“مُنتصف الصيف”.. سينما الرعب في قالب فني
إذا شعرت بضيق، ودعاك صديقك الباحث لتذهب إلى السويد أو أيَّة دولة أخرى- لتريا سويَّا إحدى احتفالات الطوائف الدينيَّة فلا تذهب إلا بعد مشاهدة هذا الفيلم. “منتصف الصيف” أو Midsommar الذي بدأ عرضه في شهر يوليو. وهو فيلم قد يصيبك بالحيرة؛ لما يمتلك من تنوعات كثيرة في فصول الفيلم والأداء العامّ.
كاتب سيناريو الفيلم هو مخرجه آري آستر. وهو مخرج قام بإخراج أفلام رعب من قبل، وقد ألَّفها كما فعل في فيلمنا هذا. الفيلم من بطولة فلورنس بف، جاك رينور، ويليام جاكسون هاربر، وآخرين. ويندرج تحت تصنيف أفلام الرعب.
الفيلم يدور حول “داني” الفتاة التي باتت محطّمةً كل التحطيم؛ جرَّاء حادثة أودَتْ بحياة أبيها وأمِّها، وأختها. فصارت وحيدة من كل إنسان إلا “كريستيان” حبيبها؛ والذي يعمل على محاولة إيجاد مشروع بحثيّ خاصّ به. إلى أن يقرر “كريستيان” مع مجموعة من أصدقائه السفر إلى السويد، تلبيةً لدعوة من صديق لهم. غرض الزيارة هو إطلاعهم على طائفته الدينيَّة “هارغا” التي ينتمي لها، والتي تعيش في دوقيَّة “هالسينغلاند”. في عيد مميز في “السويد” -وكثير من الدول الأوربيَّة الشماليَّة- هو “عيد منتصف الصيف” -ومنه اسم الفيلم-. وتقرر “داني” الانضمام لهم رغبةً منها في تجاوز ما تمرّ به.
وفي السويد يكتشف الأصدقاء الغرابة الشديدة التي تمتاز بها عقائد وعادات تلك الطائفة، ويفزعون من ممارساتهم الشنيعة في مفارقة مع الطبيعة الساحرة التي يعيشون فيها، ولباسهم الأبيض الدائم. ثم تنتاب الجميعَ نوباتٌ من النفور، والغرابة، والشعور بالضياع. وعلى جانب آخر يبدأ “كريستيان” وصديق له في التنافس على اختيار حياة الطائفة موضوعًا لأطروحته الخاصّة. وفي ذلك الحين يبدأ أفراد الأصدقاء في الاختفاء واحدًا تلو الآخر. فما الذي يحدث في “هالسينغلاند”؟!
حقق الفيلم نجاحًا نقديًّا كبيرًا -بالنظر إلى أنه من الرعب-؛ حيث بلغ أكثر من 7/10 في موقع “IMDb“، و83% على “Rotten Tomatoes” ولعلّ هذا التصنيف المتقدم له أسباب تعلِّلُه. وهي أسباب قويَّة في نظر النقاد لكنْ على صعيد آخر أي الصعيد الجماهيريّ- قد يجد المشاهد هذا التقييم مُبالغًا فيه بعض الشيء. رغم أنّ الفيلم جمع أكثر من أربعين مليون دولار بتكاليف إنتاجيَّة بلغت تسعة ملايين دولار فقط. أيْ أنَّه أصاب نجاحًا جماهيريًّا أيضًا. وإذا سألنا: ما السبب في النجاح التجاري رغم ما في الفيلم من بعض العيوب؟ يكون الجواب في حملة الدعاية. فقد سُبق عرض الفيلم حملة دعائيَّة روَّجتْ له على خير حالٍ لتعِدَ المشاهدين بوجبة من الرعب قويَّة.
وهنا نأتي لبعض التعليلات التي تجعل الفيلم فيلمًا ناجحًا نقديًّا. والأخرى التي تصنع من الفيلم خيبة أمل قد تطالع البعض من المشاهدين. وسأبدأ بتعليلات الخيبة الأمل ثمَّ تعليلات النجاح.
خيبة الأمل
- التشتُّت في الأسلوب: وهذا واضح من طبيعة قصة الفيلم التي تدور في سياق “طائفة دينيَّة” غريبة العقائد، متشعبة التقاليد والممارسات. وهنا المخرج- المُؤلِّف، تشتت بين أسلوبَيْن في الإخراجـ بين الأسلوب الوثائقيّ الذي يهتمّ فيه بتصوير وتقديم كل عقائد وشعائر بل نفسيات هذه الطائفة، وبعض تاريخهما، وبين أسلوب الإثارة الذي يجب أن يصاحب هذه النوعيَّة من أفلام الرعب – وليس كل أنواع الرعب-. إنّك في كثير من الأحيان ستظنّ أنك تشاهد ما يُشبه فيلمًا وثائقيًّا عن طائفة غريبة من تلك التي تشاهدها في قنوات الوثائقيات. ومما عمَّق من هذا لجوء المخرج للعرض البطيء لحياة هذه الطائفة وما يدور فيها. مما أفقده الكثير من حيويَّة الإخراج الدراميّ -عمومًا. وفي النهاية وقع في رتابة التوثيق.
- البُطء العامّ في الإيقاع: حيث ستحمد للمخرج أنه لمْ يُطلْ مدة التعرُّف على شخصيات الأصدقاء إلى ما بعد الدقائق الخمسة والعشرين الأولى، كما أنّ هذا البُطء صاحب الفيلم في بقيَّة أجزائه حتى الرمق الأخير. وهذا ما فرضته الرغبة الأولى لدى المخرج في التصوير المتأنِّي للعالم الغريب الذي دخله أبطالنا. ولا شكّ أن بعضًا من السرعة اللازمة كانت ستساعد بقوة على إثراء تجربة الرعب في الفيلم.
- تسطُّح الأحداث التي تدور في السويد: حيث تمتاز كلُّ أحداث الفيلم، وخطوط الشخصيات في مراحل الفيلم على أرض الطائفة بالتسطُّح؛ فأنت تشعر كأنّ كل شخصيَّة في عالم وحدها مُفصومة العُرى عن بقيَّة الشخصيات. وهذا على غير مسار الأحداث، ومصائر الشخصيات التي تلجأ له دائمًا مثل هذه النوعيَّة من الأفلام. وهذا العنصر يتحمله المخرج في دوره التأليفيّ.
النجاح النقديّ
- فنيَّة الفيلم: حيث يشعر المشاهد والناقد بهذه الفنيَّة العالية التي يمتاز بها الفيلم. فحسُّه الفنيّ واضح كل الوضوح في كل عناصر التنفيذ. بل إنه كان حريصًا على إظهار الفنيَّة، وصنع كل مشاهده بفنيَّة عالية. ومنها مشاهد الرعب نفسها التي دائمًا ما يلجأ صانعوها إلى عنصر التحفيز النفسيّ للمشاهد؛ لضمان مزيد من الرعب والصراخ نراه يلجأ إلى ما يمكن تسميته ب ـ”لوحات الرعب”.
حرص المخرج على صنع لوحات من الرعب، الفارق الوحيد بينها وبين لوحات الرسامين أنها لوحات متحركة. هناك مثلا مشهد الصراخ الجماعيّ للبنات مع البطلة في موقع النوم، ومشهد الهياج الجماعيّ في آخر الفيلم أمام الحريق، ومشهد الحريق نفسه، ومشهد حادث الأب والأم والابنة في أول الفيلم. كلها لوحات تمتاز بالفنيَّة العالية والرفيعة التي أدت إلى تقييم نقديّ مُماثل.
- الامتياز العالي في استخدام الكاميرا: برع المخرج -ومدير التصوير- في إخراج مشاهد عالية الجودة والاحترافيَّة في استخدام الكاميرا. وهنا استخدام الكاميرا ليس للتصوير، بل للتأثير. فهي في هذا الفيلم أهم عنصر من عناصر التأثير البصريّ، والتأثير العامّ طوال الفيلم. خاصَّةً بعد نصف الساعة الأول من الفيلم. وقد استخدمها في التأثير مستغلاً أمريْن:
- حركة الكاميرا المتعددة التي استطاع ببراعة التنويع منها على حسب المشاهد.
- إمكانيات الكاميرا نفسها، مثل استخدامه البُعد البُؤريّ في التأثير لنقل المشاعر، أو للفت النظر إلى أشياء متعددة.
وستسعد بعدد كبير من المشاهد مثل مشهد سيارة الأصدقاء وهم ذاهبون إلى الطائفة على الطريق السريع، وغيرها على أرض الطائفة الكثير.
من الجيد أن تُطرح أفلام رعب ذات قيمة، أو أفلام رعب تخرج من عباءة الاهتراء والتكرار التي اتصفت به أفلام الرعب في السنوات الأخيرة. وهذا الأمر يُحسب لصانع الفيلم، الذي اختار أن يقدّم رعبًا مختلفًا، رعبًا فنيا.