه الفيلمُ واعتبره حطةً في المصريين! وقد مرَّت تلك الفكرةُ بأطوارٍ عِدَّة شرحناها في كتابنا «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة»، ولم يدخل عليها أيُّ تطورٍ بعدَ نهايةِ العصور الفرعونية.
ولما جاءت المسيحيةُ وأخذتْ بعقيدة الخلود، استبدلتْ فقط ربَّ الخلود المصري «أوزيريس» بيسوع المسيح، ثم جاء الإسلامُ فأقرَّ عقيدةَ الخلود، ولم يخرج عن التصوُّرِ المصري للبعث والحساب، فقال بضرورة عودةِ الروح لتتلبَّسَ بالجسد، وكان الفارق هو أن المصري القديم اهتمَّ بتحنيط الجسد لتجدَ الروحُ قسماتِها فيه، بينما اعتبر الإسلامُ أن فناء الجسد ليس مشكلةً بعد تطورِ مفهومِ الألوهية إلى إلهٍ كليِّ القدرة، حيث يُصبح بإمكانه أن يُحيِيَ تلك العظامَ الرميم مرة أخرى، وهو اعتقادٌ سبَق تطويرُه والقولُ به في الزمن السابق للإسلام بجزيرة العرب، وهو ما تُفصِح عنه أشعارُ الجاهليين حول الخلودِ والحشر.
أما التوراة فلم تقلْ أبدًا ببعثٍ أو حساب ثم خلود زمن البطاركة، زمن يوسف، ولا بعد ذلك بقرون طويلة تصل إلى الألف عام، حتى زمن أنبياء التجديد عند انهيار مملكتهم. وقد ظهر الاعتقادُ في عالم آخرَ آنذاك بتأثير العقائد المصرية والفارسية في فلسطين في العصر الهيلليني الروماني، المعروف بعصر الآلام، حيث بحث اليهودُ عن تعويضٍ وسلوان في عالم آخر، ومن هنا يظهر مدى فساد الحوار في فيلم السيد شاهين.
ورواية جوزيفيوس
وعليه فقد التبستْ كلُّ تلك المتداخلات على السيد شاهين، فخلَط وخبَط خبْطًا عشوائيًّا. ليوقِعَ نفسَه والآخرين في مأْزق كان في غِنًى عنه لو درَس الأمرَ بشكل أفضل، المهم أنه ساق الأمرَ كلَّه في ثوب تاريخيٍّ أسهمت فيه الكاميرا والديكورات بعاملِ الإبهار، لنعيش جوًّا مصريًّا فرعونيًّا على مدى زمن الفيلم. هذا بينما التاريخ كعِلْم لا يعرف في وثائقه المدوَّنة ولا في حفائره الأركيولوجية على الإطلاق، شخصًا باسم يوسف، ولا جماعةً باسم الأسباط ولا صديقًا للإله باسم إبراهيم، ولا نبيًّا باسم موسى، ولا عظيمًا باسم داود، ولا حكيمًا حاز شهرةً فلكية مُلِّك على مملكة أسطورية باسم سليمان. فكلُّ تلك الأسماء الإسرائيلية لا يعرفُها التاريخُ كعِلْم، فقط حكاها لنا كتابٌ مقدَّس باسم التوراة في كتاب العهد القديم، وآمَن بها المسيحيون من بعد اليهود عبرَ كتاب مقدَّس آخر هو العهد الجديد، ثم علمناها إيمانًا عبرَ الكتاب المقدَّس الأخير القرآن الكريم.
لكن ذلك لم يفُتَّ في أعضاد المؤرخين، خاصة من أرادوا أن يجدوا لبني إسرائيل موطِئَ قدمٍ في التاريخ، وقد بدأت تلك المحاولاتُ مبكرًا على يد المؤرخ اليهودي يوسف بن متَّى المعروف باسم «جوزيفيوس»، الذي ألقَى بتاريخ القبيلة البدوية الإسرائيلية في عمق أعرق تاريخ المنطقة، تاريخ الشعب المصري، وهي الرواية التي ركن إليها السيد شاهين واختارها دون روايات أخرى ومحاولات اجتهادية تاريخية أخرى، حاولتِ البحثَ التاريخي وراء المأثور الإسرائيلي، وهو الاختيار الذي يجب أن يتحمَّلَ مسئوليتَه لتتمَّ بموجبه محاكمةُ ما ساقه، ليس على المستوى الفني وحدَه، لكن أيضًا على المستوى التاريخي.
وحتى نضع بيد القارئ أصولَ المسألة، نقف وقفةً نُحيطه معها علمًا أن «جوزيفيوس» كتب عدةَ مؤلفات تتعلق بتاريخ الإسرائيليين، منها كتاب باسم «ضد آبيون»، وكان آبيون هذا مؤرِّخًا يكره اليهودَ كراهيةً شديدة، ووصفَهم بكل ما هو خسيس، وأفاد أنهم دخلوا مصر عبيدًا جوعَى ثم طُردوا منها، بعد أن تفشَّت بينهم الأوبئةُ الناشئة عن عدم النظافة والعلاقات الجنسية غير السوية، ولم يتعلموا أيَّ شيء متحضر من المصريين، مما أدَّى لطردهم خشيةَ تفشِّي الداءِ في البلاد.
وهنا قام اليهودي «جوزيفيوس» يرد على «آبيون» ليقول: إن بني جِلدته دخلوا مصر ملوكًا لا عبيدًا، وأنهم مَن عرَفهم التاريخُ باسم الهكسوس، وأنه استقَى ذلك الخبرَ من المؤرخ المصري «مانيتون»، الذي عاش حوالي عام ٣٠٠ قبل الميلاد، وأنه بعد الثورة التي قام بها «أحمس» ضد الهكسوس، أخذ منهم عددًا كبيرًا من الأسرَى، عاشوا عبيدًا في مصر بعد ذلك حتى زمن الفرعون «أمنوفيس/ أمنحتب الثالث» وولده «أخناتون»، حيث قام هؤلاء العبيدُ بثورة ضد الفرعون «أمنوفيس» هربوا على إثرها من البلاد، وهو الهروب الذي سجلتْه التوراةُ في سِفر الخروج، وقد اتضح لنا اعتمادُ يوسف شاهين على تلك الرواية من إشارته في فيلمه إلى دخول «يوسف بن يعقوب/ رام» إلى مصر زمن الفرعون «أمنوفيس/ أمنحتب»، وهذا قول «جوزيفيوس» اليهودي، وقد تعمَّد أن يُظهرَ خلف الفرعون «أمنوفيس» شخصًا يُشبه إلى حدٍّ بعيد وليَّ عهدِه أخناتون، وجعلَه يتصرف بطراوة جعلته يظهر في حالة ميوعة أو تخنُّث ألقتْ في روع البعض مزيدًا من تشويه المصريين، لكن شاهين كان يريد القول إن ذلك الشخص تحديدًا هو «أخناتون»؛ لأن تلك كانت صفاته الناتجة عن مرضه العضال، إن شاهين كان طول الوقت يريد التأكيد على وجهة نظر تاريخية بعينها، هي وجهة نظر «جوزيفيوس».
ولكن الأكثر أهمية هنا، هو أن شاهين وهو يأخذ برواية اليهودي «جوزيفيوس» وحدها، ويستبعد ما عداها، وقع في أكثر من خطأ حتى في فهْم ما قال «جوزيفيوس»، حيث إن «جوزيفيوس» جعل دخول اليهود مصر مع يوسف هو دخول الهكسوس زمنَ فرعون باسم «توتيمايوس»، وأن طردهم من مصر تمَّ زمنَ الفرعون «أموزيس/ أحمس»، وأن من بقي منهم أسيرًا بمصر تمَّ استعبادُه حتى خرج زمن الفرعون «أمنحتب الثالث» وولده «أخناتون»، ولم يفهم السيد شاهين أن هناك فارقًا زمنيًّا طويلًا بين الدخول والخروج، وأن الدخول عند «جوزيفيوس» جاء في زمن قديم، وأن قصة الدخول إلى مصر كانت قصة يوسف، أما الخروج فهو قصة موسى زمن أمنحتب وولده «أخناتون» فيما يزعم «جوزيفيوس»، وكان موسى حفيدًا بعيدًا للسبط لاوي شقيق يوسف بعد زمن بعيد من الدخول.
وهكذا خلط شاهين بين أول القصة وآخرها، وخلط بين يوسف وموسى، وبين الفرعون «توتيمايوس» وبين الفرعون «أمنحتب» وولده «أخناتون»، وكان الأولى به ما دام قد قرَّر أن يخوض غمارَ التاريخ ويتبنَّى وجهة نظر دون أخرى، أن يجهدَ نفسَه في المعرفة، أو يرجعَ لذوي الاختصاص، كما يفعل الفيلم الأوروبي والأمريكي عند التعرض لمسائل من هذا النوع، لكن السيد شاهين احتسب ما لديه من معارف كافيةً للتعرض لمثل هذا الأمر الكبير، فطرَح ما تصوَّرَه حلولًا لإشكاليات عميقة أدَّت به إلى أخطاء عظيمة، فلم يصلْ إلى مواقفَ صحيحة، لا على المستوى الديني، ولا على المستوى التاريخي، بل إنه حتى لم يوفَّقْ في عرْضِ وجهات النظر التي انحاز إليها عرضًا أمينًا كما حدث في تناوله لتاريخ «جوزيفيوس».
أحبوا إسرائيل!
وأثناء ذلك عنَّ للسيد شاهين أن يضيفَ للقصة الدينية ملمحًا تاريخيًّا تصوَّر أنه يرفع من شأن جماهير الشعب المصري فصوَّر ديانةَ الإله آمون، وقد أصبحت ديانةَ دولة متجبرة ظالمة، وأن إرهاصات الثورة الشعبية ضد الفرعون والحكومة قد بدأتْ، وأن الشعب المصري قد آمن بديانة التوحيد الآتونية، فقام بثورة جماهيرية ضد الحكومة وضد الإله آمون لصالح آتون الواحد، وقدم قمة العمل في مشهد مبهر لجماهير الشعب وهي تُكسر تمثال آمون العملاق، متصورًا بذلك أنه يمنح جماهير المصريين مزية معرفة الإله الأوحد.
وبما أننا نعلم أن أخناتون هو صاحب ديانة التوحيد الآتونية، فالمعنى أنه كان يتآمر على أبيه أمنحتب الثالث مع الجماهير الموحدة، وهكذا يتحول المصريون نحو التوحيد بتولِّي أخناتون للحكم بعد نجاح الثورة الآتونية ويتحول نظام الحكم المصري من العداء للعبرانيين ممثلين في رام، إلى أحبة وأشقاء في حبِّ الله الواحد، فهذا موحِّد، وهذا موحِّد، والشعب موحِّد، فلماذا لا يكون هناك توحُّد؟
وفي مشهد مؤثر ينزل الفرعون أخناتون عن عرشه ليحيى رام وهو عائد إلى أهله بحبٍّ شديد، ويُزجيه عبارات المودة والتقدير، والمغزى مفهوم والهدف واضح، حيث خالف السيد شاهين كلَّ ما تعارف عليه علم التاريخ لصالح الراهن التطبيعي، ولعب فيه لصالح الهدف المرتجى، ليلتقيَ الموحِّدان بالوجد والإيمان، أخناتون ويوسف، ليُلقيَ بظلِّه على الحاضر، ووحِّدوا الله وصلوا على النبي، وأحبُّوا بعضكم بعضا، ويا موحدي العالم اتحدوا، فبعضكم مسلم موحِّد، وبعضكم يهودي موحِّد، وكلُّ من له نبي يصلي عليه.
* نشر أصلا بتاريخ ١ / ٥ / ١٩٩٥م، بصحيفة “العربي” الناصري في مصر.