نوستالجيا.. هوامش جديدة حول أفلام قديمة
(1)
أىّ قارئ للتاريخ الحقيقى لصلاح الدين الأيوبى يعرف أن الفيلم الشهير الذى أخرجه يوسف شاهين من المستحيل أن يصنف كعمل تاريخى إلا من حيث الشكل فقط، ولكنه فيلم سياسى تماما من حيث المضمون، يساند بقوة فكرة القومية العربية التى تبناها عبد الناصر.
يمتد خيط الوحدة “العربية” من “الناصر” الى “ناصر”، ويصبح الصليبيون نموذجا لاستغلال المسيحية لأهداف سياسية مثلما أصبحت الصهيونية وإسرائيل معادلا معاصرا لاستغلال اليهودية لأهداف سياسية. حتى عبارات مثل “الأرض تتسع للجميع”، ليست فى حقيقتها سوى ترجمة لمعنى التعايش رغم سطوة الحرب الباردة، كل تفصيلة تم تطويعها لهدف معركة القومية العربية رغم أن صلاح الدين كان كرديا، ستجد أيضا الطابور الخامس العربى الذى لعبه توفيق الدقن، والذى يمثل إسقاطا على الأنظمة العربية المضادة لعبد الناصر، يصل الوضوح الى ذروته فى خطبة صلاح الدين (أحمد مظهر) أمام جيشه، والتى تقمص فيها عن عمد طريقة أداء عبد الناصر ( أيها العرب ، فلتعلن دقات الطبول نهاية الخيانة .. إلخ ) .
المشروع اصلا كان لعز الدين ذو الفقار الذى كتب إحدى النسخ الأولى للفيلم، وهو الذى رشح يوسف شاهين لإخراجه، بسبب مرض عز، نسخة عز الدين ذو الفقار كان محورها قصة الحب بين عيسى ولويزا، وظل هذا الخط موجودا ولكن مع دفع الخط القومى الى المقدمة (أرجح أن ذلك من لمسات عبد الرحمن الشرقاوى)، انطلق شاهين بعدها ليستعرض كل قدراته الحرفية، بل إنه قدم مشاهد مذهلة كاستخدام التجريد فى مشهد قتل الحجاج، وكالمشهد التجريبى لمحاكمة لويزا بالتوازى مع محاكمة صلاح الدين لأحد الخونة العرب، مع الإستخدام الفذ لإمكانيات الشاشة العريضة خاصة فى مشاهد المجاميع.
حضرت ندوة لشاهين قال فيها إنه استخدم كاميرا متواضعة فى تصوير الفيلم، وعانى وديد سرى (مدير التصوير الكبير) بشدة فى الحصول على أفضل النتائج، وعلى حد قول شاهين: “كل ما كان تتوفر شوية فلوس نطلع نصوّر شوية”، الفيلم يصمد للمقارنة أمام أى أفلام عالمية من نفس النوعية، بل إنه صمد للمقارنة أمام فيلم “مملكة الجنة” رغم إمكانياته الضخمة، يكفى أن ملابس ولى الدين سامح وشادى عبد السلام تتحدى وتتفوق حتى اليوم، ويكفى هذا الكاستنج (تسكين كل ممثل فى دوره) المذهل، ويكفى أن دور صلاح الدين ذهب الى أحمد مظهر، بعد أن ظل فريد شوقى المرشح الأول فى مشروع عز الدين ذو الفقار.
(2)
رغم رداءة الإعداد السينمائى لثلاثية نجيب محفوظ، إلا أن يحى شاهين وآمال زايد وعبد المنعم إبراهيم تحديدا أغلقوا الباب تقريبا أمام أى ممثل فى محاولة تجسيد أدوار سى السيد وأمينة وياسين على التوالى، يكفى أن تقارنهم باجتهاد محمود مرسى وهدى سلطان وصلاح السعدنى فى المسلسل المأخوذ عن نفس العمل، الفارق شاسع، كان نجيب محفوظ نفسه عندما يقابل يحى شاهين يقول له: ” أهلا سى السيدّ”.
قوة الثلاثية فى تعدد مستويات قراءتها: يمكن أن تراها مثلا كشهادة عن انتقال وطن من القرن التاسع عشر الى القرن العشرين، ويمكن أن تعتبرها وثيقة إجتماعية مذهلة عن فكرة التغيير بالثورة فى مصر الحديثة، ويمكن أن تراها دراسة عن نشوء وانهيار السلطة الأبوية فى المجتمع العربى، سى السيد تهدد ثورة 1919 سلطته الأبوية بتمرد فهمى عليه، ثم يأتى كمال لكى يتمرد نهائيا على كل السلطات الأبوية فى الأرض وفى السماء، ويحاول إعادة تعريف كل شئ، يصدم أولا لأن الحسين ليس مدفونا فى مسجده، ثم يصدم ثانيا بمشاهدة نزوات الأب، ثم يصدم ثالثا بوفاة شقيقه فهمى، ثم يصدم رابعا بوفاة سعد، زعيمه الروحى، ثم يصدم خامسا بصدمته فى معبودته عايدة،الثلاثية فى إحدى معانيها العظيمة عملية بحث شاقة عن الذات على مستوى كل شخصياتها، وعلى مستوى الوطن بأكمله، ربما سيعانى الأحفاد أيضا، لأنه لا تجربة بدون آلام، ولكنهم أكثر اتساقا مع أنفسهم، وكأن إزدواجية سى السيد ورضوخ أمينة، تتطور الى مصالحة مؤقتة، وأسئلة لا تتوقف .
عندما يسأل مساعد سى السيد عن الفئة التى يمكن أن يسجل تحتها مصروفاته على الغوانى، يرد مبتهجا : سجّلها تحت بند ” بضاعة أتلفها الهوى”، وكأنه يضع بذلك عنوانا عريضا عبقريا عن سبب معاناة أجيال ثلاثة فى الثلاثية ، وليس معاناته فقط.
(3)
فى فيلم”بئر الحرمان” تلعب سعاد حسنى أحد اهم أدوارها. ليس فقط بإتقان أداء شخصيتين فى جسد واحد، ولكن فى التعبير عن مشاعر إنسانية متناقضة ومعقدة. الحالة الغريبة يطلق عليها “تعدّد الشخصية” وليس الفصام كما هو شائع، هناك حالات معروفة ومسجّلة فى هذا الصدد، تنشأ فى الغالب من صدمة قاسية فى مرحلة الطفولة.
أداء سعاد حسنى يصمد للمقارنة وبقوة مع أداء جوان وودوارد فى الفيلم الشهير الذى أنتج فى الخمسينات، وعنوانه “ثلاثة وجوه لإيف”، وهو مأخوذ عن حالة حقيقية لسيدة انشطرت الى ثلاث شخصيات مرة واحدة بسبب حادث فى طفولتها، حيث أجبروها على تقبيل جثة جدها الميت رغم رفضها ورعبها من التجربة.الطريقة الشائعة للكشف عن هذه العقد هى تقنية التحليل النفسى، وهى عملية صعبة ومعقدة، وتحتاج الى تدريب طويل للأطباء، إذ أن المريض يهرب من عقدته، يدفعها الى دائرة اللاشعور، يقمع ظهورها، فى الغالب يكون عاجزا عن معرفة أنها سبب مأساته، يحاول تضليل الطبيب، وإذا تعجل الطبيب الكشف عن العقدة، وإظهارها الى دائرة الشعور، فقد ينفجر وينهار المريض تماما. الطب النفسى الآن أقل خيالا لأنه يُرجع معظم الإضطرابات الى مشكلات كيماوية فى المخ، وبالتالى يكفى فيها العلاج بالعقاقير، وإن ظل التحليل عنصرا مساعدا فى بعض الإضطرابات مثل حالات الفوبيا أو الوساوس القهرية.
لقطة من فيلم “بئر الحرمان” تجمع بين محمود المليجي وسعاد حسني
سعاد حسنى موهبة استثنائية، لديها حساسية مذهلة، وجهها وعيناها تستطيعان استدعاء أعقد التعبيرات فى لمح البصر، المواهب لا يمكن تفسيرها، قد تكون سعاد لا تعلم شيئا عن الذاكرة الإنفعالية، ومخزون الخبرات، ومنهج ستانسلافسكى الصارم، ولكن لديها قرون استشعار، وخزّان عميق تتكدس فيه تلك الخبرات، لتخرج أمام الكاميرا، كما أن لديها خيالا مدهشا، يسعفها فى تجسيد ما لم تمر به فى حياتها.
يحكى يسرى نصر الله أنه طلب من على بدرخان أن يشاهد سعاد حسنى وهو تمثل فى فيلم “الراعى والنساء”، عندما دخل يسرى الأستديو، فوجئ بسيدة قصيرة وممتلئة وضئيلة تجلس فى هدوء، لم يصدق أنها سعاد بشحمها ولحمها، ولكن عندما دارت الكاميرا، اكتشف يسرى أنه أمام امرأة جديدة تماما، مخلوق آخر تشع منه حيوية وطاقة خارقة، يقول نصر الله :” رأيتُ بعينى يومها كيف أن التشخيص فى مستوياته الرفيعة ليس أقل من عملية خلق كاملة، أوكأنه ميلاد جديد”.
(4)
فؤادة فى فيلم “شئ من الخوف” هى إحدى اشهر الشخصيات الدرامية فى السينما المصرية. أفضل ما فعله حسين كمال أنه استخدم أدوات ذكية وبسيطة لإبراز الطابع الرمزى للشخصية، هيئتها مثلا تكاد تكون النموذج البشرى لفلاحة محمود مختار فى تمثال نهضة مصر، وأبرز ما فيه العينان المكحولتان، كانت فؤادة عيون القرية اليقظة ، أما حركة فؤادة فهى غير واقعية على الإطلاق ، إنها تسير مرفوعة الرأس دائما وفى خطوط مستقيمة، على عكس حركة عتريس العصبية والعشوائية حولها، كما أنها تسيطر على التكوين دائماً حتى ولو كان عتريس يهددها، واقع الأمر أنه لم يكن يخشى أحدا، ولم يكن يخاف من أحد مثل فؤادة، لأنها بقايا ضميره الذى لم ينجح فى قتله.
حسين كمال مخرج كبير من الطبقة الأولى الممتازة، فنان حتى النخاع، هو الذى تحمس لاقتراح البنودى بإعادة كتابة السيناريو كاملا فى صورة غنائية ملحمية، الفيلم أفضل من الأصل القصصى بمراحل، وهى خالة نادرة فى السينما المصرية والعربية كانت هناك صعوبة عملية فى سيطرة فؤادة على التكوين أمام عتريس هى أن شادية قصيرة وضئيلة الحجم مقارنة بمحمود مرسى، وقد تحايل حسين كمال على ذلك بالكلوزات (اللقطات القريبة) للوجهين من زوايا مختلفة، وعدم اللجوء الى اللقطة البعيدة إلا للشديد القوى .
(5)
ربما يكون سعيد مهران هو النموذج الأشهر والأهم لشخصية البطل الضد فى السينما والأدب العربى، الشخص المتمرد والخارج عن الجماعة الذى يثير التأمل والتعاطف أحياناً. أصل الشخصية هو محمود أمين سليمان اللص الذى أطلقت عليه الصحف لقب السفاح، مجرد لص عادى قام محاميه بالزواج من زوجته نوال أثناء وجود سليمان فى السجن، رسائل اللص بعد قتله فى مغارة كشفت عن حبه للأدب والكتابة، فبدأ اللص انتقامه بعد الخروج.
أخذ نجيب محفوظ الشخصية، وطرح من خلالها تساؤلات خطيرة حقا : هل القانون هو العدل أم أنهما شيئان منفصلان؟ لماذا يعاقب القانون على السرقة ولا يعاقب عن الخيانة أو الكذب أو الخداع؟ هل يمكن أصلا تطبيق العدل على الأرض؟ تحوّل سعيد مهران الى متمرد، والى تعبير عن الإنسان الباحث عن العدل بلا جدوى، لم يجادل سعيد ابدا فى أنه لص، دخل السجن وأفرج عنه فى عيد الثورة، كلما أراد تحقيق العدل قتل بريئا ، لكنه يتساءل فى النهاية: لماذا يعاقبون اللصوص ولا يعاقبون الكلاب ؟ سعيد مهران ورؤوف علوان اسمان على نفس الوزن، ولكن أحدهما فى قلب المجتمع، والثانى على هامشه، نتعاطف مع سعيد مهران لأنه أصبح سؤالا لا نجد له إجابة، يقول فى مونولوج شهير:” ” إن من يقتلني إنما يقتل الملايين ، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء ، أنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه ، والقول بأنني مجنون ينبغي أن يشمل كافة العاطفين، فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم.”.
مشكلة الفيلم أنه رغم الحضور الجسدى الكبير لشكرى سرحان، إلا أن وجهه جامد. ُصنعت نسخة أخرى ضعيفة للغاية من الرواية العظيمة بعنوان “ليل وخونة” من بطولة محمود ياسين ونور الشريف فى التسعينات ، جعلوا الموضوع حكاية كشوف البركة فى التسعينات؟!!! لدىّ ذكرى إضافية عن رواية “اللص والكلاب”، لقد كانت أول رواية قرأتها لنجيب محفوظ.
(6)
نفيسة بطلة فيلم “بداية ونهاية” مأساة كاملة، فى سقوطها تجسدت معاناة عائلة بأكملها ، أداء سناء جميل للشخصية هو دور عمرها، شاهدت النسخة المكسيكية، وكانت صاحبة الدور رائعة، وحصدت من خلاله على أكبر الجوائز، ولكنها لم تكن أبداً فى مستوى سناء جميل ، كانت الفكرة الأولى عند نجيب محفوظ . أن يكتب رواية تسخر من الطموحات المزيفة، ولكنه اكتشف تدريجيا أنه يكتب مرثية لأبطاله . الرواية لا تجزم بانتحار حسنين لأنها تراه أجبن من ذلك . فى السنوات الأولى من انقلاب عام 1952، التقى الضابط أنور السادات بنجيب محفوظ فى مكتب إحسان عبد القدوس فى روز اليوسف، وسأله عن انتحار حسنين، السؤال خبيث لأن حسنين من الدفعة التى دخلت الحربية إثر معاهدة 1936، وكان منها عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ، قيل فيما بعد أنها إشارة تنبؤية لما سيحدث بعد صعود الضباط، ولكنه بالطبع أمر لم يخطر أبدا على بال نجيب محفوظ ، ولكن السادات كان حزينا على مصير حسنين.
(7)
ينشأ الضحك فى أداء استيفان روستى الفريد بسبب التناقض الصارخ بين هيئته الوقورة، التى تذكرك بسفير أو مدير بنك، وبين ما ينطق به من هراء لايمكن أن يصدر إلا من شخص “فلاتى صايع”، ثم يضيف الى النطق هدوءا مدهشا، ويخرج الكلام من أنفه بترفع شديد، لو اختلت ثنائية الوقار والهراء، لما أضحك أبدا. لاشك أنه أظرف شرير فى السينما المصرية، كما أن تناقضاته الخاصة (روحه المصرية الخالصة وأصوله الأرستقراطية الأوربية) ، قد أفادته كثيرا فى ترجمة ذلك الى أداء يستفيد من المفارقة، عندما تسأله فاتن حمامة فى “سيدة القصر”: “هوة انت بتشتغل إيه بالضبط “؟، يرد وكأنه فى مؤتمر صحفى ” أنا ؟ باشتغل مهندس”، وعندما تقول له زوزو ماضى فى نفس الفيلم إعجابا بخططه الجهنمية : “يخرب بيتك يا شفيق”، يرد عليها وكأنه صاحب مطعم يريد إرضاء أفضل زبونة : “وبيتك يا هانم”، وعندما تستغرب فردوس محمد لأنه يريد الرقص، يؤكد حيرتها بكل ثقة قائلاً: “طيب ح اروح اتحزم واجيلك” ، فى رأيى أن معظم ممثلى أدوار الشر استفادوا من هذا التكنيك فى الأداء، وخصوصا فريد شوقى فى بداياته. كثيرون لا يعلمون أن استيفان روستى كان صديقا صدوقا لاثنين من أهم ممثلى مصر فى القرن العشرين وهما يوسف وهبى ونجيب الريحانى، وترجع معرفته بهما الى أيام الضنك والتشرد والشقاء فى أوائل القرن العشرين، والاثنان كتبا عنه بحب وتقدير ووفاء فى مذكراتهما، بل إنه لولا روستى ما عمل الريحانى فى الملهى الذى ابتكر فيه شخصية كشكش بك، ومن المفارقات أن أجر روستى فى بداية عمله بالملهى كان ستين قرشا فى اليوم، بينما كان أجر الريحانى أربعين قرشا فقط، و كان مازال يبحث وقتها عن طريق!
(8)
فى أفلام الأبيض والأسود مشخصاتى من الوزن الثقيل، رجل بمائة وجه، زكى رستم ممثل مسرحى بالأساس، بقى من أدواته كممثل مسرحى الطريقة التى يستخدم بها صوته، والطريقة التى يجسد بها الأداء الحركى، وبعضا من تعبير الوجه وجحوظ العينين، ولكنه استوعب بموهبته الجبارة (ما فيش وصف غير كدة) طبيعة الأداء السينمائى.
قوّته الخارقة فى الدخول تحت جلد الشخصية مهما كانت، وبناء تفاصيلها بدأب وبراعة، والإقناع بها، وفى كل الحالات هناك حضور مذهل على الشاشة، المسافة هائلة بين أبو زيد التاجر الجشع فى “الفتوة”، والجد المكلوم فى “ياسمين”، والموظف الغلبان فى ” معلش يا زهر”، وتاجر المخدرات فى “رصيف نمرة 5″، والأب البائس فى “أنا وبناتى”، ومع ذلك لاتوجد أدنى مشكلة فى التشخيص والإتقان، بل إنه يستعرض بأداء نفس الشخصية بتنويعاتها (الباشا فى ياسمين يختلف عن الباشا فى ليلة بنت الأغنياء عن الباشا فى نهر الحب ). كان يتحرك مثل جيله بموهبته العظيمة وحدها، ورغم عدم إلمامه بمدارس فن الممثل المختلفة، إلا أنه ينتمى بوضوح الى مدرسة الإندماج الكامل، يقال إنه كان يمكن أن يصفع أو يضرب بالفعل إذا اندمج.
سمعت مرة فريد شوقى وهو يقول معلقاً على فيلم “شادر السمك” المقتبس عن فيلم “الفتوة”: ” مساكين ما عندهمش زكى رستم، قاموا فكوّا شخصية أبو زيد بأربعة ممثلين مرة واحدة !!” . معه حق.
(9)
عن مشهدها الوحيد فى فيلم “أريد حلاّ”، فازت الرائعة أمينة رزق بجائزة، المشهد عن أمرأة شديدة الإعتزاز بكرامتها، اضطرت أن تحكى قصتها مع طليقها لسيدة لا تعرفها فى محكمة الأحوال الشخصية، المخرج الكبير سعيد مرزوق ترك الكاميرا لفاتن حمامة وأمينة رزق، الإعتماد بالأساس على تعبيرات الوجهين فقط، لا حركة أخرى باستثناء إخراج أمينة لمنديلها لإزاحة دمعة شاردة فى نهاية المشهد، لو تخيلت خطاً وهميا بين فاتن وامينة، لانقسم الكادر الى قسمين متساويين، هذا هو المعنى: فاتن تكاد ترى مستقبلها فى أمينة، وكانها ستكون فى موقفها، الأبيض مقابل الأسود.
مرزوق قدم فى أفلامه القليلة مجموعة من أبرز النماذج النسائية فى تاريخ السينما المصرية، ورغم حبه الشديد للكاميرا وتكوينات الصورة، إلا أنه هنا اعتمد على البساطة والسكون، أستاذ كبير يدير ممثلتين من أهم ممثلات القرن العشرين، فاتن تفرغت تماما للسينما بعد الدراسة لعام تقريبا فى معهد الفنون المسرحية، فأصبحت أدواتها كممثلة شديدة الحساسية، تعطيك التعبير على قدر المطلوب، ولديها خبرة تجعلها تتخيل تأثير اللقطة بعد تركيبها ضمن لقطات، أما أمينة فقد ولدت فى المسرح، ووسط تراجيديات ومليودرامات يوسف وهبى، ولكنها نجحت بموهبتها العظيمة فى تطوير أدائها، ليست لديها أى مشكلة، كنت أراها كثيرا بمعطفها الأسود فى طريقها للتليفزيون، هى أجمل كثيرا فى الواقع مما كانت تبدو على الشاشة، خواجاية عجوز بعيون ملونة تفيض طيبة وبشاشة، ظلت تعمل حتى أيامها الأخيرة، مشهدها مع فاتن فى “اريد حلاّ” من أهم مشاهد أداء الممثل فى السينما المصرية، ليتهم يدرسونه لطلبة معهد السينما قسم الإخراج، وليتهم يعيدون قسم التمثيل بمعهد السينما من جديد.