نابوليون، القصة التي لم تروَ

 كان بإمكاننا التغاضي بسرور عن الفارق بين عمر خواكين فينيكس (47 سنة) وعمر نابوليون بونابرت في بداية أحداث الفيلم (كان في الرابعة والعشرين من عمره عند فك حصار طولون)، كما أمكن التغاضي كذلك عن الالتزام بالدقة التاريخية لصالح الحبكة الدرامية، فقط لو أن هناك حبكة درامية من أي نوع!

إلا أن السيناريو اختار أن يقدم نابوليون شاهدًا على إعدام ماري أنطوانيت، وهو ما لم يحدث في الحقيقة، بتفاصيله الوحشية المقززة لإظهار السمات العامة لذلك العصر؛ عصر الإرهاب.

لقد وقف هناك متأملًا نهاية الملكية، بأعين ميتة وملامح جامدة ستستمر معنا أغلب الوقت، ليجعلنا نفكر بالضرورة: ما الذي يدور في رأسه الآن؟ لكننا، حتى نهاية الفيلم، لا نعرف فعلًا بل علينا أن نخمن دائمًا من القليل الذي نراه.

لا يبدي فينيكس انفعالًا محسوسًا إلا في مناسبتين أو ثلاث. مثلًا، عند الهجوم على حصن طولون في انتصاره الأول، يبدو كأنه تحت سطوة نوبة أدرينالية مبررة بالطبع، ويزيد تلطخ وجهه بالدماء من أثرها. بعدها لا يبدو عليه سوى الإصابة بالملل فحسب. بل إنه يكاد يغلبه النعاس في حوار جوهري بينه وبين أحد أعضاء حكومة المديرين وهو يدعوه إلى اتفاق سيغير مصيره حرفيًا.

لا إرهاصات للطموح، اشتهاء السلطة أو المجد، أو حتى الغرور. الفرص تلقى في حجره وهو يتقبلها فحسب. هذه البلادة إزاء المؤامرات السياسية في عصر المقصلة يمكن تقبلها بالكاد، لكنها غير مبررة بالمرة إزاء العلاقة “العاطفية” الوحيدة التي ستطبع ما تبقى من حياته وتؤثر على اختياراته جذريًا.

لقد شاهدت أغرب تناول ممكن لقصة حب عاصف معروفة تاريخيًا، يتمثل في تحديقهما الصامت في بعضهما للحظات طويلة والتفوه بأقل عدد من الكلمات السطحية التي لا تعني شيئًا.

لم ينقذ تلك المشاهد من النسيان سوى الحضور المؤثر لفانيسا كربي. هل أحبته على الإطلاق؟ لماذا ظل يراسلها كلما ابتعد عنها حتى بعد الطلاق؟ لماذا تسامح مع خيانتها ولماذا خانته بسهولة؟ هل كان حبًا أم هوسًا جنسيًا؟ لم يكترث ديفيد سكاربا كاتب السيناريو ويقدم إجابة على أيٍ مما سبق. ويجب الإشارة هنا إلى تصريح هام من مخرج الفيلم، ريدلي سكوت قال فيه إن السيناريو قد عُدِّل ليلائم خواكين فينيكس حتى “يشعره بالراحة”. ولا تعليق هنا.

كانت مشاهد المعارك مبهرة كما يؤمل، والتفاصيل التاريخية المتعلقة بالملابس والديكور مثالية التنفيذ، والموسيقى التصويرية والأغاني المنتقاة رائعة وفي موضعها الملائم. لكن كل التفاصيل الفنية بالغة الجودة لم تستخدم لتحكي أية قصة ولم تختر أي سياق. واحد من أشهر القادة العسكريين المعروفين بالكاريزما في التاريخ لم نر ما يشي بها بين الساسة أو الجنود، حتى يبرر المشهد قرب النهاية الذي ينحاز فيه الجنود إلى جانبه عند عودته من المنفى، منادين به إمبراطورًا ضد أوامر قادتهم ومخاطرين بحياتهم.

مشاهد ممتعة قليلة كان يمكن استغلالها والبناء عليها، كمشهد حضور نابوليون في مجلس الخمسمائة بعد قيامه بالانقلاب على المديرين وإجبارهم على الاستقالة، إذ هاجموه كخائن وكادوا يفتكوا به، وسقط هو أرضًا بينما يهرب منهم مرتعبًا كطفل. ثم ينقلب الوضع بعد وصوله إلى جنوده المسلحين خارجًا وعودته في حراستهم إلى الداخل، آنذاك يستعيد جأشه والأسلحة موجهة إلى صدور معارضيه، ليقول باختصار ساخرًا من الثورة والديموقراطية معًا: هل نصوت الآن؟

المشهد الآخر جرى في مصر، حيث أتوا له بمومياء فرعونية تقف منتصبة داخل تابوتها. يحاول مطاولة الملك الميت لكنه لا يصل إلى رأسه لقصر قامته، فيأتي بصندوق ويقف عليه ليناهزه، المجد المندثِر يقابل المجد المنتَحَل. لا أدل على تلك الحقيقة من جلوسه على العرش القيصري المهجور في روسيا وقد تلطخ تمامًا بمخلفات الطيور، ليبدو كأحمق يقلد الملوك في مسرحية رخيصة.

يخبرنا صانعو الفيلم في النهاية أن حروب نابوليون تسببت في قتل ما يربو على الثلاثة ملايين إنسانًا، وأن كلماته الأخيرة كانت: فرنسا، الجيش، جوزفين. المؤسف أن هذه المعلومات لم تحظَ بتأسيس درامي من أي فئة في أكثر من ساعتين ونصف، وكان بوسعنا قراءتها على ويكيبيديا بالتأثير العاطفي نفسه دون زيادة أو نقصان.              

Visited 3 times, 1 visit(s) today