“هذا أنا”.. رمية نرد على رقعة الحياة والموت

“أنا لاعب النرد، أربح حيناً وأخسر حيناً، أنا مثلكم أو أقل قليلاً…” محمود درويش

الحياة والموت اشبه برقعة يتدحرج فوقها حجرا نرد حائرين ما بين هاتين الخانتين. كلا المكعبين الأبيضين مراوغين في احتمالاتهما تماما كلعبة الحياة والموت، فقد يخسر الذي يبدو رابحاً، او يربح الذي يبدو خاسراً. في هذه اللعبة لا وجود لمعادلات صفرية، إما فائز (قاتل) وإما خاسر (مقتول)، فالحياة والموت لعبة نرد إما تصيب أو تخطئ.

في فيلمها التسجيلي الطويل الأول “هذا أنا” أو “Zaho Zay”، الفائز بجائزتي جورج دي بورجارد ورينو فيكتور من مهرجان مارسيليا للفيلم التسجيلي وجائزة مهرجان فيينا السينمائي الدولي العام الماضي، تعيد المخرجة الفرنسية ذي الأصول الملغاشية مايفا رانيفوجاونا بالتعاون مع المخرج النمساوي جورج تيلر، التواصل مع جذورها التي انقلعت منها منذ أن كانت طفلة صغيرة لتسليط الضوء على المعاناة التي يعيشها سكان جزيرة مدغشقر ومخلفات الاستعمار التي لازلت قائمة حتى الآن.

يشير اسم الفيلم “هذا أنا / Zaho Zay”، إلى النداء اليومي الذي يطلقه السجناء كل صباح لإثبات حضورهم وقت خروجهم من محبسهم إلى ساحة السجن الذي تعمل فيه (البطلة/ الراوية) كحارسة على هؤلاء النزلاء. حيث يراودها طوال الوقت أحلام يقظة عن والدها القاتل الذي تخلي عنها وهي طفلة بعد أن قتل شقيقه ليصبح بمرور الوقت قاتلا أسطوريا في مخيلتها، يجول بطول البلاد وعرضها مقلبا نرده ليقرر مصير ضحاياه. وعندما يصل سجين جديد يدعي أنه يعرف والدها، تبدأ تخيلات الأبنة في التحول إلى كابوس مزعج.

يبدأ الفيلم بمشهد للأبنة وهي تجلس امام منزل متهالك تشيح بنظرها بعيداً ناحية المباني المتهدمة والأشجار الذابلة، تعاين بحزن أثار الفراغ والغياب الذي بات يغلف حياتها كما لو كانت تتوقع نوعا من الخلاص يأتي من أعماق الغابة، تنتظر قدوم الأب الذي طال انتظاره كي يضمها بين يديه ويغني لها تهويدة ما قبل النوم. افتتاحية مربكة وغامضة تضعنا في مواجهة حتمية أمام هذا اللقاء المستحيل وتستدعي إلى أذهاننا أسئلة تظل تتفجر أمامنا طوال الفيلم بحثا عن إجابة لها رفقة بطلتنا، هل الأب مجرد شبح؟ صدمة عاطفية مكبوتة تستمر في السيطرة عليها؟ أم أن هناك حقًا رجل خطير يرمي النرد لتحديد ضحاياه بشكل عشوائي؟

عندما توجهت رانيفوجاونا إلى مدغشقر في البداية، كان الهدف هو العمل على فيلم تسجيلي قصير يرصد الحياة داخل السجون هناك، ولكن أثناء عملية الإنتاج تم توجيه اللقطات لصالح مشروعها التجريبي الهجين “Zaho Zay / هذا أنا” الذي يمزج هيكله السردي ما بين تقنيات الواقع (التسجيلي) والخيال (الروائي).

تتألف بنية الفيلم من ثلاث خطوط سردية تتشابك فيها عناصر الفيلم التسجيلي والروائي والتعليق الصوتي، حيث تندمج اللقطات التسجيلية لنزلاء السجن والطقوس الشامانية للقرويين والأغاني الملغاشية، مع الجانب الروائي الذي يتضمن أكثر من نوع سينمائي داخله كـالويسترن والفيلم نوار والفانتازي وهو ما تجلي في مشاهد الأب ورحلته المثيرة عبر القري لحصد أرواح ضحاياه والسفر عبر الزمن لرؤية طفولته. أما التعليق الصوتي للأبنة التي بالكاد تظهر على الشاشة، فيمثل حلقة الوصل ما بين العالمين المتخيل والواقعي.

ينتقد التعليق الصوتي المؤلف من مونولوجات شعرية كتبها الشاعر الفرنسي الملغاشي جان لوك راهاريمانانا، بيروقراطية السلطة والإرث الاستعماري وموضوعات الفقر والفساد والجريمة التي مزقت المجتمع الملغاشي، ويمكن رؤيتها في التسلسل الافتتاحي والختامي حيث لا تزال نيران الغابة مشتعلة، ووجوه السجناء الذين خذلتهم الحياة خارج أسوار السجن وداخله. ما يدفع الأبنة للتساؤل في أحد المشاهد “كيف يمكن للمرء أن يكون عندما تحطم هذه البلاد أبنائها”.

بمرور الوقت، يستمر عقل الأبنة في استدعاء صور متخيلة عن والدها القاتل تتداخل مع طبيعة وظيفتها كحارسة للسجن. فتبدأ بالتفتيش بين أوجه النزلاء الجدد بحثا عنه، ولكن تسلسلات الأحلام تلك لا تؤدي إلى رؤية الأب يدخل إلى العوالم الواقعية للسجن، لتخلق جرائمه – كما قالت ابنته – أسطورة تجعل من الصعب القبض عليه. لينتهي الفيلم بالعودة إلى مشهد البداية مجدداً حيث يحدث اللقاء بينهما في عالمها المتخيل وتستعيد بين أحضانه طفولتها المسلوبة.

يفتقد الفيلم في جوهره إلى التماسك، فالسلاسل السردية قصيرة وبالكاد مترابطة. وبسبب الأسلوب السردي الذي تتشابك فيه الحياة والحلم والواقع والخيال، لا يترك للمشاهد فرصة لفهم ما يحدث. فالسجناء يتم تحويلهم إلى شخصيات بلا روح بدون قصص خلفية، وبدلاً من ذلك يتم تشكيلهم كأساس لقصة خيالية.

أما الدافع وراء عمليات القتل التي يقوم بها الأب باستخدام النرد وكذلك الرابط بينه وبين نزلاء السجن يشكلان لغزاً؛ ربما أراد صناع الفيلم أن يرمزوا إلى أن الطريقة العشوائية التي يتبعها الأب في اصطياد ضحاياه معتمداً على الحظ، هي أيضاً نفس الطريقة التي تدار بها هذه الجزيرة المنهارة، حيث رمية نرد تحدد من يحيا أو يموت، يعيث القتلة فساداً ونهبا في الأرض دون رقيب بينما يُسجن الأبرياء في سبيل الحصول على قطعة خبز.

في حوار لها على هامش مهرجان “جي هلافا” التشيكي للأفلام التسجيلية تقول رانيفوجاونا: “يتسع السجن الذي قمت بالتصوير فيه لنحو 250 سجينا بينما تتجاوز سعته الفعلية الــ800، لذلك يموت الكثير من السجناء سنويا من الجوع لأن ميزانية الطعام لا تكفي كل هذا العدد”.

رغم حالة الغرابة وعدم الارتياح التي سببها تداخل تسلسلات الأحلام الكابوسية مع العناصر التسجيلية، إلا أن رانيفوجاونا وتيلر استطاعا تقديم لمحة بلا حرج عن حياة ومصاعب شعب مدغشقر، الذي بات وضعه يشبه شخص ينتظر حكم الإعدام كل يوم داخل هذا السجن المعزول. سجناء – كما تصفهم الراوية – لا يبدو على أي منهم ملامح القتلة، جريمتهم الوحيدة التي قادتهم إلي ذلك المكان المقفر هي السرقة من أجل تأمين الطعام لعوائلهم.

Visited 25 times, 1 visit(s) today