هل السينما البطيئة سينما ندب وتفجع وحزن؟

أفلام المجري بيلا تار تتميز بالبطء الشديد أفلام المجري بيلا تار تتميز بالبطء الشديد

ترجمة: أمين صالح

في الصورة الفوتوغرافية، حالة السكون حبلى بالحركة. المصوّر الفوتوغرافي يجلب السكون، وعلى المتفرج أن يتصوّر أو يتخيّل الحركة.

في الفيلم، السكون يؤطر المشهد، بينما الحركة تنتج المعلومة، وتكشف عن العاطفة. السكون يرصد ويهب الوقت لرؤية غاية الكادر.

الفيلم والضجر والزمن

ما هو الرابط بين الفيلم والضجر؟ ما السبب الذي يجعل بعض الناس يشعرون بالضجر لدى مشاهدتهم فيلماً بينما لا يشعر الآخرون بذلك؟

سباستيان كورديس، مخرج فيلم “مكان يسمى لويد”، يستقصي موضوع الضجر في السينما، دامجاً تجربته كمخرج وقراءاته النظرية.

الضجر، لغوياً، يتصل بالزمن أيضاً. على نحو فينومينولوجي (ظاهراتي)، الضجر حالة من الكينونة يشعر فيها المرء بأن الزمن يطول ويتمدد.

لكن السينما البطيئة لا تنحصر في موضوع الزمن فقط. هي أيضاً عن الثيمات التي لا تجد غير القليل من الكشف في الأفلام الأخرى، الأكثر شعبية. إن التنامي العمودي، أي سبرها المتعمّق للثيمات كنقيض للتعاقب الأفقي للسرد مهما كلّف الأمر، يسمح لنا بالاقتراب من موضوع متّقد هو قلب بعض حيوات الناس.

غالباً ما يتحدثون عن السينما البطيئة في سياق الزمن الميت، الزمن الخامد. بعد أن ينتهي الحدث، يبقى الكادر خالياً لعدة ثوانٍ، والذي يختبر صبر المتفرج. أفلام المخرج الفلبيني لاف دياز ليست مختلفة، لكن استخدامه للأمد الطويل والزمن الخامد يتّخذ بعداً آخر. إنه يخلق شيئاً أسميه زمن الموت. الموت دائماً يأتي على مهل في أفلامه. إنه يستغرق وقتاً. والأمر لا يتعلّق كثيراً بالزمن الميت أو الخامد في أفلام دياز بل بالانحدار البطئ نحو الجنون مع موت يتّخذ شكل ملاذ للمضطهَدين.  

استقصاء الضجر   

ثمة دراسة هامة ومفيدة أعدها جاكوب بوير عن الضجر ومشاهدة الأفلام البطيئة، في العام 2005. لقد لاحظت، على نحو يبعث على الأسى، دوران الباحثين في السينما البطيئة في حلقات متكررة وغير مجدية، من دون استخراج سوى الضئيل جداً من الأفكار الجديدة، المثيرة للاهتمام. إننا لا نزال نناقش، على نحو رئيسي، المسألة الذاتية بشأن الزمن “البطئ” وجذوره في الواقعية الإيطالية الجديدة (والذي هو غير صحيح).

دراسة بوير، ذات المنحى الفلسفي، هي استقصاء في مظهر الضجر، والذي غالباً ما يتم مناقشته في سياق السينما البطيئة. إنها تركّز على الجمهور. والسينما البطيئة هي إحدى أشكال السينما التي تحركها تجربة المشاهدة. شخصياً اعتقد أنك تخسر تجربة الأفلام البطيئة كلها إن حاولت أن تقرأها حصرياً من خلال عدسات نظريات الفيلم. كباحثين، نحن نضطر إلى فعل ذلك، لكنه ليس مفيداً دائماً. ربما (وهذا ما نرجوه) تنجح السينما البطيئة في تعليم الأكاديميين التنازل عن مطالبهم قليلاً، والتخفيف من بنية التفكير النظري.

ما هي السينما البطيئة؟ هل هي نوع؟ حركة؟ أم شيء آخر؟.. في الواقع، أنا لم أحسم هذا الأمر، ولم أحدّد تعريفاً، لذلك لا تعنيني هذه المسألة كثيراً. قد يهتم بها الباحثون من أجل تصنيف هذه الأفلام ووضعها ضمن فئات قائمة ومعروفة. المتفرج على الأرجح لا يكترث بهذا ولا يضيّع دقيقة واحدة في محاولة معرفة هذه الأشياء. إن كان هناك شيء واحد تفعله السينما البطيئة فذلك أنها تبدي للعيان الاختلافات البالغة بين الأكاديمي والمتفرج، والأكاديمي غالباً ما ينسى أنه متفرج أيضاً. 

ما لفت نظري في دراسة بوير افتراضه أن الأفلام البطيئة تخلق الضجر غيابياً، أي على نحو افتراضي. إنه يراعي التأثيرات الإيجابية للضجر، مثل خلق التأمل. لكن الأمر يبدو هنا كما لو أنه يتعيّن عليك أن تشعر بالضجر أولاً وبعدئذٍ، إذا سارت الأمور بشكل حسن وتحوّل الضجر ليصبح إيجابياً، فإنك تصل إلى حالة التأمل. التأمل هنا مرئي في سياق الضجر. ألا يمكن للمرء أن يتأمل فيلماً أو صورةً أو لوحةً من دون أن يكون ضجراً؟ لا أعتقد أن الأفلام البطيئة تُحْدث الضجر بشكل افتراضي. لو كان الأمر كذلك فإنه يعني أن الناس لا يذهبون لمشاهدة تلك الأفلام إلا لأنهم يريدون أن يكونوا كسالى.

لكن ماذا عن المشاهدة الفعالة، النشطة؟ لا أظن أن شخصاً ضجراً يمكن له أن يتفاعل بحيوية مع الفيلم. لكي تشاهد الأفلام البطيئة تحتاج أن تكون مشاركاً بفعالية من أجل الإمساك بالمعنى، السرد، الانعطافات غير المتوقعة، التحولات.

بدلاً من أشكال مختلفة عديدة لحدث يجرى، فإن السينما البطيئة غالباً ما تصوّر حدثاً واحداً فقط. مع ذلك، ثمة الكثير مما يحدث لكن ليس بالضرورة على المحور الزمني. إنه يتصل أكثر بالعمق. الفنانة مايا ديرين (مخرجة أفلام تجريبية) تحدثت عن الشعر بكونه عمودياً (أكثر مما هو أفقي) لأنه يصف الثيمات ويستقصيها في العمق. بالنسبة لي، العمودي يعني العمق، والأفقي هو السطح. السينما البطيئة عمودية، وعليك أن تكون مشاركاً بفعالية من أجل أن تحفر طريقك نحو الفيلم. حتى التأمل يمكن أن يكون إلهاءً في بعض الحالات. عندما أجد نفسي إزاء لقطة في غاية الجمال فإنني أنسى السرد.

لا أعتقد أن دراسة الضجر يمكن تطبيقها على متفرجي الأفلام البطيئة. إنهم يرغبون في الذهاب في رحلة، وإذا كانت رحلتك مضجرة فلابد أنك ارتكبت خطأ ما. 

سينما الحِداد

هل السينما البطيئة هي سينما ندب وتفجع وحزن؟

أنا مدركة لحقيقة أن ليس كل الأفلام البطيئة كئيبة. المخرج الأسباني ألبرت سيرا، على سبيل المثال، هو الكوميديان من بين مخرجي الأفلام البطيئة، إذ يغلب على أفلامه الطابع الهزلي.

في كتابه “أفلام الحِداد” Mourning Films (2012)، يشير ريتشارد أرمسترونغ إلى إمكان تعريف فيلم الحِداد بوصفه “تلاعباً غامضاً للمرئي والمكبوح والمبهم”. وهذا التعريف أو التوصيف ينطبق أكثر على أفلام لاف دياز، ففي أفلامه نجد أن استخدام الغياب والخواء وسيلة لتوصيل معاني الفقد والحزن والسوداوية. اللامرئي هو بأهمية المرئي في أفلامه. لا يمكنك أن تقرأ أفلامه بالنظر إلى المرئي فقط. إنه اللامرئي الذي يجلب إلى المقدّمة الصدمات الباطنية عند الشخصيات.

ما هو مثير للاهتمام، وفقاً لأرمسترونغ، أن الجغرافيا تلعب دوراً في أفلام الحِداد. الحِداد كشعور داخلي يحدث ضد السطح الخارجي للبيئة. هذا ربما منظور أكثر، ومنجز أكثر، في فيلم دياز “موت في أرض إنكانتوس” 

الشفاء السيكولوجي نسبي، غير مطلق. ليس كل الأفلام البطيئة، التي تشمل ضرباً من الفقْد، تصوّر عملية الشفاء التالية. لكن الشيء الأساسي هو الإيقاع المدروس للأفلام، والبؤرة مركّزة على التطور السيكولوجي للشخصيات. هذا بالنسبة لي الصفة المميزة الأساسية للسينما البطيئة، بالاشتراك مع جمالية البيئة التي تعكس الحالة الذهنية عند الشخصيات.

كل أفلام المخرج التايواني كاي مينغ ليانغ مبنية على نوعٍ من الفقد، نوع من الأسى على شيء لم يعد موجوداً. حتى أفلام الهنغاري بيلا تار تتطرق إلى الفقد.

الفقد، مهما كان نوعه، من الطبيعي أن يفضي إلى الحِداد. هو لا يستلزم دائماً موت الشخص. الموت بالأحرى مجازي ويتعلّق بأي نوع من الفقد، أو الغياب المفاجئ لشيء ما. وسوف أمضي إلى أبعد من ذلك لأقول أنه يتعلّق بالتهديد بالغياب، التهديد بالفقد. هذا وحده يستطيع أن يضع شخصاً ما في حالة حِداد.

جوهر المكان

سوزانا رامسي، في قصيدتها السينمائية “جوهر المكان” (2017)، تقدّم عملاً متصلاً، على نحو مباشر، بالمكان الذي يُعرض فيه الفيلم. الفيلم عُرض في المكان ذاته الذي تم فيه تصويره، الأشبه بمحميّة.. تحت سماء ليلية، على شاشة ضخمة.

هو فيلم قصير، أشبه بقصيدة، تأسر على نحو جميل، بالكتابة وبالصور، عجائب الطبيعة، تلك العجائب التي صرنا ننساها. في عملها، تكشف رامسي، حرفياً، ما يوحيه عنوان فيلمها: جوهر المكان.

إنها فكرة وقناعة ظاهراتية (فينومينولوجية)، فكرة مشاهدة صور رامسي في المكان نفسه الذي شهد تصويرها. المتفرج، والمرئي، والمكان، يندمجون معاً. نوع من التعايش الذي فيه نصبح مدركين لعلاقة بعضنا ببعض، والنواحي التي فيها يؤثر سلوكنا على الآخر.

تساي مينغ ليانغ

الفيلم، أو بالأحرى تجربة الفيلم، جعلني أفكر ملياً في أهمية المكان في سياق المشاهدة السينمائية. أشرت مراراً إلى تأثيرات المكان (أو الفضاء) على الطريقة التي بها نقترب من الصورة المتحركة. عندما نذهب إلى صالة السينما، نحمل توقعاتنا معنا، كذلك لدينا توقعاتنا الخاصة عندما نذهب إلى الجاليري لمشاهدة عمل تركيبي مصوّر بالفيديو. تلك التوقعات تختلف بشكل بالغ. كذلك يمكن للمكان/ الفضاء أن يؤثر في إدراكنا الحسي وتقييمنا للفيلم، وتحديد ما إذا كان جيداً أو سيئاً. نعرف جيداً الآن أن الأفلام البطيئة المعروضة في صالات السينما عادةً لا تلقى إقبالاً جماهيرياً، وتفضي بالجمهور إلى الانسحاب من الصالة استنكاراً أو احتجاجاً. إن صالة السينما، كمؤسسة، في تاريخها لم تكن مكاناً يغري بالتأمل أو يدعو إليه. السينما مكان للترفيه الذي يتحقق مع الانتقالات السريعة للأحداث. الآن، البطء في الجاليري مقبول تماماً لأن هناك صار أمراً طبيعياً أن يجلس المرء ويتأمل في القطعة الفنية المعروضة أمامه، وعرض الفيلم البطئ هناك سوف لن يثير استنكاراً لأنه لن يخرّب توقعات المرء.

والمخرجة رامسي تمضي إلى مدى أبعد، إذ تعرض فيلمها في الخارج، في الفضاء الطبيعي، الطبيعة ذاتها الي نشاهدها في الفيلم. إذن أين يضع هذا المتفرج؟ في أي موضع وحالة؟

السينما البطيئة والذاكرة الثقافية

الأفلام البطيئة أتاحت لي أن أتنفّس، أن أهدأ، أن أرتاح. لقد منحتني الفرصة للتفكير، لأن أستفيد من وقتي، والأهم من كل ذلك، أن أدرك ما يحدث أمامي، هذا الشيء الذي لم أستطع فعله في الحياة الواقعية، في ذلك الحين، لأن حواسي كانت على نحو متكرر متحفّزة بشكل مفرط.   

إني اكتشف المزيد من العلاقات بين البطء والذاكرة، وأجد الدور الذي يلعبه البطء (السينمائي)، في ما يتعلق بالعمل من خلال الصدمة، مثيراً للإهتمام على نحو متزايد.

نحن اعتدنا إلى حد بعيد على الطريقة التي بها تُروى القصص. خذ كمثال المقاومة التي نبديها تجاه الأفلام الطويلة، مثل أفلام لاف دياز. نحن لم نتعوّد على مشاهدة أفلام تستغرق مدّة عرضها ست ساعات أو أكثر. ما يناسبنا، حسب ما تعوّدنا عليه، هو الفيلم الذي يدوم تسعين دقيقة لطيفة، بهيجة، وموجزة. ولا بأس من أن يستغرق الفيلم 120 دقيقة.

أثناء الدراسة، علّمونا أن القصة تحتاج أن تحتوي بنيتها على ثلاثة فصول، مع مقدّمة، ذروة، وما شابه. هذه خصائص قياسية للقصص، حتى يومنا، رغم محاولات الأفلام الفنية، غير الرائجة، لاختراق هذا التقليد أو العرف.

لقد خلقنا شبكة من التوقعات المحكمة في ما يتعلق بما هو مسموح، وما هي الطريقة التي بها ينبغي أن نروي قصصنا، أو ينبغي أن نكتب عنها، أو حتى نحقّق أفلاماً عنها. بالنسبة لي، السينما البطيئة، أو الأفلام التي يستغرق عرضها ساعات طويلة، والمخرجون الذين يشاركون في تلك الأفلام، هم أولئك الذين يخفّفون من هذا الصمت، الذين يساهمون على نحو حقيقي وصادق في الذاكرة الثقافية، وهذا بالضبط هو ما أنوي أن أتجه إليه مع مشروعي الجديد: التصادم بين التوقعات والإسكات، وكيف أن الفنانين يستطيعون التدخّل، والوسائل التي فيها يمكن للأمد (مدّة العرض) أن يعالج الصمت الذي يفرضه المجتمع. 

اللقطة الطويلة المتواصلة

بيلا تار

كتاب لوتز كويبنيك “اللقطة الطويلة.. فن السينما والمدهش” (2017) لا يتحدث عن السينما البطيئة، وإنما عن توظيف اللقطات المديدة في السينما بشكل عام. مع إن، عند الحديث عن السينما البطيئة، غالباً ما تكون مسألة اللقطة المديدة من القضايا البارزة التي تتم مناقشتها في هذا السياق. وأنا أختلف مع هذا النزوع لجعل موضوع اللقطة المديدة مادة أساسية في الحديث عن السينما البطيئة. ذلك لأن استخدام مثل هذه اللقطة ليس محصوراً في الأفلام البطيئة بل نجدها موظفة حتى في أفلام الإتجاه السائد، بل حتى في المرحلة المبكرة من اختراع السينما، عندما لم يتم بعد اكتشاف المونتاج، وكان على الحدث أن يستمر ويُصوّر من البداية إلى النهاية من دون قطع.

يكتب لوتز عن بيلا تار وأفلامه الرؤيوية، ويقول: “بلقطاته الطويلة المتواصلة يتقبّل تار الزمن الآلي لعرض الصورة المتحركة من أجل فتح بابٍ للصفة الزمنية، التي لا يمكن التنبؤ بها، الخاصة بالتجربة الإنسانية”.

Visited 95 times, 1 visit(s) today