“نزوح”: جدلية الجودة والموضوع
عمرو علي
يُعبّر الفيلم السوري نزوح من تأليف وإخراج سؤدد كعدان الحائز على جائزة الجمهور في مهرجان فينيسيا والذي انطلقت عروضه التجارية في صالة سينما زاوية بالقاهرة خلال شهر أغسطس الفائت عن معضلة الفيلم الثاني الذي يجيء في الغالب الأعمّ سريعاً ومُتكئاً على نجاحات الفيلم الأول وسمعته، وتشتدّ معضلة هذا الفيلم عندما يجيء، كما في حالة فيلمنا، بوصفه امتداداً للفيلم الأول لجهة الموضوع وهو هنا الحرب السوريَّة التي لا تزال، على ما يبدو، تُشكّل مادة دسمة وجاذبة لبعض المهرجانات العالمية الكبرى وبعض منَّصات الدعم والتمويل والإنتاج المُشتَرك العربية والأوروبية التي ساهمت بزخم في إنتاج هذا الفيلم ولعلَّ أبرزها مؤسسة الدوحة للأفلام وشبكة CANAL+ التلفزيونية الفرنسية.
قصّة الفيلم بسيطة ظاهرياً وهي حكاية عائلة تعيش في منطقة مُحاصرة خلال ذروة العمليات القتالية، حيث تخضع البلدة بأكملها لسيطرة المجموعات المُسلّحة مما يجعلها عُرضة للقصف ويحّولها ميدانياً إلى جبهة مُشتعلة ليلاً نهاراً وإنسانياً إلى خزَّان بشري يُصدّر اللاجئين والنازحين خارج البلاد.
ولكن وسط هذه الأجواء ثمّة ربّ عائلة من الطبقة المتوسطة اسمه معتز (سامر المصري) يرفض ترك منزله والتحّول إلى نازح رغم النزيف البشري الحادّ الذي يُحيل المنطقة إلى بقعة مهجورة، ورغم القصف الذي يتعرّض له منزله فيُحّوله إلى خرابة، لتستمر زوجته هالة (كندا علّوش) وابنته المُراهقة زينة (هالة زين) في العيش وسط الحصار، ما تيَّسر لهم ذلك، انصياعاً لقرار الزوج النهائي، قبل أن تتشكّل سريعاً صداقة طفولية بين هالة وابن الجيران المُراهق عامر (نزار علاني) الذي يرث معدات المركز الإعلامي في المنطقة من كاميرا درون وجهاز إسقاط وكاميرا فيديو منزلية وموبايل ثريا يربطه بالإنترنت وبالعالم الخارجي، تعلم الأم عَبَره لاحقاً عن اختفاء ابنتها الكبرى التي تزوّجت ونَزَحَت من البلدة، ليحتدم الصراع تالياً بين هالة وزوجها الذي يُعلَن عن موافقته على اقتراح وسيط من أهالي المنطقة بتزويج ابنته من مُقاتل شاب كما سبق وأن تزوّجت أختها، فتهرب الأم برفقة ابنتها عبر نفق طويل خارج المنطقة بعد رفضها لهذا الزواج، ليلحق بهما الأب في اللحظة الأخيرة مُتنازلاً عن أنَفَته الطويلة ومُعلناً عن موافقته النهائية في التحّول إلى نازح.
ينتصر الفيلم في المحصلة النهائية لحقّ أفراد هذه العائلة البسيطة في الحياة طالما أنهم مدنيون عُزَّل شاءت الأقدار أن تتحوّل منطقتهم إلى جبهة مفتوحة، وأن تنحصر غاية أمانيهم في السفر عبر البحر إلى بلاد آمنة، حيث يتحوّل البحر بوصفه مُعادلاً للسلام والفرج المُنتَظَر إلى رفيق دائم لهالة وزينة في أحلام اليقظة، وتتحّول السماء بدورها إلى صفحة رائقة من المياه لا يُعكّر صفوها سوى الأحجار التي يرميانها من ركام منزلهما المُهدَّم، ولتُقرّر المُراهقة زينة في لحظة تجلّي برفقة صديقها عامر امتهان الصيد بعد انتهاء الحرب بوحي من لقطات لشاطئ البحر يعرضها عامر عبر جهاز الإسقاط على سطح المنزل الآيل للسقوط، وليُحضر الأب معتز بنَفسِه سنارةً لابنته في المشهد الأخير، رغم أنه كان قد أشهر مُسدّسه في وجهها في محاولة بائسة لثنيها عن عزمها بالنزوح برفقة أمها، وذلك في إشارة واضحة إلى تبدّل موقفه التَّام من فكرة النزوح وإلى رغبته النهائية بالبقاء بجوار عائلته.
لا يرفع الفيلم، على صعيد المضمون، نبرته عالياً ليُسفر النقاب عن موقف سياسي واضح، فيفترق بذلك عن مُجمَل الإنتاجات السينمائية السوريّة خارج البلاد والتي دأبت طيلة عقد من الزمان على النظر من منظور أحادي حوّلها إلى نسخ مختلفة من فيلم واحد يتكرّر كلّ حين، بل إن الفيلم لا يتوانى عن اعتبار معتز وعائلته محض رهائن في تلك البقعة المُحاصرة عندما يُصرّ أعضاء المجموعة المُسلّحة على إبقائهم داخل البلدة لاستخدامهم كدروع بشرية، بل إن خراب البلدة العميم لا يعدو، كما يقول المُراهق عامر، عن كونه مادّة لصورة فوتوغرافية أو مقطع فيديو تُدفَع لقاءَه مبالغ طائلة في الخارج.
إلا أن الفيلم بنفسه لم ينجو من هذه الشُبهة، إن جاز التعبير، طالما أنه قد قرّر الاتكاء على المأساة الإنسانية، رغم خفوت نجم أفلام الحرب السوريَّة عالمياً، مع الاستعانة باثنين من نجوم الدراما العربية للقيام بأدوار البطولة، مما حوَّل الفيلم إلى حالة تسويقية قابلة للنجاح ضمن معايير التوزيع العالمية، رغم مُجافاة هذا الاختيار لطبيعة الشخصيات وشرطها الزماني والمكاني، من حيث الشكل على الأقل، حيث يظهر الأب والأم وحتى الطفلة بأجساد ممتلئة وصحّة وافرة رغم أنهم يقبعون في الحصار، بينما يزخر منزلهم كما ظهر في المشاهد الأولى بمُختلف الأجهزة الكهربائية التي كان من الأجدر بيعها لتأمين تكاليف المعيشة الباهظة في مثل تلك الظروف، عدا عن مُبالغة البطل في الطرافة التي تصل إلى حدّ الكوميديا على صعيد الأداء رغم أنها لا تليق بطبيعة المأساة المهولة التي تُحيط به، وسط تنّوع على صعيد الأسلوب وحركة الكاميرا التي اعتمدت بالمُجمَل على الأحجام الضيّقة والحركة المُستمرة وصولاً إلى استخدام حركة زووم إن مُفاجئة تُذّكر ببعض اجتهادات مخرجي الدراما التلفزيونية السوريّة في حقبة سابقة، رغم أنها تفترق هنا عن المضمون وتأتي بمفعول عكسي يُضعف اللحظة الدرامية ويُقلّل من تأثيرها ويُرسّخ التشتّت البصري، على الرغم من الجودة الفنّية في إنجاز مشاهد خيالات زينة التي يُهيأ لها تارةً أنها تسقط بين النجوم عندما ترمي بجسدها من سطح المنزل إلى سرير طفولتها، وتتخيّل تارة أخرى تحّول السماء إلى صفحة رائقة من مياه البحر التي ترمي نحوها أنقاض المنزل.
وهكذا يراوح الفيلم على هذا النحو بين المعالجة الواقعية المحضة وبين الواقعية السحرية التي تكشف عن مكنونات الشخصيات، ويبقى الأبرز من الناحية الفنيّة القدرة على مُقاربة البيئة والمكان على صعيد الديكور الذي جاء مُطابقاً للواقع بكافة تفاصيله.
وتبقى المعضلة الرئيسية أن الفيلم، رغم تميّز العناصر الفنّية، يأتي خالياً من الدهشة ومُفتقراً للاجتهاد على صعيد استخدام العناصر السينمائية المُختلفة، انطلاقاً من السيناريو المُتكئ على موضوعة أُعيدَ تكرارها مراراً حتى فَقَدَت بريقها، مروراً بحركة الكاميرا وزوايا التصوير والتقطيع والمونتاج، وانتهاءً بالمضمون الذي جاء مُتقاطعاً مع أفلام سوريّة سبق وأن تمَّ إنتاجها في الخارج مثل “قماشتي المُفضّلة” لناحية الانتصار لشخصيات نسائية تعيش في الحرب، أو فيلم “السلام عبر الشوكولاته” الذي يُقدّم بدوره معالجة إنسانية لشخصيات تعيش اللجوء.
وبهذا المعنى يأتي الفيلم بوصفه مزيجاً يفتقر للأصالة ويسعى لتكرار تجارب ثَبُتَ نجاحها في المهرجانات العالمية ليُعيَد إلينا التساؤل القديم حول جدلية العلاقة بين الجودة والموضوع فهل تكفل أهمية الموضوع دوماً تحقيق التميّز؟