“نورا تحلم”.. سؤال الخيانة المشروعة
قصة أيام وليالٍ قليلة تمرُّ بها “نورا” وعائلتها تلك التي تشكِّل فيلم “نورا تحلم”للمخرجة “هند بوجمعة”. عن قصة حقيقيَّة لامرأة تونسيَّة استطاعت المخرجة استغلالها لتقرِّب لنا حياة شريحة من المجتمع التونسيّ، ودراما قويَّة، وإخراجًا واضح المعالم والقسمات، وتمثيلاً فاعلاً من دراما ضيِّقة الأطراف.
منذ اللقطة الأولى تشعرك الموسيقى بالتوتر العامّ في الأجواء ثمَّ تأتي ابتسامة عميقة من “نورا” وهي تقول: أحبُّكَ لتلخِّص طرفًا من دراما الحدث. “نورا” (هند صبري) عاملة في مغسلة إحدى المشافي في تونس، متزوِّجة من لصّ ومُحتال وبلطجيّ “جمال” (لطفي العبدلي) وأنجبت منه ثلاثة صغار. بعد دخول “جمال” السجن لقضاء عقوبة جريمة من جرائمه تقع “نورا” في عشق رجل آخر هو “الأسعد” (حكيم بومسعودي) الذي يعمل مُصلح سيارات.
تسعى نورا للطلاق عن طريق المحكمة من زوجها جمال لتتزوَّج بالأسعد. وهي تظنّ أنَّ الدنيا ستصفو لها وتعيش عيشة هنيَّة. وفي يوم من الأيام وبينما تنتظر عشيقها في مقرّ العمل تُفاجَأ بجمال زوجها قد خرج من السجن لتنحرف مسارات الأحداث بشدة وتتعقد الدراما كلها. فنورا عليها أن تختار بين زوج يعدها بتحسين أفعاله، وبين أولاد لها لا تستغني عنهم، وبين رجل قررت أنْ تغير حياتها معه. وعلى جانب آخر ماذا سيكون رد فعل الزوج جمال حينما يعلم حقيقة الأمر؟ في هذه الأُطُر تسير دراما “نورا تحلم”.
الفيلم يعرض لعدة أمور عن طريق الدراما الواقعيَّة منها: هل تصير الخيانة مشروعة في ظلّ ظروف ضاغطة؟ ومنها العُنف الأُسريّ الذي يقع نتيجة أمور كعدم التوافق التكافؤ بين طرفي العلاقة أو كاختيار خاطئ واستمرار فيه، ومنها تفكُّك الأسرة التي في الأصل كالجسد الواحد والتي هي نواة المجتمع. لكنَّ الذي لمْ تُغفله التجربة هو أثر كل هذه الأسئلة والصراعات على المستقبل وهم الأطفال؛ فالفساد لا يطرح إلا الفساد في سلسال لا ينضب.
ويدخل الجميع في صراع دون مراعاة لأهمّ أهداف الأسرة وهم الأشخاص الذين نملك نحن قياد مسئوليتهم والذين نشكِّلهم تحت اسم علاقة يكتنفها الغموض هي “التربية”. كلّ هذا يحدث والمدينة تمضي في صراخها وضجيجها لا تعبأ لأحد من أطراف صراعنا كبارًا أم صغارًا.
كذلك يعرض الفيلم لجزء من تكوين ظلام المجتمع العربيّ التونسيّ ليكشف لنا أنَّ مبادئ اللعبة واحدة؛ فمبدأ “حاميها حراميها” نجده في علاقة تدبير وإدارة وتنظيم للجريمة من قبل الشرطيّ (جمال ساسي) الذي يدير الأعمال الإجراميَّة في ناحيته. ولعلّ مشهد التحقيق كان بارعًا في تصوير القهر الذي يسببه هذا المبدأ الذي فيه رمز العدالة هو رأس الجريمة. والذي نجد فيه مُطبِّق القانون يقع في المغالطة الدائمة ليقول بالنصّ: أنا القانون. ليحلّ نفسه محل وظيفته وعمله. ويرى نفسه مالك الكون ليقول للضحيَّة المُعتدى عليه: يمكنني أن أكيِّف القضيَّة على شرع في قتل! ليصير المقتول قاتلاً وليربط هذا بالدائرة الأكبر التي يتيه فيها الجميع.
ودارما الفيلم تصاعديَّة حادة قد توهم المُشاهِد في البداية أنَّ الفيلم هادئ، ولا يتوقع كم التطورات الحادة التي سيشهدها أطراف الصراع. وما صنع للقصة الحقيقيَّة عنصر الحدة هي طريقة انتقام الزوج من العشيق. لكنَّ الفيلم يصاب بالضعف في مراحله الأخيرة فيما يخصّ مصير نورا وتحررها وكيفيَّته.
“هند صبري” امرأة ذكيَّة لبقة قبل أن تكون ممثلة بارعة، والذكاء طالما كان رأس مال الممثل دومًا؛ فإنَّ أفضل عناصر التمثيل هم الأشدّ ذكاءً. فليس من الأساس في فكرة عميقة كفكرة “التشخيص” (التمثيل) أنْ تكون الممثل “الشخص” الذي سيمثلِّه -أيْ يشبهه-، لكنَّ الأساس أنْ يكون ذا حسّ وذكاء يكفلان له أن يقوم بالتشخُّص. الحسّ هو الموهبة، والذكاء هو الضامن للموهبة. و”هند صبري” تمتلك وفرة من العنصرَيْن فهي بالغة الموهبة وشديدة الذكاء في آنٍ معًا.
فازت الممثلة عن الدور بجوائز؛ هذا هو الأمر الطبيعيّ. هذا قد يهمها هي لكنْ ما قد يهمُّنا هو سؤال: كيف فعلتْ “هند صبري” ما يجعلها تلفت انتباه العين التي ترى؟ أو السؤال عن جماليَّات التمثيل. من أول المظهر الخارجيّ ولباس الشخصيَّة الذي راعى تمامًا واقعيَّة تقارب حد الانطباق على الشخصيَّة، وطريقة تصفيف شعرها وصباغته على درجتَيْن لونيتَيْنِ مما يشيع بين شريحة الشخصيَّة المُمثَّلَة (وهذه العناصر للمخرج دور كبير في تشكيلها، وكذلك للممثل خاصةً إنْ كان نجمًا). هذا المظهر الخارجيّ ساعد وهيَّأ الأعين لتصدق ما ترى.
ثمَّ تأتي حركات الشخصيَّة؛ ولننظر كيف شخَّصت “هند” شخصيَّة “نورا” حركيًّا منذ أوَّل لقطات الفيلم وهي تضع الهاتف بطريقة معينة، وهي تمضغ العلكة، وهي تمشي واللقطة واسعة في مشهد اكتشاف خروج “جمال” من السجن كيف كانت تمشي، وكيف توقفتْ حينما فُوجئت، وكيف ارتدَّتْ الطريق عائدةً.
ثمَّ يأتي الجزء الأشدّ ظهورًا وهو الوجه وما يتعلق به؛ فوجه الممثل وصوته سلاحا الحسم في معركة التمثيل. ويكفي أنْ يُتأمَّل تعبيرات وجهها في مشهد لنورا وهي تزيل طلاء أظافرها بعد عودة جمال من سجنه؛ فقد عبَّرتْ بوجه صامت ومجرّد إيماءات عن هموم الدنيا والآخرة التي تحملها فوق رأسها، دون أنْ تتكلم أو حتى تتنهد فليس في المشهد من صوت إلا أزيز إزالة الطلاء والاحتكاك فقط. وهذه قدرة لا يستهان بها. فضلاً عن حفاظها على لازمة قوليَّة هي “يا وِلْدِي” أيْ يا وَلَدِي أو يا بُنيّ.
وهناك قضيَّة تستحقّ الالتفات لها في جانب التمثيل وهي عدم أداء البطلة لأيَّة مشاهد جنسيَّة ظاهرة للعين؛ خاصَّةً ونحن في سياق دراميّ مفرداته العشق والخيانة، والعشيق والزوج كلاهما رفيقا البطلة طيلة الأحداث. لكنَّ اختيار الممثلة -أو فلنقُل قرارها- بعدم تمثيلها لأيَّة مشاهد غير لائقة بالمُشاهد لمْ يُفقد الدراما أو الفيلم أيَّة قيمة. مما يثبت من جهة بُطلان الدعوى التي ترفع شعار “واقعيَّة المشهد” لإدراج مشاهد قد تكون مُؤذية لعين المُشاهد، ومن جهة أخرى تشير إلى الحقيقة التي يتمّ دائمًا تجاهلها وهي: أنَّ التمثيل هو الحلّ. فلماذا ننسى أنّ مَن أمامنا دوره الأساسيّ هو التمثيل فإنْ كان مُجيدًا وقادرًا -كما حالة هذا الفيلم- فسيفعل كل ما يساعد على إنهاض الدراما، دون حاجة لأشياء أخرى.
ويدلُّ في فيلمنا أنَّ الممثل هو مَنْ قرَّر أنَّ الفيلم اتبع الواقعيَّة في كلّ عناصره حتى إنَّه لمْ يقصِّر في باب “العنف اللفظيّ” أنْ يتحفنا بتشكيلة من أفخم الألفاظ البذيئة لتصمّ آذاننا. فالواقعيَّة هي المذهب والواقعيَّة هي التنفيذ.
المخرجة استطاعت أن تقدم تصويرًا ممتعًا وذا جماليَّة عالية. لا يقتصر الأمر على بعض اللقطات شديدة الجماليَّة لوجه البطلة وانفعالاتها، وتكون هذه اللقطات قريبة أو شديدة القرب، وتكون مُواجهة الوجه أو ذات تكوين نصفيّ (أيْ تأتي بنصف الوجه فقط “بروفايل”). لكن أيضًا حافظت في غالب لقطات الفيلم على قواعد التكوين الأساسيَّة مما يجعلك تلتفت وتلحظ الأمر، حافظت على “قاعدة الأثلاث” خاصة بغضّ النظر عن عدد الشخوص محلّ التصوير؛ البطلة وحدها، البطلة وآخر، كثيرون. وعلى ذلك استطاعت الحفاظ بالعموم من خلال تكوين اللقطات العامّ، والحرص على مُكوِّنات الصورة من تزيينات وأشياء واقعيَّة على صُنع صورة جميلة حقًّا. والأشدّ استرعاءً للنظر أنَّها استمرَّت تراعي هذا من أول لقطة ظهر فيها فم البطلة إلى آخر لقطة في الفيلم.
وكذلك يذكر لها سيطرتها على عناصر واقعيَّة المَشاهد من اختيار أماكن التصوير، وما فيها. والأداء العامّ للممثلين خاصةً اختيارها للأطفال الثلاثة والقدرة على إخراج ما تستطيع به إدارة مشهدها. مع ما في القصص التي يظهر فيها صغار السنّ من صعوبة في التوجيه والتنفيذ.
غير أنَّ استخدامها للموسيقى في لقطتَيْ البداية الأولى والنهاية الآخرة أيضًا يستحقّ الاهتمام. اللقطتان من حيث الأجواء متضادتان؛ الأولى مليئة بأجواء التوتر الدفين، والأخيرة بها نسائم الانفراجة. استطاعت الموسيقى صُنع كلا الجوَّيْن؛ لكنَّ كليهما احتفظ بعنصر هو البطلة والابتسامة بين شفتيها. وإنْ كانت الأولى مُغرقة في الهيام، والأخيرة مُستشرِفة لأمل السعادة.