“هاتولى راجل”.. محاكاة ساخرة للمجتمع الذكورى!
توصف المجتمعات العربية بأنها مجتمعات ذكورية، يديرها ويسيطر عليها الرجال لصالح الرجال، لا مكان فيها للمشاركة مع المرأة، يصل الأمر أحيانا الى أن تكون الذكورة فوق الشرائع والأديان (الاستيلاء العلنى على الميراث الشرعى للأخت ورفض فكرة الخلع)، بل إن “الذكورة” تعنى ” الرجولة” فى تلك المجتمعات، مع أنهما مصطلحان مختلفان: الذكورة ترتبط بالنوع والجنس والجسد، والرجولة مواقف وصفات وملامح شخصية.
فيلم “هاتولى راجل” الذى كتبه كريم فهمى وأخرجه محمد شاكر خضير فى أولى تجاربه، هو أفضل أفلام موسم عيد الأضحى، عمل ذكى وساخر، ولولا الإضطراب الشديد الذى حدث فى الثلث الأخير من الفيلم، ولولا أن المؤلف اختلطت عليه الأمور، فانحاز الى تصرفات رجالية انتقدها فى النساء اللاتى تمارسن أدوار الرجال، لولا كل ذلك، لأصبحنا أمام عمل ناضج واستثنائى وخطير.
الفيلم يسخر من المجتمع الذكورى بتقديم محاكاة تهكمية له من صنع النساء، دراميا يحدث إنقلاب فى الأدوار على طريقة أفلام مصرية سابقة معروفة مثل “الآنسة حنفى” لفطين عبد الوهاب، و”السادة الرجال” لرأفت الميهى، إنه ما يعادل بالضبط استخدام منطق المخالفة: بدلاً من أن تقول إن الغنى لا يشعر بالفقير، تضع الغنى فى مكان الفقير، وبدلا من أن تقول إن المجتمع الذكورى يضطهد المرأة، تخلق مجتمعا أنثويا يضطهد الرجال.
أما عبارة “هاتولى راجل” التى يحملها العنوان، فقد قالها فى مجتمعنا الذكورى المعاصر أحد مشايخ الفضائيات، تعبيرا عن فائض ذكورة يحتقر الأنثى عموما، ولا يراها إلا مستودعا للشهوة والفتنة، التى لعن الله من ايقظها، ولكن العبارة تتحول فى فيلمنا الظريف الى العكس تماما، فى المجتمع نسائى يصبح الرجل مثل الفاكهة النادرة، وموضوعا للتحرش من مئات النساء، ويصبح شعار كل أمرأة فيه هو “هاتولى راجل” لزوم إشباع الغريزة، وإنجاب الأطفال.
نيجاتيف وبوزوتيف
الفيلم إذن هو النسخة النيجاتيف من مجتمعنا الذكورى، وبضدها تتميز الأشياء كما يقال، ولأن التحول النسوى للمجتمع العربى ضرب من الخيال، فإن كريم فهمى يجعل الفكرة فانتازية، ولأن الهدف هو المحاكاة التهكمية للنسخة البوزيتيف لفضح تناقضاتها، فإن الفيلم يكتظ بمشاهد “البارودى” اللاذعة المستوحاة من أفلام السينما المصرية، التى فى معظمها إنعكاس لحالة مجتمع متضخم الذكورة، وإن كان يعانى من مشكلات فى فهم معنى الرجولة.
يبدأ الفيلم بالخبير (عزت أبو عوف) الذى افتتح مركزاً لإعادة تأهيل الرجولة وليس الذكورة، إنه يحكى ، وأمامه ثلاث حالات فى طور العلاج، عن بداية التحول: فى أثناء الحرب العالمية الثانية، قررت إحدى الدول الأوربية إنتاج عقار ملئ بالهرمونات الأنثوية، ألقوه فى المياه بهدف إنتاج جيل جديد يخلو من الذكور المجانين الذين أشعلوا الحروب، ونشروا الخراب.
انتقل العقار الى مصر، تعاطاه الناس فى الماء، تراجعت أعداد المواليد الذكور بصورة واضحة، احتكرت المرأة كل المهن الذكورية، تماثيل سباع قصر النيل الشهيرة أصبحت تماثيل إناث سباع قصر النيل، حتى منتخب الكرة أصبح من النساء، ما تبقى من الرجال، أو من ولدوا من الذكور، أخذوا صفات الأنثى فى المجتمع الذكورى الراهن : مهمشة وضعيفة ومضطهدة ومطاردة بسبب الطمع فى جسدها، والحالات الثلاث التى يعالجها الخبير من هؤلاء الذكور الذى شاء حظهم أن يعيشوا فى مجتمع نسائى مكتسح.
يتم تضفير حكايات الشخصيات الثلاث بشكل جيد، تتصاعد كل قصة بصورة متقنة، ونعود فى فلاشات قصيرة الى حوار الحالات الثلاث مع الخبير تجنباً للثرثرة التى عانت منها أفلام سابقة مثل “نظرية عمتى”، الذى أصبح أقرب الى البرنامج التليفزيونى فى بعض أجزائه، أما “هاتولى راجل” فهو يقول ما يريد من خلال مشاهده، الدراما أفعال وليست أقوال.
مسخرة افتراضية
تنشأ الكوميديا فى مواقف الفيلم بسبب انقلاب المواقع، ونتيجة لأن هذا العالم الإفتراضى الذى نراه ليس إلا عالمنا الواقعى الذى نعيشه ولكنه مقلوب، وعندما تشاهد نساء تتحكمن فى الرجل، فأنت فى الحقيقة تشاهد الرجل المصرى وهو يتحكم فى المرأة ولكن من مرآة مقابلة، كل شكوى رجالية للشخصيات فى العالم الإفتراضى هى بالتحديد شكوى نسائية واقعية معاصرة.
حالة مجدى (أحمد الفيشاوى) وعلياء (يسرا اللوزى) هى بالضبط حالة الرجل الذى لا يرى فى المرأة إلا شهوة وجسد، ولكنها هنا معكوسة، إذ أن علياء التى تعمل مخرجة إعلانات، تشتهى مجدى الخجول ضعيف الشخصية عديم التجربة، تقوم بإغوائه بالمسكرات، وبعد أن يفقد أعز ما يملك، يبكى فى السرير مؤكداً أنه “ولد ولود”، وهو التعبير المعكوس لعذرية الفتاة فى المجتمع الحالى، والتى توصف بأنها “بنت بنوت”، علياء ترفض الزواج من رجل نامت معه، مثلما يرفض الرجل الزواج من امرأة نام معها فى المجتمع الذكورى، والحكاية كلها محاكاة تهكمية لفيلم “السلم والثعبان” لطارق العريان، ومشهد فتح الشباك برياح عاتية، وهو المجاز السينمائى الأشهر فى أفلام الأبيض والأسود المصرية لفض العذرية، يستخدم هنا بصورة معاكسة، وهو فقدان مجدى لعذريته!
أما حالة على (شريف رمزى) والضابطة هند (ميريت)، فهى المعادل المعكوس لرفض الرجل غفران ماضى المرأة القديم، وافتراضه أنها كائن لم يلمسه أحد ومغلف بالعفة انتظارا للذكر الوحيد، “على” يحترف الدعارة، يؤجر جسده للنساء مقابل النقود، جيجولو فى عالم نسائى تماما، فجأة يشعر بالحب تجاه الضابطة التى تعمل فى وزارة الداخلية، الرتب كلها من النساء، عندما تكتشف ماضيه، ترفض توبته، بينما يؤكد لها إن عليها أن تحمد ربنا إذا حصلت على رجل تم تقبيله فقط، إنها نفس العبارة التى تقال عن النساء فى المجتمع الذكورى.
حكاية على وهند تستوحى عددا كبيرا من مشاهد الأفلام التى تنتهك فيها أجساد النساء، أو تلك التى تتحول الرجولة الى قفزة فى الهواء، شخصية فرج الذى يغتصب زينب فى فيلم الكرنك، تتحول هنا الى امرأة شرسة اسمها فرح تهدد باغتصاب مجدى، وقفزة أحمد السقا (صاحب أكثر الأفلام ذكورية فى جيله) أمام منى زكى فى فيلم “مافيا” تدليلا على حبه وكأن الحب بالقفز، تتحول هنا الى قفزة عكسية تقوم بها الضابطة هند للبرهنة على حبها للجيجولو على.
وفى حكاية دنيا (إيمى سمير غانم) وسيف (كريم فهمى) إسقاط ومجاز لتلك النظرة الذكورية التى تتباهى بالفحولة وتعتبرها معادلا للرجولة، وإسقاط على تحكم الأزواج الرجال الذين يعتقدون أنهم امتلكوا زوجاتهم، ليلة دخلة سائق القطار (أحمد مظهر) على عروسه (شادية) فى فيلم “لوعة الحب” لصلاح أبو سيف، يعرضها الفيلم معكوسة، فالعروس دنيا جريئة، والعريس سيف خائف، وعندما تفشل فحولة الأنثى، يقوم سيف بتطييب خاطرها لأن “الجايات أكثر”، و العروس قد تكون مجهدة، بل إن المرأة هى التى تتناول المنشط الجنسى لا الرجل، وغيرة الرجل على زوجته بسبب ارتداء المايوه، ورفضه لعمل زوجته، يتم قلبه، فيصبح سيف ممنوعا من العودة الى عمله، ويصبح المايوه الذى اختاره موضع انتقاد ورفض من دنيا.
ارتباك وتشويش
يشخص الخبير حالة النبذ التى تعرضت لها الشخصيات الثلاث على ومجدى وسيف، بأنها ناتجة عن خلط النسوة المسترجلين بين الذكورة والرجولة، ويقدم نصائحه للثلاثة لإصلاح الأوضاع، هنا يرتبك السيناريو وتتشوش رؤيته، ويرجع ذلك بشكل أساسى الى أن كريم فهمى نسى أن نساء الفيلم استعارة ومجاز للمجتمع الذكورى المعاصر، وأن رجال الفيلم استعارة ومجاز لنساء مجتمعنا المعاصر المضطهدات.
أدى هذا الخلط الى قيام سيف ومجدى بتصرفات ذكورية عنيفة أنكرا ما يوازيها على كل من دنيا وعلياء، وبدلا من اقتراح علاقة متكافئة توحد فيها معايير الحكم على السلوك بين الرجل والمرأة، فإن سيف يغيظ دنيا بادعاء الزواج عليها، ويحاول إثارة غيرتها لكى تقوم بتطليقه، فترضخ دنيا لهذا الإبتزاز الذكورى المضاد، ونخرج من اللعبة الإفتراضية بتبادل الأدوار بين الرجل والمرأة، لنعود الى أى فيلم معاصر عن الرجل والمرأة هذه الأيام، كل واحد فى دوره بلا تبادل.
يحدث نفس الشئ مع مجدى الذى يثير غيرة علياء بفتاة أخرى، ويذلها برفض جسدها، أى أنه يراها جسدا مثلما كانت تراه، بل ويتحرش بفتاة فى حفلة كما كانت علياء تتحرش به، سقطت أقنعة اللعبة، ووقع السيناريو فى الفخ.
ربما كانت نهاية علاقة على وهند هى الأفضل، لأن الضابطة ستغفر للرجل ماضيه، ورغم أنه حاول إغاظتها بمغازلة رئيستها المتصابية (رجاء الجداوى)، إلا ان لعبة الأقنعة المتبادلة ظلت مستمرة حتى النهاية: المرأة الإفتراضية/ معادل الرجل المعاصر، تقبل توبة الرجل الإفتراضى/ معادل المرأة المعاصرة.
هذا التشويش فى الثلث الأخير فى الفيلم كارثى لأنها نقيض لعبة الدراما ومغزاها، وقد حرم ذلك “هاتولى راجل” من مكانة أرفع، ولكن كريم فهمى أثبت أنه يستطيع كتابة كوميديا الموقف بشكل مميز، وأثبت محمد شاكر خضير فى تجربته الأولى قدرته على تقديم هذا النوع الصعب من الكوميديا، هناك لمحات ذكية كثيرة عن التحول المجتمعى النسائى، حتى أسامة منير حلال مشاكل العواطف والإذاعى الشهير تحول الى امرأة ولكن بصوت أسامة، الممثلون الذكور مثل أحمد عز الذى يظهر كضيف شرف يشكون من قلة البطولات الرجالية فى الأفلام، مثلما تشكو البطلات اليوم من قلة البطولات النسائية فى أفلام اليوم، لعل أفضل ما فعله المخرج هو ترك الممثلين بأداء طبيعى حسب جنسهم الأصلى وليس الإفتراضى، وذلك رغم تبادل المواقع بين الرجال والنساء، كان هناك فقط إيحاء بالتغير مثل إشعال فتاة لسيجارة، أو نظرات عين شاب خجول.. الخ
هناك أيضا تميز فى عناصر مثل الديكور (أحمد شاكر) والموسيقى التصويرية (مصطفى الحلوانى)، والملابس (مها بركة وخالد عبد العزيز)، والصورة (نزار شاكر)، وهناك تميز فى أداء الممثلين وخصوصا أحمد الفيشاوى وشريف رمزى اللذين قدما مشاهد كوميدية ناجحة، رغم عدم تصنيفهما ككوميديانات، كان كريم فهمى أقل الجميع، يحتاج الى كثير من النضج والتدريب على استخدام صوته، وعلى المرونة فى تعبيرات الوجه، ولكننا فى النهاية أمام فيلم مختلف يستحق المشاهدة، رغم الملاحظ الأساسية على ثلثه الأخير، يكفى أننا أمام هجائية للذكورة فى مجتمع يتباهى بها، بينما يفهم الرجولة على نحو خاص لا علاقة له بمعناها الفعلى.